الرئيسية | سرديات | كتاب كرستين | محمد الجباري

كتاب كرستين | محمد الجباري

محمد الجباري (هولندا):

 

في فجر يوم 11 يناير فقدت صديقة عزيزة على قلبي ، جارتي الهولندية السيدة كرستين ، المرأة المسنة التي لم تكن تنقطع أبدا عن القراءة ، كنت قبل أن أدخل إلى بيتي كل مساء أطل عليها من نافذتها الزجاجية فأجدها كعادتها تقرأ كتابا ، أبتسم و أحمد الله أن قلبها مازال ينبض . آخر مرة زرتها كانت في الأسبوع الماضي ، ما إن رأتني حتى أخذت تحدثني عن آخر كتاب قرأته ثم طلبت مني كالمعتاد أن أقرأ لها ، أفتح الكتاب أجدها قد وضعت صورة من الحجم الصغير بالأبيض و الأسود لطفلة صغيرة ، حيث الصفحة التي انتهت إليها.. فكنت من تلك الصفحة أبدأ القراءة ، رأيتها تغمض عينيها ، عرفت أنها نامت ، عندما خرجت من بيتها تذكرت أني لم أسألها عن صحتها و حالها… لم يكن لنا الوقت لذلك !

علمت بوفاتها فأسرعت إلى بيتها ، عانقني زوجها ، لم أتمالك نفسي ، بكيتها بحرارة ، همس الرجل في أذني قائلا : ماتت صديقتك العجوز أيها الجار العزيز … بموت كرستين أكون قد فقدت نافذة كنت أطل من خلالها إلى عالم الأدب و الفن و التاريخ.

دعاني زوجها إلى الدخول ، كان بهو البيت كئيبا و حزينا كل شيء كان يوحي بالموت ، حتى ذاك البيانو الكبير ، كم كان يعجبني و يثير في نفسي الفرحة و المتعة أصبحت أراه ساكنا كالقبر ، حتى قطتها التي لم تكن تتوقف عن القفز واللعب هاهي ساكنة كالجماد !

حييت بعض أفراد عائلتها و جلست منزويا قبالة غرفتها أرتشف قهوتي السوداء ، كنت بين الحين و الآخر أختلس النظر إلى غرفتها فأجدني لا أقوى على إمعان النظر فيها ، كانت تخونني شجاعتي ، رأيت فتاة في عقدها الثاني تلبس بأناقة فستانا أسودا ، تضع على عينيها نظارة سوداء، شعرها الأشقر منسدل إلى الوراء و قد تجاوز كتفيها بقليل ، رأيتها تدخل إلى غرفة كرستين ثم ما لبثت أن خرجت تحمل في يدها كتابا ، تتجه نحو طاولتي فتخصني بابتسامة رقيقة : أهلا بالجار الشرقي ، أنا إليزابيت حفيدة كرستين

نزعت نظارتيها عن عينيها الزرقاوين الحزينتين فرأيت فيهما احمرارا و شحوبا ، فطنت لملاحضتي فاستطردت قائلة :

لم أنم الليلة الأخيرة ! كنت بجانب جدتي ، كانت تحتضر ، كنت أمسك بيدها المرتعشة و أضع لها قطرات من الماء فوق شفتيها اليابستين ، قبل الفجر شعرت بيدها تضغط قليلا على أصابعي و تهمس لي

– إليزابيت

– نعم جدتي ! الحمد للرب أصبحت أحسن

– لا يا صغيرتي على ما يبدو إنها صحوة الموت

– هل أنت خائفة جدتي ؟

– لا لست خائفة ، لكني لدي حب استطلاع غريب لما بعد الموت ! كم هي قصيرة هذه الحياة حتى أنها لم تمهلني إتمام قراءة هذا الكتاب – و أشارت بعينيها إلى كتاب كان بجانبها – بعد ذلك نامت جدتي ، نامت إلى الأبد .

كان كلام إليزابيت مؤثرا يلمس كل جوارحي و يخترقني ، رأيتها تنظر الى الكتاب الذي في يدها و تقول لي : تفضل أيها الجار الشرقي، هذا كتاب كرستين الأخير، أظن أنه من حقك أنت ، أعلم أنك كنت دائما تقرأ لها

أخذت الكتاب ، كتاب كرستين فتحته وجدتها قد وضعت الصورة عند آخر صفحة كانت قد قرأتها، لم يكن قد تبقى لها سوى صفحتين لإتمام قراءة الكتاب ! وجدتني أنظر الى الصورة و إلى إليزابيت كان الشبه واضحا بينهما ، تبتسم إليزابيت و تأخذ الصورة تنظر إليها و تقول :

هذه كانت أول صورة لي كنت في سن الخامسة ، جدتي كانت تُعلِّم بها آخر صفحة قرأتها !

في عصر ذلك اليوم دُفنت كرستين في مقبرة القرية جئت من عملي متأخرا مررت على نافذتها لكنها لم تكن هناك ، كان من الصعب علي أن أترك هذه العادة !

دخلت إلى بيتي ، حاولت عبثا أن أنام ، بقيت أتقلب في فراشي ، نهضت فتحت دولابي ، أخرجت منه كتاب كرستين ، أشعر أن روحها تملأ كل غرفتي وجدتني أستنشق عطرها …

آه كم هذا الليل طويل لا يريد أن ينقضي ! بين اللحظة و الأخرى كنت أنظر إلى ساعتي كأني أستعجل بإلحاح بوادر الصباح ، فكرة حمقاء كانت تراودني ، لبست معطفي ، أخذت الكتاب ، كتاب كرستين ، خرجت من منزلي ، ركبت سيارتي، كم كان الطريق المؤدي إلى المقبرة موحشا و مظلما ، حتى الأشجار كانت عارية ، يخيل إليك كأنها هياكل لمخلوقات غريبة و مرعبة ، كانت تحدت صفيرا و زفيرا ! حاولت أن أطمئن نفسي قلت : “إنه الريح عندما يصطدم بأغصان الأشجار يحدث بها قوقعات و صوتا !”

نزلت من سيارتي ، تقدمت نحو الباب الحديدي ، فتحته ببطء أحدث صوتا كأنه يحذر من في داخل المقبرة بقدومي ! لم أكن أسمع ساعتها سوى إيقاع أنفاسي المتسارعة ، فجأة سمعت أقداما آتية من ورائي تمشي فوق أوراق الأشجار المتساقطة و الذابلة ! لم أجد الشجاعة لكي ألتفت خلفي ، خوف في كل جسدي، أصبحت دقات قلبي مسموعة و متسارعة ، كدت أن يغمى علي و أنا أستجمع كل ما تبقى من شجاعتي و أستدير و رائي ، رأيت عجوزا يقترب مني و قد تقوس ظهره ، يتكئ على عصى ، تظنه أنه ربما قد خرج للتو من أحد هذه القبور المتناثرة هنا و هناك ، نظر إلي بعينيه الغائرتين الصغيرتين ، كان صوته رقيقا جدا كأنه آت من زمن آخر ، قال :

أنا حارس المقبرة ، ما الذي جاء بك في هذا الصباح الباكر ؟

شعرت أن لساني لم يعد يقوى على الحركة، أصبح ثقيلا، بصعوبة بلعت ريقي و قلت بصوت خافت جدا : أريد قبر كرستين

– إنه هناك وراء تلك الشجرة

جلست قرب رأسها ، فتحت الكتاب على صورة إليزابيت و بدأت أقرأ … أقرأ لها ، شعرت أن الحروف لم تعد طيعة على لساني ، أتهجى الكلمات ، قراءتي عسيرة كالمخاض ، أصبحت تلاوة سطر كأنه زمن شاق و طويل ، أقرأ أقرأ دون حتى أن آخذ أنفاسي ، كان العرق يتصبب من جبيني رغم الصقيع و البرد . لم أدر كم مر من الوقت ، لكني أخيرا انتهيت ، أخذت نفسا عميقا ، و بخطى سريعة خرجت من المقبرة ، ركبت سيارتي ، ضغطت بقوة على محرك السرعة كأني أركب آلة الزمن التي تعيدني إلى زمني و تاريخي ، أسمع هاتفي يرن

– ألو من معي ؟

– صباح الخير أنا إليزابيت ، أريد أن أشكرك على زيارتك لجدتي في المقبرة هذا الصباح

بقيت صامتا ، أفكر … ترى من أخبرها ؟ كيف عرفت ؟ لم يكن في المقبرة إلا أنا و العجوز و الأموات !

إليزابيت كأنها قرأت أفكاري و أسئلتي فاستطردت قائلة :

لقد ذهبت إلى المقبرة هذا الصباح … رأيتك تجلس عند جدتي ، تقرأ لها من الكتاب ، أكيد تقرأ الصفحتين المتبقيتين … لم أشأ ساعتها أن أقطع خلوتكما.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.