دانا شوارب:
رحل الشاعر السوفييتي فلاديمير ماياكوفسكي في الرابع عشر من نيسان 1930، رحل تاركاً شوارع موسكو بلا ملامحه هائمة تبحث فيها عن الثورة، عن ليلي .. بلا شعره يصدح في كل أزقتها ومسارحها وقاعاتها ليشفي السكون فيها.
بالطبع فإن طبيعة المقال تحتم علينا سرداً لسيرة حياة الشاعر، لذا سأقدم الاعتذارات اللازمة من البداية، لأنني إن نويت أم لم أنوِ ذكر سيرته مفصلة، فذلك من ضرب المستحيلات! ماياكوفسكي، شاعر الثورة، أكبر من أن نسرد حياته في صفحتين أو عشرة! لذا سنتوقف في بعض المحطات المهمة في حياته، وبعضها الآخر الذي استوقفني، لنبحث عن ماياكوفسكي الثائر، العاشق، الشاعر.. ماياكوفسكي الإنسان!
ولد فلاديمير ماياكوفسكي في تموز من العام 1893 لعائلة ذات وضع اقتصادي غير ميسور، في بلدة “بغدادي” في جيورجيا، والتي كانت آنذاك منفىً للثوار، ومكتبة تنتشر على أرصفتها البيانات السياسية السرية.
قد يعود الفضل في أن يبصر هذا المبدع السوفيتي النور إلى شقيقته التي أتت بالشعر معها من موسكو في العام 1904. كانت تلك المرة الأولى التي يخترق فيها الشعر شخص ماياكوفسكي، فهو لم يكن يبلغ من العمر الثانية عشر بعد حين شرع بقراءة الكتب الثورية! وكانت زيارته الأولى للزنزانة الانفرادية حين كان في الصف الخامس!
“عندَ الشبيبة دروسٌ كثيرة
ندرسُ القواعدَ أغبياءَ وغبيّات
ها إنَّهم طردوني وقذفوا بي
من الصفِ الخامسِ إلى سجنِ موسكو”.
دافع ماياكوفسكي بشراسة عن شعره، الذي كان ينظر إليه في روسيا القيصرية على أنه تمرّد، أبيات دخيلة على المجتمع أنذاك .. ولا يوجد لدينا شهادة أفضل من تلك للقول بأن ماياكوفسكي كان بالفعل شاعراً ثوريّاً. قام شاعرنا بصياغة بيان مشترك مع صديقه المقرب ديفيد بورليوك بعنوان “صفعة للذوق العام”، مما تسبب في طردهما من مدرسة الفنون الجميلة، ودفعهما إلى تأسيس المدرسة “المستقبلية”. لنا أن نتخيل الاغتراب الذي عانى منه قلم الشاعر في تلك الفترة. لكنه لم يكن سبباً كافياً لانتزاع الثورة من قلبه!
“لو أن الشعر والثورة اجتمعا في رأسي”.
كانت حياته تتمحور حول الثورة، كان ماياكوفسكي عاشقاً لها؛ “اشتغلت في كل ما كان أمامي”، وفجر ذلك العشق مكنوناته الإبداعية! فكان الشعر، والمسرح وحتى الملصقات التحريضية! جاب الشاعر الشوارع والمصانع والمشاغل والقاعات، ألقى بشعره على مسامع الجميع! أبياته لم تكن حكراً على أحد، كذلك كانت دعواته للثورة، كان مخلصاً لها بكل جوارحه، فوهب نفسه من أجلها.
“هذهِ روحي أنا
مزقٌ من غمامةٍ منتوفة
في سماءٍ محترقة
على صليبٍ صدىءٍ لبرجِ الأجراس”.
لكن هل كانت الثورة هي الوحيدة التي استفزت الشعر بأن ينطلق رصاصاً من قلم ماياكوفسكي؟
عاشق ثائر!
“ليلي.. أحبيني”؛ في العام 1915 تعرف ماياكوفسكي إلى الزوجين بريك، ووقع في حب ليلي، بجنون عارم! كانت ليلي تسكن قصائده وكتبه ومسرحياته ومقالاته، بل في كل نواحي حياته! ليلي الرصاصة التي اخترقت رأس الشاعر في 1930 واحتكرت مكاناً واسعاً من رسالة وداعه.
لم تغب التناقضات عن شخصية فلاديمير ماياكوفسكي العاشق أيضاً، فقد أحب ليلي لحد الكره! ظهر ذلك جلياً في عدة قصائد، وكما يفعل أي شاعر مغرم بفتاة ليست له، يهاجمها، يكرهها! لقد دفعته ليلي إلى الاستنجاد برب لم يكن يشغل أي حيز من حياته في قصيدة “مزمار الفقرات”:
“علقني كمجرم جاعلاً من نهر المجرة مشنقة
افعل بي ما تشاء
إن شئت قطعني إرباً .. ولكن ..
امحق هذه اللعينة التي جعلتها حبيبتي”.
ومن ثم يناقض نفسه مجدداً ويطلق اعترافات صريحة بولعه بها:
“فإن نـُصِبتُ قيصراً سآمر الناس
أن يصكوا رسم وجهك على
شمس ذهب عملتي”.
لا يمكننا المرور سريعاً على وجود الزوجين بريك في حياة ماياكوفسكي، ذلك أنهما كانا ذات تأثير كبير عليه، لقد انتقل الثلاثة للعيش سوية في فترة معينة، وذلك ما يثير عدة تساؤلات حول جدية المشاعر التي تحملها ليلي لزوجها، أو لماياكوفسكي على حد سواء! هل كانت اللعوب التي استدرجت الشاعر للوقوع في حبها كيفما تشاء، متى ما تشاء؟
طرح تلك التساؤلات ليس بأهمية نتيجتها، فقد قاد هذا الحب شاعرنا المرهف إلى الهلاك! بالتأكيد أنه أحس بالنقص في شخصيته، ولربما أحس بالألم والشكوك! كيف تدير ليلي ظهرها لذلك الشاعر المغرم المشهور؟ شاعر الثورة! لا بد أن الجرح كان أكبر من كل القصائد الباكية، أو الغاضبة، كلها مجتمعة معاً! وهو ما خلق موجة الإحباط العارمة، الإحباط المدمر؛ لدى ماياكوفسكي.
” انتزعتِ قلبي
وببساطةٍ ذهبتِ لتلعبي به
كطفلةٍ تلعبُ بكرتها”.
لم تقتصر حياته العاطفية على ليلي بريك، فقد عرف الكثير من النساء، إلا أن تلك العلاقات كانت في أغلبها تتوج بالفشل؛ تاتيانا ياكوفليكا، التي هجرته لتتزوج بأحد النبلاء، وبولونسكايا، الممثلة التي كانت من أوائل من رأوا ماياكوفسكي غارقاً بدمائه.
قد يكون من السهل أن نعزي ذلك الفشل العاطفي في أغلب علاقاته إلى وجود امرأة واحدة يهديها كل الحب والقصائد، واحدة هي تلك التي أحبها! ليلي التي كانت أملاً في حياته، وانتزعته بوحشية، وغادرت تاركة الشاعر “بطلقة” في رأسه!
“وقدّمتِ شفتيك .. كم أنت فظة بهما
لامستهما وشعرت ببرود
كما لو أنني أقبل بشفاه ميتة أحجاراً باردة”.
الثورة والحب؛ أسباب انتحار ماياكوفسكي!
يختلف الحال من إنسان “عادي” وإنسان اختاره الأدب من حيث رؤية الواقع، فالأديب يخلق أحياناً -عبر الكتابة- عالم الكمال الخيالي ليعيش فيه، ينزوي وحده فيه، وفي اللحظة التي يضطر فيها لمواجهة العالم، إما أن يسقط القلم أو يتمرّد على كل ما يحيط به، فينفجر الإبداع!
«إلى الجميع ! أنا أموت، لا تتهموا أحداً. ودعكم من الأقاويل. كان الميت يكره ذلك كثيراً.
أماه، أختيّ، رفاقي ، سامحوني، ليست هذه وسيلة (لا أنصح أحداً بها)، لكن بما يخصني لم يكن لديّ حل آخر. ليلي ، أحبيني.
يا رفيقتي الحكومة، عائلتي ليلي بريك، وأمي، وأختاي، وفيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا. شكراً إذا جعلت حياتهن ممكنة.
أعطوا القصائد المبتدأة لآل بريك. سيتعرفون إلى أنفسهم فيها.
وكما يقولون: ” الحادثة باتت منتهية”.
تحطّم زورق الحب على الحياة الجارية.
أنا متخالص مع الحياة.
لا جدوى من استعراض الآلام والمصائب والإساءات المتبادلة.
كونوا سعداء!».
ف.م.
تتضارب الأقوال حول أسباب انتحار الشاعر السوفيتي الشاب، فلاديمير ماياكوفسكي، منها ما يصدّر بأنه انتحر بسبب إحباطه السياسي، ويمكننا بكل بساطة ضحد هذه الفكرة، فالثورة البلشفية كانت قد حققت عدة انتصارات، وكانت الدولة في أحد أفضل أحوالها في ذلك الوقت، وهذا لا ينفي وجود سلوكيات قد تكون مدعاة خلاف تمارس في سدة الحكم، إلّا أن هذا السبب الذي طالما استغلته القوى الإمبريالية للترويج لسبب انتحار الشاعر المبدع، بهدف إظهار روسيا السوفيتية بشكل سيء.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ماياكوفسكي طالما شعر بالقرب والانشداد إلى شخص لينين، وكان لوفاته أثراً بالغاً على حياة الشاعر، الأمر الذي يظهر من خلال رثاء قائد الثورة بقصيدة من ثلاثة آلاف بيت.
لربما اتخذ رحيل لينين بعداً شخصياً في حياة شاعر الثورة، مما يبعد أصابع الاتهام عن الثورة والوضع السياسي كدوافع قادت الشاعر الثلاثيني إلى الانتحار!
أما السبب الثاني، والذي أعتبره سبباً كافياً يدفع بالإنسان نحو الإحباط، هو الفشل العاطفي! كيف يكون ماياكوفسكي بلا “ليلي بريك”؟ لا يمكن ببساطة أن نتجاهل هذا السبب لمجرد أننا نتجنب أن ينعتنا البعض بالسذاجة! لا أرى ما هي القدرة الخفية الأخرى التي تسيّر حياتنا إن لم تكن متمثلة في الحب والعواطف. تماماً كما نظر ماياكوفسكي إلى الجانب الغيبي في الحياة!
لا يمكننا تسطيح فكرة الانتحار بالحديث عن دوافعها بتلك البساطة، لقد بحث علم النفس مطولاً في تلك الدوافع، وعندما نتحدث عن انتحار الأدباء فإننا بصدد الحديث عن حالة، العديد من الأدباء اختاروا إنهاء حياتهم، وكما أبدعوا في الأدب، فقد أبدعوا أيضاً في اختيار لحظة مغادرتهم الحياة!
لقد أطلق ماياكوفسكي طلقة في رأسه في 14 نيسان عام 1930، وهناك آخرين، منهم الروائي الأمريكي هيمنغواي، والشاعر الأردني تيسير السبول، والشاعر اللبناني خليل حاوي، والسوري عبد الباسط الصوفي؛ وغيرهم الكثيرين!
الدافع الذي يترأس قائمة أسباب انتحار المبدعين هو الإحباط، ومن ثم يأتي الاكتئاب والأمراض النفسية، لا أرى أنهما دافعين منفصلين، لأن الإحباط يؤدي إلى انعزال الفرد عن محيط مجتمعه، رفضه المطلق لأيٍّ من الأشخاص المقربين، سواء عائلة أو أصدقاء.
ماياكوفسكي لم يجد الخلاص سوى في ليلي، التي هجرته إلى أحضان آخر.
القرار الذي اتخذه ماياكوفسكي لا يمكن حصره في سبب أو اثنين، ففي هذا تسطيح لشخصه، هو قرار متعلق بشخصيته وتاريخه كاملاً، مجموعة من التراكمات والخيبات على مر تاريخ حياته تكللت بفقدان ليلي بريك.
لقد وجد الدارسون إشارات عدة لهذا القرار في قصائد ماياكوفسكي، ونخص بالذكر قصيدة “عن هذا”:
“نبسط اليد فقط
والرصاصة نافدة الصبر”.
“رصاصة… للجميع
سكين… للجميع
ودوري أنا؟ وأنا إذاً؟”.
عندما يتحول الإحباط إلى حالة تسيطر على الأديب، يعيش فيها، وتسكن شعره وكتبه ونظرته إلى الحياة، وحتى في حبه؛ فمن الطبيعي أن يعمى تماماً عن الواقع، وكأنه يضع غمامة على عينيه، ولأن واقعه يتعارض كلياً مع العالم الذي صنعه في أدبه وكتاباته، فالخيار يكون الاستسلام والانتحار!
“لديَّ كلُّ الوقت
وبروقُ البرقيات لن تأتي لتقض مضجعك
كما يقولون
الحادثة باتت منتهية
وزورق الحب تحطم على الحياة اليومية
نحن متخالصون معكِ
لا جدوى من استعراض الآلام والمصائب والاساءت المتبادلة”.
قد يكون من الصعب النظر إلى انتحار ماياكوفسكي دون النظر إلى العوامل الذاتية والموضوعية لذلك، الأدباء والشعراء ينقسمون إلى قسمين، منهم الحالمون الذين يغيرون واقعهم في رواياتهم وشعرهم، ويعيشون هناك، ومنهم من ينقل الواقع إلى القارئ بحذافيره دون تغيير، وهؤلاء يعيشون هناك أيضاً.
هل ثمّة أمل بماياكوفسكي جديد؟ بتولستوي جديد؟
لقد تغوّل النظام الرأسمالي فينا، فلم نعد قادرين على إنتاج الأدب والشعر، لكأن الإبداع يرتبط بعاملين لا ثالث لهما، الثورة والبؤس، وهما ما منعنا منهما هذا النظام الاقتصادي العالمي، باستلابنا له واغترابنا عنه!