كيف تحيا مع الموت | سلفادور دالي
أنا، دالي، استهل كتابي باستغاثة موتي.
أراني لا أبتعد عن مغزى التناقض بين الأمرين، كي يفهم الجميع عبقرية الأصالة في رغبتي بالحياة.
فقد عشت مع الموت منذ اللحظة التي نما فيها وعيي بالتقاط أنفاسي، وظل الموت يقتلني دائما بشهوانية باردة، لا يتخطاها أبدا إلا شغفي الصافي في أن اختط حياتي وأعيشها في كل دقيقة، وكل ثانية مهما صغرت، على وعي تام بكوني حيا. هذا التوتر المستمر، العنيد، الهمجي، المفزع هو القصة كلها في مسألتي.
إن لعبتي الأسمى حي أن أتخيل نفسي ميتا، يأكلني الاود. أغلق عيني وبتفاصيل لا تصدق في دقتها التامة والوعرة، أراني أزدرا وأهضم في بطء بواسطة كم لعين من جحافل أود الأرض الضخم المخضر، ينهش لحمي يقيم في محجر عيني بعد أن يقرض العينين ويلقيهما بعيدا، ليبدأ في افتراس مخي بشراهة. أكاد أشعر _على لساني _كيف يسيل اللعاب فيستعذبه وهو يعضني. وتحت ضلوعي تجعل أنفاسي صدري منتفخا، بينما بفكها تحطم أنسجة رئتي الشفافة. يستريح قلبي قليلا، لاثبات وجوده وحسب، لأنه طالما خدمني بصدق، أراه مثل كعكة اسفنجية سمينة يتاخمها الصديد الذي يتفجر فجأة ويندفع داخل عجينة تزحف كأنها يرقات بيضاء مكتنزة. وهنا يصل بطني: عفن نتن ينقبض بقوة مثل فقاعة تملؤها جيفة، خليط روثي يحتشد من حياة استثنائية. وللمرة الأخيرة أطلق زفراتي، مثل بركان عجوز يبكي منتزعا من الحمم مصدوعا في العظام مثخنا بالاود الذي يولم فوق نخاعي. كم أجد ذلك تدريبا رائعا أكرره كلما تذكرت العودة اليه.
الذاكرة الدالية الأولى
عشت موتي قبل حياتي. ففي سن السابعة، توفى أخي بالالتهاب السحائي، قبل سنوات ثلاث من ولادتي، هزت الصدمة أمي في أعماقها. نضج أخي المبكر، عبقريته، عطفه، ورقته بالنسبة لها اشراقات هائلة، مما جعل اختفاءه صدمة مفجعة لم تكن أبدا لتتخطا ها. لم يسكن يأس والدي فقط سوى ولادتي، لكن سوء الحظ لم يزل يخترق لحل خلية في جسديهما. وداخل رحم أمي، كنت بالفعل أحس ذعرهما، هنت جنينا يسبح في غشاء مشيعي لعين. كان توقهما يتركني أبدا. وكثيرا ما أراحتني حياة ووفاة هذا الأخ الأكبر، فقد كانت خيوطه تتصل بكل مكان حولي حين بدأت أعي: الملابس، الصور، الألعاب، وبقي دائما في ذاكرتي والدي من خلال استدعاءات مؤثرة لا تمحى. وعايشة في عمق وجوده الخاص والدائم كما رضوض الجروح – بنوع من العزلة عن المسببات – يتملكني الإحساس بكوني مهزوما، أضحت كل محاولاتي فيما بعد ترمي الى استرداد حقوقي في الحياة أولا وفي المقام الرئيسي بجذب دائم الاهتمام من هم أقرب لي في أشكال عدوانية أبدية.
واذا كان فان جوخ قد فقد عقله بسبب كون صنوه المتوفى حاضرا جانبه، فالأمر مختلف بالنسبة لي (1) وقد عرفت دوما كيف أوجه وأضبط ذاكرتي، حتى في معظم استدعاءاتي الآثمة، بل أكاد حتى أتذكر وجودي في الرحم. كل ما علي هو أن أغلق عيني فقط، وأضغط عليهما بقبضتي يدي، لأرى مرة أخرى ألوان الرحم، المطهر ألوان مسحات النار الابليسية، حمراء، برتقالية، صفراء وامضة، لزوجة السائل المنوي وبياض البويضة الفوسفوري الذي فيه أعيش غامضا كملاك سقط من عليائه.
ذكريات دالية عن الوجود القدوي:
خلق فكري أم مجرد هاجس ؟
ولدت كأي فرد في فزع، وألم وخدر فإذا حركت قبضتي فجأة بعيدا وفتحت عيني على اتساعهما في الضوء الباهر، أشعر مرة أخرى بشيء ما من تلك الهزة الممتلئة والاختناق والصدمة والعمى، والصراخ، والدم، والخوف، والتي تسجل كلها دخولي لهذا العالم.
كان شبح الأخ الراحل هناك يرحب بي منذ البداية، كان ربما قلت هو الشيطان الدالي الأول. فقد عاش أخي لسبع سنوات. وأشعر انه كان نوعا من دورة اختبارية لذاتي وبعضا من عبقرية مطلقة فقد احترق مخه كدائرة كهربية زادت درجة اشتعالها في وسط دقيق بدرجة لا تصدق. لم تكن مصادفة أن اسمه كان سلفا دور مثل أبي سلفا دور دالي إي كوزي، ومثلي كان محبوبا بسخاء ولم أكن إلا محبوبا عظه. في ولادتي تابعت قدماي وقع خطي الراحل الموله، كان لا يزال معشوقا في شخصي وبل ربما الآن أكثر من زي قبل. وطغى فيض الحب على من قبل أبي منذ اليوم الذي شهد مولدي كجرح نرجسي، بل اللحظة التي شعرت فيها بالفعل برحم أمي. وفقط ومن خلال جنون العظمة – أعني الافراط في الغرور بالذات – نجحت في انقاذ نفسي من محق الشك النسقي في الذات، بل تعلمت أن أحيا بملء التأثر بحبي لنفسي، لقد غزوت الموت لأول مرة بغرور ونرجسية.
غالبا ما رأيت الموت وأنا أشق طريقي تحت أكثر الظروف تضاربا. هأنذا أنهي محاضرة في قرية فيجوراس، مسقط رأسي، أمام جمهور يضم كل السلطات المحلية، العام 1928، وقد أتوا ليروا ويسمعوا صبيا من بلدتهم كتبت المحاضرة بنبرة عدائية لتصفع مواطنيي النائمين، وفي النهاية كدت أصيح فيهم (السيدات والسادة، المحاضرة انتهت ) حاول الجمهور جعلي أستمر، لم يفهموا أني انتهيت. التزمت الهدوء. كان هناك صمت، لحظة توقف فيها الزمن، وفجأة، يسقط العمدة، الذي كان يجلس أمامي الى اليمين، بالكاد أمام قدمي، كمسمار كبير الرأس. ينهضون تملؤهم الإثارة والرعب يمضون في كل صوب وأبقى حيث كنت وحسب، دونما أتحرك، متأملا الوجه الجموح، انفلقت العينان للأبد ولا يزال تعبيره الأخير محفورا في تفكيري.
هل يحشى دالي الموت ؟
خلال هذا التفكير كان الرجل الميت موسوما بجمر العلامة الدالية. وبالنسبة لي، كان الأصوات وسادة تحتية أنام عليها، لكني كنت دوما أفزع من الموت. عمري خمس سنوات العام 1909. وأحد أبناء عمي، عمره عشرون سنة، يصيب خفاشا في عينيه مستخدما بندقيته القصيرة، ويضع الخفاش في دلو. أرمي بنوبة غضبي عليه سائلا إياه أن يعطيني الحيوان الصفير، وبعد ذلك أهرول لأضعه في أحد الأماكن السرية، بمنزل ما اعتدت أن أخفي فيا الأشياء. أرى الثديي الصفير مرتعدا يعاني غارقا في سجنه.
أتحدث اليه، أمسكه وأقبل رأسه الساقط. أبدأ رحلة عشقه. في اليوم التالي كان أول شي ء فعلته أني انطلقت لرؤيته، راقدا على ظهره بالدلو أجد الحيوان ميتا، أكاد أرى لسانه اللاهث الضئيل وأسنان الرجل العجوز حول أنفه. نظرت اليه بشفقة معلنة، ورفعته، وبدلا من أن أقبله كما انتويت أن أفعل في باديء الأمر، وينوع من الغضب، لقيته بعضة واحدة، حملقت لوهلة فيما فعلته بفزع وشعرت بلزوجة الدم في فمي فألقيت باهتياج شديد تلك الجيفة الضئيلة داخل الحوض المعد للغسيل عند قدمي الى جوار شجرة تين ضخمة. ابتعدت مهرولا، تسيل الدموع من عيني. وأعود، رغم ذلك، لكن الخفاش كان قد اختفى. وكانت تينات سوداء كبيرة تطفو على سطح الماء، كبقع أتت حدادا. والى اليوم لازالت ذكرى هذا المشهد ترجفني بل إن مجرد رؤية بعض بقع سوداء كافية لتستحضر لي موت الخفاش.
وأنا طفل، كان لدي كذلك قنفذ اختفى يوما. وبعد أسبوع وجدته ميتا في حظيرة الدجاج، أتذكر أنني أعتقدت في باديء الأمر أنه حي لأن شعراته كانت تبدو وكأنها تتحرك بسبب علبة يرقات تصببت حول جثته. اختفت الرأس تحت بقايا طعام جيلاتيني مخضر. كنت قادرا على أن أملأ بالدموع عيني لأن قدميه كانتا تنثنيان تحتي وكان علي أن أفر من الرائحة النتنة، كان ذلك الوقت الذي تجمعت فيه براعم الليمون، وحين خرجت من حظيرة الدجاج، فاجأتني ارتعادة مشوبة بالفزع، أراحتني تلك الرائحة الملطفة التي أطلقتها الغصون العطرية لكن الافتتان كان هائلا. توقفت عن التنفس وعدت الى ركن الفراخ مرة أخرى لكي أفتش عن الجيفة المتخللة. ثم مرة أخرى للخارج حيث الرائحة النتنة، وطلاقة الهواء، الظل والضوء، الجيفة وجمال الأزهار: كانت تحتفظ بالاختيار في لوحة ألوان هيستيرية حتى تخطتني الرغبة تماما في أن ألمس كومة من الهرام. تسمرت في البداية، وكان افزاع رغبتي، محاولا أن أقفز فوق القنفذ. اكني فشلت، تعثرت وسقطت، وأنفي يستقر تماما أسفل معترك الاود. ويفزع شعرت بالاشمئزاز، منتزعا مجرفة كالدودة، كما لو كان يهبني قوى سحرية، كي أسحق القنفذ ببط ء، أخيرا تلاشى جلده، كاشفا تحته اللحم المكتنز أسقطت المجرفة وعدوت بعيدا. كنت لا أتنفس، وكانت الصدمة طاغية.شعرت بالانسحاق حتى عدت أسترجع سحري المدفون، وعندئذ ذهبت لاغراقه الى ما لا نهاية في مياه جدول قبل أن ألقيه أسفل كومة براعم ليمونية ليجف في الشمس. لكن لازلت مضطرا الى تركه غارقا في ندى الفجر قبل أن يفقد رائحة عفوتنه النتنة. كنت للتر قد خبرت الدرس الأول للقاء فزعة الموت.
كيف يتذكر دالي وفاة والده
كان أبي ميتا حينما قبلت فاه الغليظ البارد بشفتي المتوهجتين بالحياة، غالبا ما كنت أقول، شارحا قول فرانشيسكو دي كويفيدو أن أعظم المتع الحسية هي معانقة الأب الميت. فهل وجد حقا لبشر انتهاكا أكثر فزعا من ذلك، أو دليلا أعظم على حياته في أن يعطي نفسه ويأخذها، أكثر من هذا التدنيس، وهذا التعدي؟ كل ما منعني هو جبني والظروف. ولكن لازلت أستطيع أحلم بفعلها.
جارسيا لوركا الذي التقيته في العام 6919 في الجامعة، كان في أحيان يمثل هيتته. لازلت أستطيع تذكر وجهه، ميتا وفزعا، وراقدا على سريره، محاولا المرور بمراحل تحلله البطيء، العفونة من وجهة نظره، تستمر أياما خمسة.ثم يصف التابوت،وكفنه، والمشهد الكامل لفلقه، وتقدم النعش في شوارع غرناطة الوعرة وحين يتأكد لنا جميعا قد تملكنا الفزع، ينهض فجأة منفجرا بضحكة برية تظهر كل أسنانه البيضاء الرائعة، ويرسلنا خارج الباب عدوا بينما يعود لسريره، لينام هادئا في حرية.
كطفل كانت أية إشارة ولو خفيفة للحوت تربك معدتي خوفا،وكانت لعنادي أشكال عدة وكان لهذا الفساد المبكر رد فعل عميق لقوى الحياة التي تتنافس ضد قوى الموت. فأن تولد ومعك أخ اضافي،جعلني أوشك أن أقتله كي أقتنص مكاني وحقي حتى موتي.
أتذكر مرة خدشت فيه خد عنزتي بدبوس، حين وجدت محل الحلوى مفلقا، بينما كان السبب الرئيسي أن خدها ناعم، أحمر، طيع كالأردواز، واستطعت أن أكتب اسمي بالدم عليها كان اسمي دالي يعني الرغبة بالكاتالونية.
في سن الخامسة، دفعت رفيقي في اللعب للفضاء، كان جميلا، معقوص الشعر، ضئيلا وأشقر، بينما كنت أساعده لركوب دراجته ذات العجلات الثلاث، كنت قد تأكدت أن أحدا لا يرانا. كنا فوق جسر بلا قضبان، طرحت به من ارتفاع عدة أمتار ليسقط على الصخور أسفل الجسر، ثم تظاهرت بالجزع مهرولا للدار أحضر نجدة، لازلت أرى نفسي، فوق المقعد الصخري الضئيل، أتأرجح طوال الوقت، للفلف وللأمام بينما أتلمظ بثمرة فاكهة، وأشاهد هياج الأبوين المحموم، مستمتعا بالظلام الآمن في ركن غرفة الجلوس، دونما أن تكون هناك أدنى ذرة من ندم، كما لو أن ما فعلت أكبر من أي شيء ساد حياتي.
بعد ذلك بعام، ركلت شقيقتي الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة، وكانت تزحف عل يديها وقدميها، ركتها مباشرة في الرأس وسرت في طريقي مبتهجا، لكن لسوء حظي راني خلف والدي أفعل ذلك، فأغلق الباب دوني سمعت رجة الآنفلاق. كنت أستطيع تصور ضخامته خلف الباب. لكني بقيت بلا حركة أتميز غيظا. لقد عاقبني بأن أغلق علي الباب لذا لن يكون باستطاعتي أن أرى المذنب الذي ستراه العائلة كلها بالعين المجردة يجذب الانتباه للسماوات على نحو آسر، وحدي حرمت من تلك المشاهدة الفريدة.
بدأت أتشنج مكتوما حتى انفطرت، كانت كل الدموع في جسدي تتصبب خارجة وصرخت عاليا حتى فقدت صوتي وبدأت والدتي يزعجها الأمر، وانزعج هو أيضا وبدأت ساعتها أعي كيف أدير موقفا كهذا لصالحي، كان عندي ستة أعو ام. وانتقمت أكثر حين أدعيت بعد عدة أيام بأني مريض، حتى والدي اضطر أن يترك المائدة وقت الطعام، لأنه لم يقو على سماع سعال الهيستيري، والذي يحتمل أن يوقظ داخله صدى الوفاة الأليمة لابنه الأول. وداومت على إعادة تلك التمثيلية المفزعة التي تفطر القلوب كي استمتع بفزع والدي.
وبانتقامي من والدي، أطلقت متعة رغبتي الخاصة ل كك الأيام، كل ما كنت أعمله هو أن أسير في غرفة نوم والدي، حيث كانت هناك صورة لسلفا دور الأول، فتبدأ أسناني تصطك، لم يكن بإمكاني أن أزور قبره في المدافن، كان علي أن أنمي كل مصادر خيالي لأعالج حدوتة فسادي الموتي بأن أجعل الصور كمشروع حي مثل دودة عفنة وأخيرا أطردها كما تطرد الأرواح الشريرة كي أستطيع أن أخلد للنوم.
كيف يعرف دالي النهج البارانوي – النقدي
النهج البارانوي _ النقدي فن كبير يلعب على أوتار المتناقضات الداخلية للشخص باستبصار حين يجعل الآخرين يمارسون اشتياقات ولحظات الوجد للحياة بطريقة تصبه لصيقة بهم
باستمرار كما لو كانت ملكهم. وتأكدت لي مبكرا جدا، بصورة غريزية، ظاهرة حياتي: أتقبل الآخرين كما هي التجاوزات طبيعية في شخصية المرء ومن ثم يخفف المرء من اشتياقا ته بخلق نوع من المشاركة الجمعية.
بعد ظهر يوم ما، وفي مدرسة مارسيت براذر فيجوراس، بينما أعبر الدرج الحجري نحو مضمار الملعب كنت أحس كما لو أنني أقفز في الفضاء. كان الجبن قد حرمني،تلك النشوة. لكن في اليوم التالي، قفزت لأقع على الدرجات، لتصيب جسدي كله الكدمات والرضوض بعنف أدهش الطلبة والمدرسين، ولم يكن هنا أدنى خوف مما ارتكبت. إن ما فعلته من اعجاز جعلني أكاد لا آبه بالألم. فقد أحطت بالعناية، ولفني الاهتمام. وبعد أيام قلائل، كررت ما فعلته وبصورة أعلى بدرجة تكفي لأن تتحول كل العيون تجاهي وفعلتها ثانية مرات، اختفي خوفي كلية في التوق الذي بثثته في زملآء الدراسة. ففي كل مرة أهبط الدرج، يتحول انتباه الفصل كله نحوي، كما لو كآن بيدي فضل ما، وأسير في صمت القبور _ كالقول المأثور – كما لو كنت أخلب لبهم حتى الدرجة الأخيرة، هنالك كانت شخصيتي تتخلق. ونحان جزائي من ذلك كلا أكبر مما يسبب من ازعاج. فغالبا ما كان يحدث لي أن تتملكني نزوة مفاجئة في القفز للفضاء من قمة جدار، رغم المخاطرة الأعظم، كي أهدي، من لوعة الفؤاد. بل انني تحولت الى قافز ماهر جدا. ودونت في ملاحظاتي أن كل مرة كانت تلك الأحداث تأتي بي، بعد حقيقتها الى مغزى أعمق لحقيقتي: فكانت الخضرة والأشجار والزهور، تبدو كلها قريبة مني. بعد ذلك، كنت أحس الخفة، أستطيع أن أشارك بصورة طبيعية في الوجود وأن (أسمع ) كل حواسي. بالقفز أمام زملائي، خلقت فيهم متعة تساوي متعتي أو حتى أكبر من متعتي، كنت أرى نوعا من الكرامة في عيونهم، يطو بما أفعل لمكانة الحدث. ويصبح دالي حامل المتعة لكل شخص، ويتحول ضعفه الى قوة. لقد حملتهم جميعا على الاعتراف بانفعالي وأن يقبلوا به، وأجبرتهم عل أن يشاركوني جميعا في نفس العاطفة.
هكذا يصبح ألم الموت متعة روحانية، بعد أن كان إسبانيا نمطيا. ليس بالنسبة لي (أن يكون هناك سبب ) كما قال مونتان الذي احتقره لعقله البورجوازي، ومحا ولته المثيرة للسخرية في أن يجهل الموت، وأن يحرمه من حيويته. وأن يتخطى هلعه. كنت أفضل أن أنظر الى الموت في عينيه وجعلت لنفسي ثورة عاطفية مهذبة للقديس جون عن الصليب.
(تعال أيها الموت
محتفيا كي ألموت ,
فقد تعيل في متعة ارحيل
مجددا للحياة )
في وجه وقفة كتلك، تتهافت حقيقة النصح من أجل التزييف لدى ميشيل دي مونتان، كل أملي أن يأتي موتي داخل حياتي كصاعقة، كي تأخذني كلية، أو كنوبة حب، وان تجعل جسدي طوفانا بكامل روحي. وبعني الوقت كان باستطاعتي أن أستسيغ يأمي. وكان انعدام المقدرة لدى في المعرفة يجعلني أتيه من ناحية أخرى، وكان خوفي يشربني وقاحة الاستخفاف. وكان وخز الموت يمنحني خاصية جديدة في حياتي وعواطفي. وحين كانت جالا، معجزة حياتي، تجتاز عملية خطيرة في 1936 كنا نقضي وقتنا في حالة من اللامبالاة الظاهرية نخلق موضوعات سوريالية في اليوم الذي سبق إجراء الجراحة. كانت تسلي نفسها بجمع عناصر مدهشة ومتباينة معا من أجل فبركة ما يبدو أدوات آلية _بيولوجية. النهود مع ريشة في الحلمة، وعلى قمة الريشة هوائيات معدنية منغمسة داخل إناء دقيق (ويبدو هذا التركيب مرجعا ضمنيا لجراحتها الآتية ). ولكن ما حدث أنه، في طريقنا للمستشفى داخل التاكسي – كنا نخطط للتوقف عند اندريه بريتون كي نريه اختراع جالا -إلا أن ارتطاما حادا جعل البدعة تنحرف إثر الصدمة وأن يغمرنا الدقيق. ويمكن لك أن تتخيل كيف كنا نبدو حين وصلنا للمستشفى!
ما هو هام أنه مساء ذلك اليوم كنت مشغولا بإعداد النسخة النهائية من اختراعي ساعة. نوم مصنوعة من حلية ضخمة من الخبز الفرنسي وداخلها 12 محبرة زجاجية يملؤها حبر بلون مختلف ينفس فيه قلم ريشة – وتناولت عشائي بشهية – دون التفكير ولو لثانية في عملية جالا. حتى الثانية صباحا، كنت لا أزال أعمل على اتقان ساعتي بإضافة ستين محبرة ملونة بالألوان المائية على أوراق اللعب معلقة من الخبز. ثم خلدت للنوم، ولكن في الخامسة صباحا، كانت أعصابي المشدودة توقظني. كنت أتصبب عرقا، مكدودا بداخلي أنفاس ندم. نهضت بغير ثبات باكيا، كأن عقلي تثيره صور جالا معبودتي في أوجه حياتية عدة، وانطلقت نحو المستشفى يصرخ توقي. ولأسبوع كان العرق يغطيني، والموت يربض في حلقي. وأخيرا تم تخطي هذا المرض. دخلت غرفة جالا لآخذ كفنها بكل الرقة في العالم، وقلت لنفسي (الآن، جالوشكا، أستطيع قتلك ). كانت الروح تحيا على ما يصدمها وتجد في رجفة نشوة الجماع ذررته. ويصبح الضعف ذاته قوتي، وأنا أثري بالمتناقضات. أحيا وعيناي صافيتان مفتوحتان عن آخرهما.
هل دراسة الطقوس السرية في الفن شيء نبيل لدى دالي؟
هل تظنها مصادفة في أن رحلات الطقوس السرية الكبرى كانت غالبا ما ترتبط بالردة والطبل الزائف ؟ الحقيقة أن الشرج، الذي أعلاه كويفيد في مديحه، يعدا رمزا أساسيا للتطهر من أفعالنا الوحشية. كل ما هو إنساني حين تتجاوزه روحانية الموت ليصبه طقسا سريا فبعد مولد “دوفين “، وريث عرش فرنسا، كانت فضلاته تجمع في بلاط القصر،في وجود كل نبلاء المملكة، ويدعى أعظم الرسامين، فربما يلهم البراز الملكي الباليتة. وكان البلاط كله يرتدي اللون نفسه. فهذا نبل. وهو قبول للإنسان بصورته المطلقة، برازه عظه مثل موته. بل أكثر من ذلك، كانت الباليتة الفضلاتية تتمتع بتنويعة هائلة،من الرمادي للأخضر ومن الأوكروات الى البنيات، كما نرى في أعمال كاردأن ولا يوجد شي ء آخر أكثر اشتهاء للعين بصورة ذواقة من ظل البراز الذي ينساب بحرية، الفضيحة الحقيقية هي أننا ما عدنا نجرؤ أن نقول أو نفكر في ذلك. عاش براز الملك أوفين ! وخذ الأمريكيين، وهم غير قادرين على مواجهة الموت، وقد أعلوا من شأن صناعة كاملة قائمة على الشعارات مثل أنت تموت – ونحن نتولى كل شي ء) كما لو كان هذا هو التنكر لواقع الظاهرة، أو تقليص حجمها، أو تزيينها، وتعقيمها، ثم وضع مقاييس لها، أو حرمانها من المأساة داخلها. لكن موتا يعبر دونما جلال لا يشي بشي ء إلا بحياة بخيلة، أفكارها ضئيلة. لا جوهر لحياة البشر إذا حرم الموت من مهناه. إن الولايات المتحدة الأمريكية ستجد في براز أوفين شيئا غير زي فكر، لذا سيستبدلونه بحلوى قرنفلية بالسكر، أي رقة واعتدال ؟ اني أحلم بأن أبقى على وقارها واحتلابها حتى الموت.
ربما سيكون ضروريا، كما هو الأمر أيام الأسكوريال العظيمة أن أعود الى أكوام الروث التي تجعل المرء حاضرا في التحلل البطيء للجسد، والرؤية والرائحة تحضر للعقول والذاكرة القيمة المختمرة عن الروحانية الحقيقية. إن الأجساد الدودية التسلق تنجز مهمتها النبيلة الأخيرة: العودة للأرض. وفي قبول دراسة الطقوس السرية في الفن والتبرز والموت توجد طاقة روحانية استغلها بثبات عظيم. أنا مقتنع بصورة لا واعية بأن الضربات العميقة التي تدفعني لأنزع أحشاء القنفذ الصفير الميت والمتحلل تدفعني بالمثل بدون شك الى التهامه.
دال: اقتل وكل
أهوى أن أحطم جماجم الطيور الصغيرة بين أسناني، وأن أهرس عظامها كي أمص النخاع، والدجاج الذي أوشك أن يفسد والمطبوخ في فضلاتها، وكان ندمي الوحيد أنني لم آكل الديوك التركية المطبوخة حية، والتي، كما يقال، تعد طبقا سحريا. أعرف أنني نهم بصورة ضارة، وتضيء وعيي شهية أكلة لحوم البشر، لما بدا بالتالي الدليل الدائم على واقعي المعاش. كان لعابي يسيل بطريقا أكثر حياة، حين افترس شيئا ميتا.
بل الأكثر من ذلك أرى الفك عضوا رائعا يعي برغبتنا الخاصة في الحياة، وقيمة الواقع، وهو مجرد صهريج هائل للفساد، والمقابر فيه مناضد عشائنا. إن الحقيقة بين أسناننا. فقد برهنت الفلسفة نفسها في فن الأكل. فا لانسان يكشف عن نفسه حين تكون الشوكة في يده. إن أرستقراطية كيورين العظيم قد ظهرت دائما لي. مثل أبي، كنت أمام طعام البحر بريا، تلك القشريات بلحمها العذري تحميه عظام قاسية بصورة تكفي لأن تنمو في الخارج، لكني أمقت المحار خارج أصدافه مقتي لطراوة الأسبان.
لقد حكى جوزيف دي مايستر كل ذلك حين علق عل إنسان في معركة لا يطيع أبدا رغم أن الأرض كلها الغارقة في الدهاء هي مذبح ضخم يقربن أمامه بكل شي ء بلا نهاية، وبلا مقياس وبدون لين حتى تستهلك كل الأشياء، وتنقرض، ويموت الموت. نعم، إن الالغاء محتوم، فستهضمنا الأرض جميعا، وأنا لدى هذا الاعتقاد طوال الوقت. فلن تجد واحدا من أفعالي، أو واحدا من إبداعاتي إلا تجسيدا يقابل تلك المعرفة، ولم توجد لحظة في حياتي لم أكن فيها على وعي بحضور الموت، إن ذلك يجعلني سعيدا، ولماحا، أنوي أن أغش قليلا بأن أجعل لنفسي بياتها، أعني أن أفسح للكوميديا فصلين آخرين أو ثلاثة في هذا القرن القادم، لأني اؤمن ببعث الأجساد.
أمر سيىء جدا أني لست مؤمنا. لم أفقد الأمل. لقد أوضح القديس أوجستن الطريق بصلاته للرب ليعطيه الإيمان، لكن لم يحدث ذلك دونما أن يعطيه الرب أولا الوقت الضروري ليتشبع بالمتع المتاحة على سطح الأرض. كانت رغبتي في الخلود فيما بعد الحياة بإصرار الذاكرة، أريد أن أكون قادرا على تذكر كل تفاصيل حياتي. السعادة الغامرة لا تعني شيئا لدي دونما تأكيد التذكر لكل حياتي. أنا أرفض الأشكال الأخرى من البعث وفي تلك الحالة أفضل الا أموت. في الوقت الحالي هناك على الأقل عشر طرق لاطالة الحياة معروفة تماما، بفترات النوم الذي قد تضيف الكثير من التوابل للحظات إعادة الاستيقاظ. سأختار بينها بكفاءة كبرى حين يأتي موعدها. هذا الاتجاه هو جزء من اللعبة التي أؤديها مع الموت.
لدى عبقرية كهذه لمحاولة إطالة الأيام قدر الانجاز الذي تحتاجه أعمالي الكاملة. لكن في الحقيقة، أن كل ما أحبه بعمق وذنب هو أحشائي. إن جمالي الداخلي يتكون من رغبة هائلة تعل منه الى نوبات، ليس فقط كل ما يقف في طريقه، ولكن وبقرا ري وحدي بالا أجد ما يخصني والا اصكك ما هو ملكي. ودعني أسألك ما هو الذي أكثر من موتي. أعترف أني أعتقد أن لنفسي حصانة، وأني أرغب في التحمل حتى أمني بأقصى حد لحي استثير الموت السماوي في جل خاصيته. وكوني أصبح صكه في عظمته، أباريه في البعد والكيف. إنها ألهتي العظيمة، الروح الحكمة لنا كلنا. إنها الجمال الغامض والمطلق. أعرف أن الحياة ما هي إلا مملكة للنقص، لكني سأجعل من التتابع الطويل واللانهائي للأيام التي تشمل حياتي كمالا فاتنا، يحمل نقطة تماسه مع الله. وكنت أود كتابة قصيدة اليه، ربما تقول:
أيها الموت، ألوهيتى الجميلة،
أنت التقيت الكاهن الأكبر،
أنت التقيت الصنو
وخدمتني
لذلك أعبدك،
نحن نعمل معا كي نشكل معادلا للأشياء المطلقة
التي لم يكن لها أبدأ ما يساويها
وفي كل يوم أغدو الملاك الاول
لدار الفناء.
وأعود الى حياتي الرحمية، التي انتهت في اليوم الحادي عشر من مايو من العام 1904، بعد الثامنة بخمس وأر بعين دقيقة، حيث ولدت من بطن شرعية حملتها دونيا فيليبا دوم روسينيك. كانت أمي في الثلاثين. وتقول شهادة الميلاد أن والدي هو دون سلفا دور دالي إي كوزي، قد أعطى يومين بعد ذلك التاريخ كي يسجل شجرتي العائلية لكل من الأبوين. من ناحية الأب كان دون جالو دالي، وهو من أهل فيجوراس، ودونيا تريزا كوزي مار كوس من أهل ووسوس. أما من جهة الأم فكانا دون انسيلمو دومينيك سيرا ودونيا ماريا فيريس سادورني، وهما من برشلونة، أما الشهود فكانا دون خوسيه ميركادير من أهل لابيسبال، وهي إحدى مقاطعات فيرونا، وكان تاجر دباغة يقيم ل هذه المدينة، والثاني دون إميليوبيج من أهل فيجور اس ومهنته الموسيقى،ويقيم في هذه المدينة، وكانا من نفس السن.
كان أبي حينها في الحادية والأربعين، وكان معروفا بأنه (طبيب المال )، لكونه نوتاريو البلدة (2)ويسكن في 20 كاليه مونتريول، وقد منحت الأسماء المسيحية سلفا دور، وفيلبي وجا سينتو وأنا متأكد من أن كل الكبرياء قد رحل وأن كل هؤلاء الذين خصبت أرواحهم الفضاء الذي نسبح فيه، هذا الطمي الدقيق من الروحانية، أراه ابتهج حين ظهرت على وجه الأرض، لأنني شكلت التحدي الأعظم لعبقرية إنسان قرر أن يحسم الأمر تجاه الموت. وفي التعاقب الممتد للقرون التي رأت الفنانين. كم منهم كانت له كيفيتي في الانفعال الكوني المركز؟ ما أستطيع قوله أني، دالي أطعم رغباتي بالجمال الحيوي لكل العبقريات الميتة. وأدفع بها للامام. فأنا الشمس التي تشرق على كل النباتات المنتقدة في ليل العصور.
(الموت هو الشيء الذي يحيفني كثيرا،
وبعث اللحم
هذه التيمة الاسبانية العظيمة،
هي الصعوبة الوحيد الكبيرة التي
اقبلها بكد
– من وجهة نظر الحياة)
اشارات:
* ترجمة الفصل الأول من كتاب سلفا دور دالي (الاعترافات السرية لسلفا دور دالي )، الكتاب الذي أملاه _ على مدى 20 عاما _ لصديقه الصحفي اندريه بارينود ليصبح بعد صدوره السيرة الذاتية لفنان يقول عن نفسا: لست سورياليا، أنا السوريالية.
1 – حقيقة شهيرة أن فنسفت فان جوخ كان صكه مثل دالي مسبوقا بوفاة أخ يدعى فنسفت وفي صباه كان الفنان المستقبلي مجبرا على الذهاب الى المدرسة كل صباح والمرور بمدافن يرى فيها اسمه منقوشا فوق شاهد قبر!
2 – تعني بالاسبانية وفي بلاد لاتينية كثيرة Notario عضو شرعي بمهنة كل ما يخص المال .
سلفادور دالي 2017-01-28