منذ أسبوعين تقريبا،صار الناس ينامون مفتوحي الأعين، يصيخون السمع باستمرار ليلا لالتقاط أي حركة غير عادية تأتيهم من كوخ الدجاج والبهائم ، الصغار كذلك لم يسلموا من العدوى. يستيقظون منزعجين خائفين من هول كوابيس تسلطت عليهم منذ تعاقب السرقات في الحي. كوابيس متشابهة من طفل إلى آخر. بعضهم يتبول في الفراش من شدة الخوف والبعض الآخر يرفض النوم في غير غرفة أبويه رغم كبر سنه.
نفس الكابوس يتمظهر للجميع . لص بقامة فارهة وشنب طويل يحمل عصا غليظة قابلة لكي تهوي على من يعترضها، يدخل إلى هذا الكوخ أو ذاك ليلا وينهب كل ما يجد أمامه.
يتم اكتشاف السرقات غالبا مع الفجر من طرف أول شخص يستفيق للصلاة أو للذهاب إلى المزارع . ينتشر الخبر بسرعة فيتجمع الرجال والنساء أمام مسرح الجريمة ليتبادل الجميع النظرات المريبة . أمر غير معتاد ،يصعب فهمه بسهولة.
تتناسل نفس الأسئلة: كيف يتم ذلك؟ وكم عدد اللصوص الذين يشاركون في العملية لتكون بتلك السرعة والدقة،دون إحداث ضجيج أو إثارة انتباه أحد؟ كيف استطاع الدجاج أن يكتم انزعاجه أمام غرباء وهو يطير إلى سقف الكوخ محدثا انفجارا ممزوجا بتطاير القش والصراخ والعلف بمجرد رؤية صاحبه المألوف فما عساك حين يلتقي وجها لوجه مع غريب أو دخيل؟ والأرانب،كيف يتم استخراجها من أنفاقها العميقة دون عناء؟
شرعت أبواب الخيال على مصراعيها وأضحى الجميع يبحر في تكهنات أبعد من الواقع بكثير، أجملها تلك التي حكاها 《قوبع》 كما كنا نسميه لخفته ربما،أو ربما لسهولة اصطياده ليكون مسخرة الجميع حين يدعي بمعرفة أمور لم نسمع بها من قبل ..لذلك كان رأيه في كل هذه الوقائع الدخيلة على الحي منسجما مع غرابته حيث أكد بقوة اليقين الذي لم يتيقن منه بأن الدواجن والبهائم كيفما كان نوعها يتم تخديرها بمجرد تلاوة بعض الطلاسم والتعاويذ التي يحفظ بعضها عن ظهر قلب وسبق له وأن جربها على ماعزهم بنفسه، وهي موجودة في كتب السحر والشعوذة ،فبالطريقة تلك يتحول حتى الديك الرومي -الذي يعتبر من أشرس الدواجن- إلى جثة هامدة لمجرد سماع التعاويذ والطلاسم.
كاد بعض العقلاء أن يأخذ ادعاءات 《قوبع》 مأخذ الجد، و بعضهم سخر من ذلك وأضاف بأن دجاج الحي لا تخدره سوى أغاني سلام الريفي وميلودة الحسيمة. لكن المحير في الأمر وهو أن الديك الرومي المشاغب والشرس الذي كانت تربيه الحاجة ثابغا- والذي كان يهاجم حتى الأطفال، ويسقطهم أرضا إذا اقتربوا منه، حتى استحق أن ينسب إلى سلالة النسور- تمكن اللصوص منه بسهولة، فبات يوما دون ان يصبح.وهو الذي كان الجبل يردد صدى تخبطه وعويله مرات عديدة في اليوم.
صبيحة هذا الاربعاء ،أصبح الجميع مستعدا لتقبل فرضية 《 قوبع 》 المعتوه بسهولة. تجمع الناس وهم في طريقهم إلى السوق الأسبوعي أمام خيمة 《المجدوب》 الكائنة بين أشجار الزيتون البعيدة عن دور السكنى ،وهو يتألم ويصرخ بأعلى صوته :
– حسبي الله ونعم الوكيل..سرقوا كل ما املك من الأرانب الأربعة التي كانت تنام بجانبي الى الكأس البلاستيكي الذي كنت أحتسي فيه شاي الصباح..لم أشعر بأي شيئ ،لم أسمع أي شيئ حتى استفقت لصلاة الفجر ولم أجد الدلو الذي استعمله للوضوء فتيقنت ان اللصوص قد مروا من هنا سامحهم الله.
تعالت اللعنات والسباب في حق هؤلاء ..وأجمع الحاضرون بأن الله مهلكهم لا محالة، ما داموا قد مسوا بالمجدوب التقي الورع الذي ما فتئ إمام الحي يشيد بورعه وتقواه كلما مر ورآه راكعا ساجدا حتى قال فيه يوما: دعوه وشأنه،إنه من أهل الله.
بعد أن كثرت أسئلة الناس حول اصله ومن أين جاء وكيف وصل إلى هنا.
المجدوب،رجل في الخمسين من عمره،حسن الوجه والخلقة،قصير القامة،مرتب الهندام نظيفه،لن تراه الا ساجدا او مهللا بحمد الله ،يلازم استعمال السواك وتنظيف اسنانه بعود العرقسوس .يرتب لحيته على شاكلة دعاة القنوات التلفزية حتى يخال إليك أن احدهم يربع في هذه الخيمة ،لذلك ظل لأسابيعه الأولي محط تساؤل الرجال والنساء،كيف حل بهذا المكان شخص مثله ومن أين جاء؟ أيكون أحد الوشاة والمخبرين الذين تبعثهم الدولة هنا وهناك لاستجلاء الأمور ورفع التقارير؟ وهل يحتاج المخزن لمثله مع كثرتهم هنا واستعدادهم للوشاية حتى بأبيهم إن زاغ عن الطريق. لكنهم كفوا عن السؤال حين نبههم إمام المسجد بأن لكل زمان شخص من أهل الله، متصوف زاهد في الدنيا وقد يكون هذا هو رجل زماننا…وكانت هذه الشهادة كافية لان تقيه إزعاج الأسئلة بل وأن تكون سببا في إغداق العطاء عليه وإكرامه يوميا بكل مالذ وطاب من الأطعمة. لذلك لم تكن هذه السرقة التي أصابته لتؤثر عليه كثيرا ،فقد طمأنه الجميع بانهم سيعوضونه كل مفقوداته في اليوم نفسه الشي الذي جعل كل مار به يسمعه يردد:
لكم الخير يا أهل لخير.
لكم الخير يا أهل الخير. وقد تم تعويضه بأضعاف مضاعفة مما فقد إذ بمجرد عودة الجميع من السوق لم يمر به أيا كان إلا ووضع أمام خيمته كيسا بداخله شيئا ما،تعمد إلا يفتحه في التو، بل كان يكتفي فقط بمقولته
لكم الخير يا اهل الخير.
مرت بعض الأيام وكثر اللغط عن السرقات،وانتهى بعض شباب الحي إلى حل يتطلب السرية التامة وبعض الوقت. أربعة منهم يتربصون الليل بالكامل ،كل في جهة ما ،وبمجرد انتباههم إلى أي حركة غريبة يتم إخبار الآخرين ..استمر الامر على هذه الشاكلة لمدة أربعة أيام وفي ليلة اليوم الخامس،ترصدوا حركة غير عادية،قرب كوخ أحد الجيران تركوه يدخل بهدوء وحين خرج محملا بأكياس الدواجن تعرضوا له بشدة وأسقطوه أرضا في ظلام دامس لا يتبينون حتى بعضهم بعضا.شدوا وثاق يديه ورجليه ،لم يحاول المقاومة كثيرا من هول المفاجأة،بدأ الخبر ينتشر وتوافد الجميع لرؤية السارق الذي حير الجميع .في الظلام الدامس حملوه خفيفا الى وسط الحي ،حيث العمود الكهربائي الوحيد لمعرفة الوجه الذي يختبئ في الظلام..قبل الوصول بأمتار تسلل صوته بين الناس في ذهول تام يردد بحشرجة ممزوجة بالبكاء:
:لكم الخير يا أهل الخير
لكم الخير يا أهل الخير.
بينما قوبع يردد وسط الحشد محاولا الوصول الى اللص للتحقق من هويته:
ألم أقل لكم بأنه كان يتلو التعاويذ والطلاسم على الدواجن؟ألم أقل لكم ..؟ألم أقل لكم..؟
لكم الخير يا أهل الخير!!!!