ما الذي نفعله؟ | لطيفة باقا
لطيفة باقا
عندما نرفع الأيدي ولا يسقط الظل
عندما لا يقرع الباب
ولا يمر أحد تحت النافذة
عندما لا نسمع صوت الأرضة في الخزائن
ولا عويل الحب في الغرف المجاورة،
عندما نهرع إلى الأدراج
ولا نجد صور العائلة،
عندما نبحث عن مسدس، أو مدية أو أنشوطة،
ولا نجد سوى كلس الجدران
يتشقق في صمت مطبق،
عندما نبحث عن أسمائنا ولا نتذكرها
عندما يا إلهي يحدث كل هذا
في الليل، أو في علبة محكمة الإغلاق،
ما الذي نفعله؟
أمجد ناصر
هل أحكي لك حكاية اليوم؟ حكاية كل يوم …
رغبة الحكي الجامحة تظل ناشفة في حلقي والساعة تجر عقربها الطويل نحو التاسعة لتعلن الواحدة إلا ربع ليلا. خرجت المرأة التي كانت قبل قليل هنا، هي والرجل الذي كان قبل قليل هنا.. يسوقان “خليل” وسط صراخه الحاد رأيت الباب المقابل ينفتح ويطل رأس الجارة وزوجها الذي جلدها أول أمس.. شاهدت فضولا في عينيهما، فكرت أن أعتذر (لماذا ينبغي دائما أن نعتذر؟) دخلت وأغلقت الباب خلفي..
ولأرتب الآن فوضاي داخل هذا السكون الذي حل بالغرفة فجأة. كان ابن المرأة يتألم.. رأيت أثر الصفعة على خده الأيمن.. لوح خليل بصندلته في الهواء.. سقط الكأس أرضا، دفع المرأة بعنف إلى الخلف.. صرخ أفتح الباب وأظل واقفة.
هل أحكي دائما؟
سأتسلى قليلا بالتفكير في مشروعية ما أفعل.. أنت.. هل لك حق ومشروعية الاستماع / القراءة . أعتقد أنه أحرى بي أن أفكر في جدوى كل هذا..
ماذا يبقى لدينا حينما تنكشف قواعد اللعبة.. هذه اللعبة البائسة حتى العبث؟
أتخيلك (يناسبني في هذه الأثناء أن أحاول ذلك مجددا) غارقا في غيابك الاختياري، أستطيع أن أدرك كم أصبحنا غرباء.. لكن رغبة الكتابة تلح وتعلمني أن أراوغ هذا الإحساس بلا هوادة.. (أتوقف هنا، يصل إلى سمعي صوت المرأة من الخارج).
أقف في النافذة. تعاونوا جميعا وأخذوه، يبدو أنهما صادفا شخصا آخر.. الرجل أوقف تاكسي، أرى أشباحهم جميعا وهم يستندون خليل ويتقدمون به نحو سيارة الأجرة. يصل إلى أذني صوت مذياع “العساس” أدير رأسي أبحث عنه بين أشباح السيارات.. يقول جارنا أن هذا الحارس ليس سوى مخبر متنكر.. صوت “ميكري” يردد أن ليله طويل ما عنده نهاية.. تهب ريح بادرة، منعشة، أفكر أن صوت ميكري يتسرب كضوء صغير وسط العتمة.. لليل سحره.. وهذيانه أيضا.. أين يا ترى جرك هذيانك هذه الليلة؟
ربما اليوم احتجزوه. سيجدون هناك طبيب الحراسة. ستحكي له المرأة ما حدث كالعادة وسترجوه وتتوسل إليه وربما استحلفته بأمه كما تفعل غالبا في مثل هذه المواقف.. وسيكون طبيب الليلة أكثر إنسانية من الآخرين.. وقد “يقبل” أخيرا ويحتفظ في المستشفى بهذا الفتى الذي يكسر كل شيء حوله بما في ذلك آخر ما بقي لدينا من قدرة على الاحتمال..
ماذا كنا نقول.. آه كنت أخبرك أنني أدرك وضعنا الحالي جيدا.. غرباء وهل كنا غير ذلك قبل الآن؟ حتى في أقصى حالات “الحلول” كنت أحسك غير تام.. أتدري.. طول مدة حكايتنا تلك الجميلة كنت أنتظر.. أنتظر ذلك اليوم الذي تقرر فيه أن تندلق أمامي كاملا لأراك أخيرا.. أحسك، كنت دائما تحتفظ بقسط منك “خارجنا” أما كان ممكنا أن تكوني كما كنتك؟ هل يمكن فعلا أن يحصل شيء كهذا بين كائنين بشريين في مكان ما من هذا العالم؟ ورغم كل شيء تظل العلاقة التي تربط بنات حواء بأبناء آدم أكثر العلاقات سحرا وفتنة وأشدها غموضا ومثارا للتساؤل..
كان حلمي مستحيلا.. ولم أكتشف ذلك في وقته، لكن توقف معي قليلا عند هذه السطور “أنظر عميقا، عميقا جدا في هذا المكان السري للأنا حيث لا ينفذ أحد. لا أحد يستطيع اكتشافها، النفاذ إليها لأنه لا أحد يشبهني لأنه لا أحد يفهم أحدا . وأنت هل تفهمني. على الأقل في هذه اللحظة؟ لا. بالتأكيد تقول إنه أحمق! إنك تختبرني وتتحفظ مني! تتساءل: “ترى ماذا أصابه هذا المساء؟ ولكن إذا ما توصلت أن تدرك يوما أو تخمن ألمي الرهيب والدفين فتعال إلي وقل لي، لقد فهمتك! وستجعلني سعيدا لثانية واحدة، ربما(*)” هل كنت ضروريا؟ كم تجرني الأسئلة بعيدا، أنا التي أحاول أن أظل ما أمكن قريبة مما حدث، من حكاياتنا.. أن أعيد الشريط ثانية كما تفعل كل أنثى (تكتب بدم حيضها ستقول!).. أن أكرهك وأحتقرك أن أندم بلا حدود.. بلا مبررات أيضا أن أدفع الشمس بعيدا عني كي لا أغتر بحرارتها ثانية … أن … أن … الخ.، وأنا في الحافلة المكتظة تقلني إلى مرقدي سمعت أحدهم – ولم ألتفت لأرى وجهه – يقول إننا جميعا ضحايا معنى الحياة … كنت إذن – معناي.. هل أنا الآن بلا معنى؟ هزتني الحافلة بعنف … شددت بهلع ظاهر عمود الحافلة..
أعود إلى أول السطر (ألا تزال صامتا تنتظر صياغة أوضح للحكاية؟)
خليل آه يا خليل!…
التقيته في ساحة الثانوية أسفل عمود النور، قدمني لأصدقائه.
– أختي الصغرى ترسم وتحب الكتب التي لا تفهمها.
كنت قادمة من صفوف القسم الابتدائي إلى القسم الإعدادي بضفيرتين وعالم كامل من الأحلام.
هو أيضا ذلك الذي كان يلتقط يدي كل صباح أو يحيط كتفي بذراعه ونحن في طريق الثانوية. كان في السنة الخامسة وكنت في الأولى وعندما أحببت لأول مرة كان أحد أصدقائه، لماذا؟ قال لي يوما:
– أتدرين أحيانا أتمنى لو أنك لم تكوني أختي!
كنا نمضي أوقاتا جميلة نحلم… يحدثني عن معهد الفنون الجميلة وعن الحياة البوهيمية التي تنتظره كنت أخفي نتائجه الدراسية في محفظتي وأساعده في تزويرها ليوقع عليها أبي، أبي هذا الذي كان يريد أن “يخرج” منه شخصا عظيما.
– أنجينيور ديطا… وعلاش لا؟ أبناء الفقراء أيضا لهم الحق في أن يصبحوا كذلك …
وأعرب خليل عن قراره في دخول المعهد بتطوان.
قال أبي:
فنان؟ على آخر الزمن … يضع شرويطة اللور وشرويطة لقدام … لن أسمح بذلك أبدا … ويطلق شعر رأسه ولحيته. ويتيه بين الأزقة كمعتوه … هل جننت لأقبل هذا؟
هكذا يتصور أبي الفنانين، تصور لا يخلو من بوهيمية.. أليس كذلك؟
لكنه سافر.. لطم خلفه الباب وسافر..
كان التلفزيون يقدم مسلسله العربي الحزين حتى الغثيان عندما عاد خليل وكنت أنا التي فتحت الباب.
فتحت لخليل هذا الذي أخذوه قبل قليل.
وتلك كانت ليلة. كانت الفوضى قد حلت في نظامه… فوضى كاملة لم يحتملها “عقلنا”
في الصباح اختفى..
كنت أمتطي الدراجة النارية خلف ابن الجيران، كان الزمن ليلا وكنت صامتة لأبي أبي لم يكن قد مات بعد ولأننا كنا جميعا نسارع إلى إخفاء ألمنا بمجرد أن نشك في أن الآخرين قد يشفقون… جميعا.. وبسرية تامة كنا نغذي وهما يقول أنه سيعود. لأجل كل ذلك كنت أشد جاكتة ابن الجيران والقي بوجهي إلى الريح… وأصمت. كم كان عمري… ربما سبع عشرة سنة…
هل أستمر في اللعب بالمكعبات الحادة لهذه الحكاية؟
أجل وأذكره عندما عاد، لا أقول وجدناه، أنا – على الأقل – لم أجده بعد. ذاك الذي كان يقف أسفل عمود النور لم يعد بعد.. أتذكر فقط أنه سافر.. كان يرسل لي من حين لآخر رسائل متسخة بألوان وأقلام متعددة.. بها رسوم يحدثني فيها عن “فان غوخ” الذي قطع أذنه ليقدمها عربون حب لامرأة ما كانت لتستحقه.. وعن تلك المدينة حدثني أيضا عنها … عن “مريامة” أو “مامريا” كما كان يفضل أن يلقبها. كان يحب أغاني فريد الأطرش … كان رقيقا.. وأعتقد – صدقني – أنه لو لم يكن مضحكا في وسطنا تقبيل أيادي السيدات والآنسات لكان يقبلها (وكم كان سيكون ذلك مسليا فعلا!)
كانت تصلني منه رسائل يحدثني فيها عن “الكونسرفاتوار” الإسباني العتيق الذي اتخذ منه الطلبة مرسما، حتى أصبحت أعرف كل ركن في هذا المسرح: الخشبة، الستائر المخملية الزرقاء التي ينفر منها غبار أسود كثيف عند هزها، المصابيح العاطلة.. ثم الجداريات الكلاسيكية التي تسبح بالمكان في فتنة العصور الوسطى وتعود بالذاكرة إلى أمجاد التشكيل.. أكاد أتخيل الطلبة داخل البهو الضيق وبين المقاعد وسط قماشاتهم Les toiles.. وألوانهم، وأراها لم يكن يكترث إلى إلحاحي في رؤيتها. أو حتى معرفة أوصافها.. كان فقط يترك من حين لآخر شيئا منها يسقط بين السطور… لكني نجحت في تشكيل بورتري نهائي لها: بيضاء نحيفة كظل… شعر أسود ناعم، عينان ذكيتان وابتسامة ساحرة.
كانت هذه هي “ماريا” وكان خليل يحبها.
حديثه عنها كان دائما يبدو لي غريبا ومثيرا.. كان يترك الأفكار تنظم نفسها ينتقل في حديثه من الكونسرفاتوار إلى “ماريا” إلى ظروفه المادية.. هكذا بدون ربط. كانت تستهويني هذه الرسائل خاصة عندما يحدثني عن أصدقائه.. عن أحمد الأسود القادم من الدار البيضاء والذي كان يدمن بعد الألوان الحشيش والقيثارة. أتذكر كيف كان خليل يحكي ذكرياته مع أحمد أتساءل الآن.. لماذا كان لدي دائما هذا الإحساس الغريب بوجود علاقة خاصة وحميمة جدا بين أخي وأحمد؟؟
أعرف الآن أنني أستطيع أن أميزه بين كل المارة إن أنا صادفته في الشارع … أنا أعرف أحمد هذا..
ثم كان هناك إدريس.. بيضاوي أيضا.. يتقاسم مع خليل “النوالة” يدفعنا في إيجارها مائتي درهم كل شهر.. بدون ماء ولا كهرباء. نوالة من الطين والتبن منعزلة فوق الجبل… كانت أثمن ما يمكن أن يسددا إيجاره في تلك المدينة… بعد أن حرما من حق الإيواء في الداخلية التابعة للمعهد.
في رسائله كان يحكي لي كيف حولا منزلهما الفريد من نوعه إلى مرسم حقيقي.. كيف أثثاه بالألوان والكتب ودخان الحشيش الكثيف (هذا لم يقله في رسائله لكني أستطيع أن أتخيل!)
وصلنا إلى إدريس في رحلة بحثنا عن خليل أول ما أثار انتباهي هو طراز منزله الفرنسي والحديقة الصغيرة الجميلة التي تقود إلى الصوان… عندما رأيته فكرت للتو أنني كنت أتصوره أكثر وسامة… ولم أهتم للمسألة كثيرا. كان يدفئ جدران منزله الأبوي باللوحات الزرقاء. تركت أختي تدخل حديثا مع أمه وأخذت أسترق النظر إلى أثاثهم التقليدي الجميل وإلى اللوحات أمامي وخلفي.
كان هو صامتا. فكرت أنه لا يتحدث بسهولة.. يكتفي بالنظر إلى محدثه، يعطي الانطباع بأنه لا زال ينتظر وعليك أن تقول كل شيء (أتوقف هنا لآخذ قليلا من الماء أبل به حلقي).. يطرح أسئلة غريبة.. أنظر إلى أختي… أجد أنها لم تفهم شيئا.. يظل ينظر إلى. ينظر جوابا عن سؤال لم أفهمه.. بعينين هادئتين… أشعر أن لبسا ما يحدث داخل هذه الحلقة المعتوهة أختي – أمه – أنا – هو.. أضحك… أنظر إلى اندهاش الآخرين… انفجر بالضحك أكثر.. ثم اهدأ واعتذر!
قال لي قبل أن نهم بالانصراف:
– لقد حدثني خليل عنك..
كنت أفكر أن في عينيه شيئا كأنه الحقد أو التحدي.. شيء يدفعك للصمت والتردد..
– كنت أفكر أن في عينيه شيئا كأنه الحقد أو التحدي.. شيء يدفعك للصمت والتردد.
– أنت تستطيعين مساعدته.. أنا أعتقد ذلك! عندما انتهت الزيارة أحسست أن تواطؤا ما مر بيننا خلسة – وضعت يدي في يده… احتفظ بها قليلا.. ولأول مرة يتركني أرى ابتسامة رقيقة بددت كل التردد السابق..
سمعت صوت مريا عبر أسلاك الهاتف، كانت تقول أنهم لم تكن تعرف عنه الكثير وأن الطلبة لاحظوا تدهور حالته النفسية والصحية فتشاركوا في ثمن تذكرة الكار وأرسلوه.. وأن بعض حوائجه – ولوحاته لا تزال بالنوالة.. كنت أريد أن أسألها إن كانت متألمة لما حصل.. لكن المسألة كانت تتطلب إضافة درهم آخر.. أنهيت المكالمة.
في الليلة التي أعقبت اختفاءه مارست التفتيش في حقائبه (هذه اللذة التي يمكن أن تفهمها أنت) أخرجت قماشاته وأقلامه وفرشاته.. كانت هناك علبة سجائر فارغة وموسى حلاقة وأشياء أخرى… وفي القعر مع حثاتات من التبغ والخبز وجدت قصاصة صغيرة مكتوبة بقلم رصاص بهتت خطوطه من كثرة احتكاكها بالأشياء.. أسماء كثيرة، قائمة بالأسماء المذكورة وأمامه أخرى بالأسماء النسوية وأمام كل اسم توقيع.. ثم في الأسفل يعلن عن مشاركة ومسؤولية كل هؤلاء عن الإضراب الذي تم داخل المعهد احتجاجا على تجاوزات الإدارة في حق بعض الطلبة.. والوضعية الغذائية المتدنية “بالريسطو”.. اسم خليل كان على رأس القائمة وعرفت خط يده الجميل..
عاد خليل.. بحثنا عنه بين الجثث في مراكز الموتى. في المستشفيات عند الأصدقاء.. لكنه عندما عاد، عاد بمفرده..
كان خليل “مختفيا” بمستشفى الأمراض العقلية… أتدري كيف يحصل ذلك؟ لقد وجدوه أمام باب بناية البرلمان يطالب بمقابلة المسؤولين؟ لأمر مستعجل لا يحتمل التأخير..
هل تستطيع أنت أن تفعلها؟
احتجزوه أخيرا في المستشفى.. تقول المرأة أنه كان يصرخ في ردهات المستشفى:
– أنا مزاوك… أنا مزاوك…
أنا مزاوك…
* ) من قصة لغي دي موباسان تحت عنوان “وحدة”.
باقا لطيفة باقا ما الذي نفعله؟ 2017-01-23