عبد الهادي الفحيلي
لأحلامك أجنحة. تحلق بعيدا وترفع في وجهك أصبعها الوسطى وتقهقه. تسبقها إلى الفراش، إلى سرير انبعج من كثرة ما سجيت عليه جسدك المتآكل. تغلق عينيك وتغطي رأسك. صرت تكره الأحلام والسرير وكل شيء. كانت ترسم لك غدا مطرزا بالورود. لم تتفتح تلك الورود. تنام مبكرا حتى لا تلتقي أباك وتسمع زعيقه وهو يلعنك ويلعن هذا الجيل الذي لا ينفع ولا يضر مثل حليب الأتان. تلازم الفراش إلى وقت متأخر حتى تطمئن إلى مغادرته للبيت. تنظر إلى المرآة ولا تبتسم. وجهك الأصفر الذي هرب لحمه. شعرك الأشعث ولحيتك الكثة. تصرخ أمك في وجهك: “احلق تلك الغابة!”. تعطيك دراهم معدودات. لا تحلق شيئا. تدخن أربع سجائر وتوفر ما تبقى لسجائر أخريات. تتدحرج أيامك فارغة. باردة. تتسع من حولك وتحيلك إلى نقطة سوداء دقيقة لا ترى بالعين المجردة.
تدخل المسجد الصغير الموجود في نهاية الزقاق. لم تكن تنتبه إليه في السابق. تنتبذ مكانا قصيا. تصلي بضع ركعات وتتربع على الحصير تستجدي شيئا معلقا في السماء. تطرد من رأسك ماتبقى من كلام كان يفتح لك أبواب جنان الأرض. أمك تقول لك: “ادع الله ليفتح أمامك أبواب الرزق”. دعوته في سرك وعلانيتك. لم تنفتح أمامك ولو كوة صغيرة! صرت تردد: “لماذا يا الله؟ امنحني فقط مبلغا صغيرا من المال وامرأة!”. ترفع رأسك نحو السماء وتقبل أطراف أصابعك العشرة وتضع يديك على صدرك وتتمتم. يقول الفقيه إن الله يحب العبد الملحاح. تدعو وتلِحّ. تخبر نفسك أن الله كبير ومن المستحيل ألا يسمعك. تخرج من المسجد وتهيم على وجهك. تبحث عن الأبواب التي ستنفتح كما تقول أمك.
كنت لا تعرف لله مكانا. حتى عندما تسلمت من الجامعة تلك الورقة التي تثبت أنك كنت حالما ساذجا وأنت تملأ رأسك بالنظريات وبالأسماء وبالكلام الكبير، لم تشكره. شكرَتْه أمك وزغردت ورقصت. رقصت جاراتكم وزغردن وأكلن. مر عام ولم تطرق بابه. طرقت أبواب الحكومة. لم تنفتح. مر عامان. أربعة. عشرة. صغر الكلام في رأسك. حل محله كلام أمك: “الله كبير”. الآن صرت تعرف أنه موجود في السماء. يتوارى.
تجلس في نفس المكان من الحديقة المهجورة على مقعد خشبي متهالك. تدخن نصف سيجارة بائتة بعيدا عن عيون ستتسع دهشة وحيرة. كيف لك أن تدخن؟ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له! تفلي أيامك باحثا عن ذكريات من زمن ولى. عن ظل امرأة كانت تبتسم لك. في ركن من مقصف الكلية تجلسان. تبتسم وتحكي لك تفاصيل حياتها في بيت سعيد. عن أرتال المعجبين بجمالها وبجاذبيتها. تطلق شعرها ورائحتها وضحكاتها وحكايتها في وجهك ثم تذهب. تأتي في يوم آخر. تضحك وتحكي. وعندما ذهبَتْ آخر مرة تركتك تتمرغ في رغبتك القاتلة في ضمها وتقبيل فمها اللذيذ وتخليل شعرها المنساب على كتفيها مثل جدول أسود. لم تكن تحكي لها شيئا، كنت تستمع وتبتسم وتحترق. مرة أعطيتها ورقة كتبت فيها بعض الشعر ولم تقل شيئا. أخذتْها منك مندهشة ومرّرَت عينيها على السطور مبتسمة وقالت: “شكرا”. طوتها ووضعتها في ستيانها. فرحْتَ وقلت في نفسك: “على الأقل وضعت كلماتي على صدرها”. في اليوم الموالي لم تخُض في موضوع الورقة. كنت تنتظر أن تضمك وتقبلك. لم تسألها. غرقْتَ في صمت عميق إلى أن ودعتك وتتبعتها بناظريك متحسرا. ذهَبَت عندما لملمْتَ عزيمتَك المشتتة. كتبت لها عن حريقك. هي لم تكن تكتب. كانت تحكي. الآن تعض على شفتك السفلى متألما. يتَفلّت جسدها من ذاكرتك المثقوبة. عندما تنفرد إلى نفسك في الظلام، تأخذها من تلافيف رأسك الغارق في الفراغ، تنفض عنها الغبار وتعريها. تلهثان. تتلاشيان. تعيدها إلى مكانها في الذاكرة وتنام سعيدا. أنت سعيد فقط في الظلام، وعندما يطلع نهارك تعود سيرتك الأولى ويعبس وجهك.
تلعنُ من قال: “العمل هو المفتاح الأساسي لكل نجاح”. كان شاعرا. الوغد! من المؤكد أنه كان يعمل وإلا ما قال ذلك. أنت لا تعمل فكيف ستنجح؟!
أبوك يصرخ دائما في وجهك: “ابحث عن عمل. حتى الحمار يعمل”. وأنت لست حمارا حتى تعمل. تقهقه في داخلك. ربما لو صرتَ حمارا لوجدتَ عملا. لوجدتَ أتانا تلد لك حميرا. كل ما يدب على الأرض على الله رزقه. قال الفقيه ذلك. أنت تدب على الأرض فأين رزقك؟ ورزق الفقيه من يتكفل به؟ هل الله أم الآخرون؟ يلبس ثيابا بيضاء ناصعة وكرشه مملوءة بالطعام ووجهه متورد. يتشجأ دائما. يعد الناس بأجساد لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يفتح لهم أبواب جنات تجري من تحتها أنهار خمر وعسل إن صدَقوا. يضيف رأسك:” تجري من تحتها أنهار تبغ جيد أيضا!”. تضحك.
تبصر نملة تجري حاملة شيئا دقيقا لا تستطيع تمييزه. جزء من ورقة سقطت عن شجرة، أو جزء من حبة قمح أو ما شابهها. تبصر نملات أخريات تحمل ما تحمل. تتعجب من همتها ونظامها. تسير في خط واحد حتى تختفي. رأسك فارغ مثل كيس دقيق مهمل. عيناك منطفئتان. تجري النملات غير عابئات بك وبنظراتك. تتبعها وقد اشتعل فضولك محاذرا إزعاجها. تتوقف نملة وتنظر إليك وتتفوه بكلمة لا تفهم معناها. أنت لست سليمان الحكيم لتفهمها. لماذا سموه الحكيم؟ ألأنه عُلّم منطق النمل؟ أوتي سليمان نبوة وملكا لم يوته الله أحدا قبله ولا بعده. قال الفقيه ذلك. أنت لم تتعلم منطقه لأنك لا تنحدر من سلالة الملوك ولا الأنبياء. لو كنت ملكا ما انتظرت من أمك أن تعطيك النقود. تغمض عينيك وتضع على رأسك تاجا. تلبس ثيابا من الذهب والحرير النفيس ويسجد لك الكل. يسجد لك الوزراء والمستشارون. تعرف أنهم لا يحبونك. يخشونك فقط. يخشون غضبك وبطشك. يطمعون في أموالك. يتقرب الكل إليك. تخرج في حاشيتك وعسكرك المدججين بالأسلحة فيصدح الشعب باسمك. يهتفون بحياتك ومجدك. لا ينتظرون شيئا منك. تغرق في النعيم وفي النساء. آه من النساء!!.. يعيشون كالجرذان ومع ذلك يرفعون أصواتهم ويلوحون بأياديهم لتحيتك وأنت تنظر إليهم من فوق أنفك بغرور وتبتسم في مكر. الرعاع! أنت لست ملكا ولن تكون. تضحك. تعود إلى النملة التي تقف قبالتك نافخة صدرها وتنظر إليك متحدية. تخاف منها وتطأطئ رأسك. تذهلك النظرة الغضبى في عينيها. أإلى هذا الحد صرت ضعيفا؟ تخاف من نملة؟ مجرد نملة تملك أن تدوسها في ثانية وتمحو “ذيل أمها” من الوجود؟ لو كنتَ نملة لقدرت أن تتحدى الملك. سليمان كان ملكا ونبيا ورغم ذلك تحدته نملة حقيرة. ليست حقيرة. كانت تسبح الله كثيرا. قال الفقيه ذلك. ترى من تحدّتِ النملةُ: الملك أم النبي؟ تحدته نملة لكن بلقيس الجميلة لم تتحده. أتته طائعة عاشقة. أي بلقيس تأتيك أنت؟ لم تأتك حتى مثلثة الرأس معمشة العينين التي ذاق منها كل ذكور الزقاق إلا أنت. ستأتيك بلقيس هناك. فوق. بلقيس التي لا تشبهها جميع بلقيسات الدنيا. الفقيه لن تأتيه لا بلقيس ولا غيرها ممن لم يمسسهن إنس ولا جان. من الظلم أن تأتيه وهو الذي ذاق ما ذاق من ساكنات الزقاق والزقاقات الأخرى. قال ذلك مرة. قال إن من يذوق من نساء الأرض لن يذوق من نساء الجنة.
تستأنف النملة طريقها وتلتحق بأخواتها. تتبعها. تود لو كنت نملة. تصير عاملا لا تعرف الكسل. تدخل النملات ثقبا صغيرا في الأرض. تتلكأ النملة وتلتفت إليك فتتوقفُ. تعود أدراجك كأنما طردتك.
تدخل البيت متسللا. تحاذر أن يراك أبوك. تأكل على عجل ما وضعته أمك على المائدة وسط غرفتك الصغيرة في سطح الدار. تتذكر أنك لم تصلِّ المغرب والعشاء. تركع وتسجد وتقرأ الآيات كأنما تلاحقك الدبابات. تسلم وتتمدد على سريرك البئيس. تتذكر أنك صليت بدون وضوء. تنفجر ضاحكا وتغمض عينيك ورأسك. تنام مثل كلب. عين مغلقة والأخرى تبحث عن جسد صاحبتك. تقضي حاجتك منها وترجعها إلى رأسك الأشعث فيأتيك النوم راكبا حصانا أبيض. تتبعُ النملة. تسبقك إلى الثقب الصغير. تدخل وتبقى أنت خارجه منتظرا. ينفتح الثقب ويتسع. يصير بحجمك أو أكبر. تقترب أكثر. تبصر سلما بدرجات مرصوصة كأنما هُيّئَت لنزولك إلى باطن الأرض. تتردد ثم تنزل متوجسا. تجد نفسك في ساحة كبيرة مضاءة. تجيل بصرك باحثا عن مصدر الضوء فلا تجد شيئا. ساحة مضاءة وكفى. ملايين النملات عاكفات على العمل بنشاط. تنقل زادها إلى إحدى الزوايا. ترى النملةَ صاحبتَك وسط الساحة تراقب سير العمل. تلتفت إليك بغتة. تترقرق عيناها بفرحة عارمة. تبتسم لها. تطلق ما يشبه صفيرا. يجتمع النمل حولها. تسمع صوتا خافتا وهمهمات. فجأة يلتفت النمل إليك وينطلق تجاهك. تتسمر في مكانك من الرعب. يفتح النمل أفواهه فتبصر أنيابا مشحوذة. تدرك أنك صرت وجبة دسمة لجيش عرمرم من النمل. قبل أن تحرك قدميك هاربا كان جسدك مغرزا لملايين الأنياب. تصرخ متألما. تهزك يد حانية وصوت دافئ: “باسم الله عليك!”. تفتح عينيك فزعا وتكشف عنك الغطاء فتصرخ أمك ملتاعة وهي تشير إلى جسدك. تنظر إلى حيث تشير. تفغر فاك مرعوبا. جسدك مثل تفاحة مقضومة. قطع كثيرة من اللحم مبتورة ولا قطرة دم تنز منك….