عزالدين بوركة
-
شِعري سليل من الشيطان ينطقني ** ما طاب لي من أحاديث فينصرف.
للشاعر: محمد العياشي.
-
الكتابة لذة – رولان بارت.
من أي مصدر تأتي الكتابة؟ أو بالأدق، حسب عنوان هذه المقالة، من أين يصدر الشعر كأسلوب كتابي؟ الشعر العربي بالتحديد!
كان عند القُدامى أو شعراء “ما قبل الإسلام” (الجاهلية!) أن الشعر يصدر عن شيطان أو جن يسكن الشاعر ويوحي إليه بالشعر. لم يكن الإنسان القديم قادرا على استيعاب كيفية ميلاد القدرة على القول الشعري، فنسبَ الشعر إلى قِوى خارقة (الإلهة شعرة)، قوى نابعة عندهم من نوعين من الجن (=الشيطان) يسكنان وادي عَبْقَر، يقول ابن الأَثير: “عَبْقَر قرية تسكنها الجن فيما زعموا، فكلَّما رأَوا -أي العرب- شَيئاً فائقاً غريباً مما يصعب عملُه ويَدِقُّ أَو شيئاً عظيماً في نفسه نسبوه إِليها فقالوا: عَبْقَرِيّ”.
و”زعموا!” أن الشعر بنوعيه الرديء والحسن يُنسبان إلى نوعين من الجن يَسكنان الشاعر، فإن كان الشاعر جيدا شِعره فلأن مصدر (وحيه) هو الجن الهوبر، وإن كان الشعر غير ذا جيدةٍ فلأن الشاعر يسكنه الجن الهوجل. بين الهوبر والهرجل قسّم العرب منبع الشعر وقوته. ونرى ذات الأمر (1) عند شعراء غربيين محدثين فها هو الشاعر الفرنسي ملارمي يرى بأن الشعر وحي إلهي وخاصة الأبيات الأولى، بينما الباقي من القصيدة يَلزمه قدرة الشاعر وتمكنه من آليات الشعر وكتابته، فهو إذن نصف إنسان ونصف إله. ويذهب الشاعر الانجليزي شيلي إلى القول أن “الشعر خاضع لقوى خفية” والشاعر كما يقول “هو القادر على تعرية كل العلاقات الخفية للأشياء” (2).
وبالتالي فالشعر هو “قول /كلام” قوى خفية، على لسان الشاعر، قوى لا تُظهر نفسها، إلا خفية في جسد الشاعر. وليس للشاعر قوة (ولا وجود له) من غير القوى الخفية التي “توحي” له بالشعر، والشاعر ليس هو القائل بل القوى الخفية (=الشيطان) التي تلبس لسانه.
غير أنه مع مطلع الإسلام، وتحوّل الوحي من المستوى الأفقي (من وادي عبقر إلى حيث الشاعر /من الجني إلى المسكون)، إلى مستوى عمودي (من السماء إلى الأرض /من الله إلى النبي)، تغيّر الأمر ولم يعد لقول الشاعر قوة. فكيف يُعقل أن تظل قوة القول النابع من الشيطان في حضور قول أقوى، قول نازل من عند الله؟ وأليس الشعراء يتبعهم الغاوون؟ والغواية من الشيطان “فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ” (القرآن)، فالشعر بهذا المعنى ضلال، وقول لا فعل، لا يستثنى منه إلا الصالحين. تأتي المعاجم على القول أن “الغاوين” هم “الضّالّين الهالكين” ونقول غَوَّى الرَّجُلَ: أَضَلَّهُ، أَغْوَاهُ… وتعددت التفاسير، حسب ما جاء في تفسير الطبري، للغاوين: تارة هم المشركون وتارة هم الضالين من الإنس والجن، وعند آخرين هم الشياطين. فالشعراء لا يتبعهم إذن إلا الضالين أو الشياطين، فكيف يمكن أن يحي الشيطان في زمن الإله والوحي؟
ويحكى عند الأمازيغ في علاقة الشعر بالشيطان، أن المازغ (الجد الأول) وهو في إحدى خرجاته، صادف الشيطان الذي مدّه بشيء مصنوع من جلد الماعز والخشب، يُسمى “الدف”، الذي أوحى له به رقصة “أحيدوس” (3) التي منها خرج الشعر والموسيقى، بوحي من الشيطان. فالشعر، إذن، هو وحي من الشيطان عند القدامى دائما*.
وإن كان النبي يوحى إليه، فالشاعر (قديما على الأقل!) هو أيضا يوحى إليه، لكن بيْن الوحي الأول والثاني صراع أفضى إلى انتصار الأول، لِكَوْن أن هذا الصراع: هو صراع بين (القوة الإلهية (الخيّر) والقوة الشيطانية (الشريرة)). والوحي نوعان في معاجم اللغة: وحي الشعراء ما يُوحَى به إليهمْ فيُلْهِمُهُم الشِّعْرَ، والوحي الإلهي ما يُوحِي به الإله إلى أنبيائِه من كلامٍ لِعباده؛ “إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى” ( قرآن).
لكن مع تكوّن الإمبراطورية العربية [بعد ظهور الإسلام] وما صاحبها من تحولات ثقافية، لم يعد الشاعر يُعتبر ناطقا باسم تابعٍ ولم يعد بالتالي محطّ علمٍ خارق. تلاشى التابع وغاب من الوجود، ومن بين أسباب اندثاره تطور التفكير في الصناعة الشعرية بمختلف عناصرها ومكوناتها (4). فإلى جانب انتصار الوحي العمودي على الأفقي، وبداية التفكير والتأسيس للصناعة الشعرية، اختفى وحي الشيطان للشاعر، وكما اختفى معه الروي الشفوي، فالشعر الجاهلي، شعر مروي شفويا، وما وصل إلينا إلا عبر الرواية الشفهية. ولهذا -عندي- فلكون الشعر الجاهلي شعرا سمعيا، تطلب أمره أن يكون ذا موسيقى (إيقاع)، بالتالي داخل نظام موسيقي يقول به الشاعر الجاهلي شعره دونما أن يتبيّنه، إنه يقوله بوحي لا بصناعة. ودخوله حيّز الكتابة والتدوين أي حيّز الديمومة في شكل واحد، كما حدث للوحي الإلهي (القرآن)، جعل العروضيين والنقاد الأوائل يضعون له قواعد وأساسات بنائه المحددة، فصار يُرى إلى الوزن جوهرا لكل قول شعري. إلا أنه في فترة اختفاء التابع وبروز الصناعة الشعرية، وكما يبدو مما جاء في كتاب: «رسالة التوابع والزوابع»، لابن شُهيد الأندلسي (382-426ه؛ 992-1034م)، الذي كتب في هذه الرسالة يحكي عن سفره إلى وادي عبقر -وادي الجن للشعراء- لزيارة أتباع الشعراء وكتاب العرب. مما قد يوضح عدم ذهاب فكرة الأتباع، بشكل من الأشكال، من العقلية الأدبية العربية (على الأقل في فترة الازدهار) رغم تلك الظروف التي تكلمنا عنها.كان الهدف من وراء هذه الرسالة، هو التعرض لخصومه بأن يتمّ إيجازه من أتباع الشعراء، بقراءة شعره عليهم فينال إيجازهم، أي من منبع الوحي –وحيهم. فجاء في الكتاب مما قاله له تابع الجاحظ، ابن أرقم-كما ورد في الرسالة: “إنك لخطيب وحائك لكلام مجيد، لولا انك مُغري بالسجع، فكلامك نظم لا نثر” فيجيبه ابن شهيد: “… ليس هذا أعزك الله، منى جهلاً بأمر السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكني عدمت ببلدي فرسان الكلام، ودهيت بغباوة أهل الزمان” فيقول له الجني: “فكيف كلامهم بينهم” فيقول: “ليس لسيبويه فيه عمل، ولا للفراهيدي إليه طريق، ولا للبيان عليه سمة، إنما هي لكنة أعجمية، يؤدون بها المعاني تأدية المجوس والنبط” (5). فاختياره لتابع الجاحظ، الناقد الأشهر، فإنما لتأكيد على جودة شعره وأدبه، لمكانة هذا الناقد. لقد انتصر ابن الشهيد لنفسه بالرجوع إلى الوحي القديم، إلى شياطين القُدامى.
وكما نُقل الشعر الجاهلي شفويا، نُقل الوحي الإلهي (القرآن والحديث!) أيضا، إلا أنّ أجزاء منه دوّنت تزامنا مع الوحي؛ وبعد بداية تدوين الشعر ونسخه فصار بإمكان، إذن، بروز نقاد للخطابين معا (الشعري والقرآن). فمع الكتابة تمكن لهما (الوحي الإلهي والوحي الشعري /الشيطان) أن يتمّ تخليدهما ونقدهما. غير أن نقد الثاني بإظهار عيوبه وجمالياته معا كان ممكنا ومتاحا، أما الأول فكان غير مسموح إلا بنقد (إظهار) جمالياته وبلاغته.
إن الوحي الشعري سابق عن الوحي السماوي (عربيا) زمنيا، فبعد ظهور الإسلام واستكان الإمبراطورية، وحصر الشعر في أوزان وبحور كان من الصعب مقارنة موسيقاه (=أوزانه) مع موسيقى القرآن، فقد صار الشعر سجينا لعروض لا يمكن أن يسمى الشعر شعرا إلا داخلها، فبالتالي كانت استحالت تسمية القرآن شعرا، فقد نفى في ذلك الجاحظ أن يكون لأوزان القرآن أي شبهٍ بأوزان الشعر، وهو يقيسها على أوزان تمّ تسطيرها في القرون الأربع الهجرية. فلم تكن بالتالي أهمية للسبق القول الشعري عن القول القرآني. وإن كان يُستشهد بالشعر الجاهلي في بيان بلاغة القرآن، فقد كانت المقارنة بين النص القرآني (وحي الإله) والنص الشعري (وحي الشيطان) فقط لتبيين تفوّق الأول عن الثاني. فكانت منها –مثلا- رفض مؤرخين ونقاد أوائل أي مقارنة بين النص القرآني والشعري، وهذا الباقلاني (338هـ-402هـ/ 950م-1013م) يرفض تماما أي مقارنة بين أية آية والبيت الشعري. فهو يرى -إلى جانب العديدين- بأن القول القرآني هو خروج عن القول المنثور والشعري عند العرب القدامى، فبالتالي استحالة المقارنة بينهما، وبنى الباقلاني حُكمه بالرجوع إلى قول وفكرة ابن حول التفاوت بين قصائد الشاعر الواحد والتفاوت بين الشعراء فيما بينهم، وجعل الباقلاني هذه الفكرة مدخلا إلى القول بأن عدم التفاوت في نظم القرآن يرتفع به عن مستوى الشعر كما النثر، لأنه لا بد من أن يخضع هذان عند البشر للتفاوت (6). ولا أهمية للسبق الشعري عن القرآن. فالأول هو وحي شيطاني والثاني إلهي، فالأول باطل والثاني حق، الأول نابع من ذات خطاءة والثاني من ذات مُطلقة.
إلا أنه لا يمكننا أن ننكر أن الأسلوب القرآني كان له فتحَ آفاق جديدة لشكل الكتابة من بعده، المقامات والنص الصوفي كما الشعري أيضا**…إلخ.
بين الوحي الشعري والوحي الشعري كانت إمكانية الردّ والصراع، والتناظر البلاغي والمعارضة، لكن لم يكن مسموحا وممكنا أن تكون هناك معارضة بين القول الشعري والقرآني، بين الوحي الشيطاني والوحي الإلهي. فقد كان مسموحا أن تحاكي قصيدةٌ قصيدةً أخرى وأن تأخذ شكلها ووزنها، لكن غير مسموح أن تحاكي قصيدةُ سورة أو آية، فلا يمكن أن يحاكي النسبي المطلق، وأن نأتي من الشيطاني ليوضع على الإلهي. فالشاعر بالمعارضة يبتغي القضاء على سابقيه، لكن غير مسموح (=محرّم) ابتغاء المعارضة بقصيدة على سورة، لأن غير ممكن القضاء على الإلهي بالشيطاني. وإن كان كما ترى فئة أن النص القرآني ينطلق من القول الجاهلي وموسيقاه الشعرية وبلاغته اللغوية.
غير أن الأمر صار مخالفا في حاضرنا فالقول الشعري هو قول ذاتي، لم يعد في نمط من أنماطه يرتهن إلى موسيقى أو إلى وحي، ولا إلى ملهمة، ولم يعد يرتهن لمعارضة أو صراع بلاغي، بل هو قول ينبع من إدراك بالنصين القرآني والقديم، كما بغيرهما، فهو لا يرتهن لا للأول ولا للثاني، بل إلى ذاته كنص مستقل.
الهوامش:
1- كم يبدو الأمر عندنا غريبا، إلا انه يقدّم لنا صورة حول تشابه فكرة الشعر عند مختلف الحضارات والشعوب.
2- للمزيد أنظر : A. Richards, Principles of Literary Criticism. وأيضا Shelley, A Defence of Poetry, Prose Works, III
3- رقصة أمازيغية عبر دق الدف وغناء الأشعار بصوت نسوي ورجالي، عبر رقصات دائرية، بشمال أفريقية (بالمغرب)
* على الأقل كما بيّنا عند العرب والأمازيغ
4- عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار تبقال للنشر، ص6
5- ابن الشهيد الأندلسي، رسائل التوابع والزوابع، صححه و حقق ما فيه وشرحه: بطرس البُتاني، دار صادر بيروت، 1996، ص 116-117
6- للمزيد أنظر: أبو بكر الباقلاني ، إعجاز القرآن، تحقيق: عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت، 2005
** لنا مقال قادم يتعلق بذات الموضوع، سنفصّل فيه الأمر بالتفصيل.