يتميز أمين معلوف بقدرته الرائعة على الجمع بين حكمة الشرق وتقنية الغرب ، وبعد أن تنتهي من قراءة روايته “ليون الإفريقي” والتمعن فيها ، تشعر بأنه استخدم كالسينمائي البارع عدستين بمهارة فائقة : عين الطائر والعدسة المقربة ….فهو قادر على رؤية الأحداث ضمن شمولية تاريخية قدرية ، وقادر على تمييز أدق التفاصيل ببهجتها وبشاعتها.
إن قارئ هذه الرواية ودونما وعي منه يجد نفسه مشدودا إلى أحداثها بحبل من الحنين الآسر ، ومعجبا ببطلها حتى لكأن كل الشخوص تتلاشى بجانبه ، يتضاءل الملوك والأباطرة ويذوب رجال الدين والسياسة في حضرة هذه الشخصية الفذة ، وأنت تتلمس خيوط الرواية يأخذك معلوف معه إلى غرناطة مسقط رأس الوزان ، ليبعث فيك مشاعر الانكسار والأسى وأنت ترى أخر المسلمين يهجر قسرا من اسبانيا فيسقط الهلال الذي طالما علا هنالك ، ثم إلى فاس حيث تشهد أحط مظاهر الانحطاط وأخسها ، كيف لا والذين أنهكتهم محاكم التفتيش يجدون من يتاجر بأوجاعهم في هذه المدينة التي يباع فيها كل شيء من الملح إلى الوطن ، فلا ترى إلا السوقة والعوام من يبكون أندلسهم المفقود ، وكلما سافرت مع هذا الرجل توضحت لديك الصورة أكثر فأكثر ، لتعرف تاريخ العامة لا تاريخ السادة والسلاطين ، فتشهد معه أحوال غرب إفريقيا وممالكها الإسلامية في اواخرالقرن الخامس عشر ميلادي ، ثم يأخذك إلى القاهرة في أحلك أوقاتها ، صراع الإخوة الأعداء : العثمانيون في صعود وورثة المماليك في أواخر أيام الحصاد كما يقول العامة أو قل مذبحة القاهرة سنة 1517م ، وفي كل مكان وفي كل زمان ستجد الأحكام جاهزة أمامك دون عناء ، ستعرف من كان خائنا ومن كان سفاحا ، من كان رجلا ومن لبس قناع الرجولة ولما صعد السلم قذف به بعيدا إلى البحر ، وفي غمرة تصاعد الأحداث سواء على المستوى الرواية كعمل فني ، أو على صعيد التاريخ تجد نفسك في قمة القمم : روما ، مدينة المجد الروماني القديم وعاصمة البابوية ، هناك يجد بطل الرواية نفسه دون إرادة منه ، هي الأقدار ساقته إليها ليصنع لنفسه مجدا آخر ، بعد رحلة اختطاف عسيرة يعتلي هذا الفارس صهوة المجد ، لقد عُمّد على يدي ليون العاشر بابا روما مابين سنتي ( 1513م و1521م) ، وأصبح ليون الإفريقي من أسرة أل ميديتشي الشهيرة ، وهناك في روما حيث كانت مصائر الناس تُصنع ، يجد نفسه ممن يصنعون تاريخ أوروبا وهو الذي لم يستطع حتى التفكير في تاريخ أهله وأمته ، فيشهد صراعات الكنيسة وشارلكان إمبراطور اسبانيا الطامح ، ويحاول عبر دبلوماسية الحلول الممكنة إنقاذ البابوية وآل ميديتشي ، ويجد نفسه في وضع غريب جدا : فهو يسمع بانتصارات السلطان سليمان القانوني في شرق أوروبا ، أيفرح بما يفعله أبناء أمته القديمة ؟ أم يأسى على حال أبناء دينه الجديد ؟ إنها المعادلة المستحيلة .