كاتب قصص الجنود | وجدي الكومي
وجدي الكومي (مصر):
لا تقل لي إنك لا تعرفه، قطعا لم تقرأ حكاياته، أو تسمع عنها، لكنه هنا وهناك، ستلتقيه حتما، كما التقاه كمين الشرطة في طريق العودة إلي منزله، استوقفه الكمين، وسأله الضابط عن اسمه، فقال أنه يدعى “كاتب قصص الجنود”.
طلب الضابط من سائق الميكروباص، أن يعطيه الرخص، فاستجاب السائق متأففا، ثم مال أمين الشرطة على جار السائق – كاتب قصص الجنود – وكان يرتدي حلة سهرة غالية الثمن، تعجب الضابط من هذا المواطن الذي يعفر حلته الغالية في سيارة ميكروباص متهالكة، فسأله عن وظيفته، فأجابه الرجل بأريحية كأنه يطلب مشروبا في كافيه:احكي قصص الجنود.
ظن الضابط أنه لم يسمعه جيدا، فمال نحوه مكررا:بتقول إيه..؟
فأعاد الكاتب عبارته:كاتب قصص الجنود..
انتبه الضابط إلي أن هناك أمرا غير طبيعيا، فطلب منه أن ينزل، ويطلع على هويته، هبط الكاتب، وأخرج بهدوء حافظته، والتقط منها هويته الشخصية، حملق الضابط في البطاقة، كان مكتوبا فيها في خانة الاسم:كاتب قصص الجنود، وفي المهنة، كاتب، أما العنوان، فكان شارع مجهول، من شوارع الهرم، طلب الضابط من سائق الميكروباص أن ينطلق إلي سبيله، فتبقي الكاتب وحيدا مع ضابط الكمين الذي حملق فيه مرة أخرى ثم اصطحبه إلي البوكس فى تؤدة، فسار معه مستسلما، وطلب منه أن يركب فى صندوقه، فركب بهدوء دون تذمر، وقف الضابط يتأمله وهو يجلس داخل صندوق البوكس، حيث يجلس المتهمون، أو الذين يتم ضبطهم اشتباه، ثم عاد للحملقة مرة أخرى فى البطاقة، قائلا:دي طلعتها من أي سجل مدني؟
فأجابه الكاتب بهدوء:من سجل مدني الهرم..أمام كايرو مول.
اقتادوه للقسم، هناك كشفوا عليه جنائيا، لم يكن مسجلا في أية جريمة فى محيط القسم، لم يكن مطلوبا في أي واقعة، لم ترد أوصافه في أي اشتباه، سألوه عن اسمه مرة أخرى، فقال في إصرار:كاتب قصص الجنود، فعاود الضابط النوبتجي سؤاله:قلت في الكمين إن دا اسمك، هو أسمك ولا مهنتك ؟
قال الكاتب بثبات: هو اسمي، ومهنتي، الفارق ليس كبيرا، يستويان، من اسمي امتهنت مهنتي، لا أتذكر لي اسما، كل ما أتذكره هو أنني أمر علي جبهات القتال، أجمع القصص والحكايات، فى جعبتي حكايات عديدة عن الأمهات الثواكل، عن الأطفال اليتامى، عن الفتيات اللواتي صرن ربات بيوت فجأة بعدما اقتيد آبائهن لجبهات القتال، ثم عادوا في صناديق خشبية، حكايات لا تنتهي أجمعها في مجلدات، لكننى لا أبيعها، بل أنشرها فقط.
رمقه الضابط بنظرة مرتابة، ثم أمر صول القسم ليقتاده إلي الحجز، ولم يدر ماذا يفعل به، نظر في دفتر الأحوال، ثم انتقي واقعة سرقة، وقرر تلفيقها للرجل، ثم كتب فى تقريره أن المذكور الذي تم ضبطه، لم تكن بحوزته أوراق ثبوتات، أو أي شيء يشير لمحل إقامته، ورفض أن يدلي باسمه الحقيقي، وأصر كذبا أنه يُدعي “كاتب قصص الجنود”.
بالعرض علي النيابة في الواقعة الملفقة قررت حبسه أربع أيام علي ذمة التحقيقات، ثم جددت له في الميعاد، لم يعبأ كاتب قصص الجنود بما يحدث، فقط كان ينفض سترته الأنيقة كل مرة يقتادوه فيها من الزنزانة إلي مكتب وكيل النيابة، أو من الزنزانة إلي مكتب الضابط النوبتجي، دخل معه في الحبس فتيان، قال أحدهما: أنت إيه حكايتك..؟ وقال الآخر:تلاقيه ابن ناس، بس جار عليه الزمن.
لم يرد الكاتب، حدق فيهما بنظرة عادية، نظرة خالية من أية انفعالات، ولم يرد، لم يطلق زفرة ضيق، قال أحد المحبوسين:اسمك إيه؟ فأجابه الكاتب:كاتب قصص الجنود، فعقب المحبوس:دا اسمك الثلاثي..؟ فأجابه الكاتب:عائلتي هم أبطال القصص التي أجمعها.
فسأله المحبوس متهكما:طب ما تحكي لنا قصة، منها تسلية ومنها حكاية قبل النوم..
قال الكاتب:أجمع القصص وأنشرها، واشترط على من يسمعها أو يقرأها أن يحفظها، فلا يبح بها بعد ذلك أو يفشيها، بوسعي أن أحكي لك، لكن..هل ستكتم السر..؟
تهكم المحبوس، وقال فى ضجر:ياعم ما تحكيش..أنا فاهمك بصعوبة أصلا وأنت بتتكلم بالنحو، هتحكي إيه يعني..حكاية بين اتنين محابيس، لازم كل اللي في الحجز يعرفوها..هي شغلانة؟
صمت الكاتب ولم يعقب، وظل كما هو محافظا على جلسته في ركن الحجز، أشبه بالتمثال الشهير، شعر المحبوس بالفضول، رمقه أكثر من مرة لعله يفشي سره، فلم يفلح، فعاود الاقتراب منه، قائلا:احك، وسرك في بير.
بدأ كاتب قصص الجنود يحكي دون دون أدني توجس، قال:بيشوي وحامد جنديان، وقفا متجاورين تقريبا في نقطة حراسة بشبه الجزيرة التي تتعرض لحرب من الميليشيا، يأكلان سويا، يشربان سويا، يتقاسمان السجائر، وينظفان السلاح معا، ينام أحدهما فيحرسه الآخر، حينما بدأ اجتياح الإرهابيين لنقطتهما في المذبحة البشعة الشهيرة التي أودت بحياتهما ضمن ثلاثين جندي آخرين، دعا أحدهما زميله بقوله:يا حامد..يا حامد..لآخر رصاصة يا صاحبي..نموت ولا يأخذونا ولاد الكلب.
لكن حامد قرر الفرار، ألقي سلاحه، وقرر أن يختبأ في الأرض المتربة المجاورة للنقطة التي تعرضت لصواريخ الأر بي جي، صرخ في زميله وهو يهرب: اهرب يا بيشوي..انج بجلدك..
آثر بشوي البقاء، على الرغم من أن صواريخ الإرهابيين انهالت عليهما كرمل مسموم في ريح غاضب، حاصروهما تماما، ألقي حامد سلاحه بالفعل، وهرع ليبحث عن موضع يحفر فيه حفرة برميلية، ويختبأ، بادله بيشوي الصراخ قائلا: الهرب خيانة..فصرخ فيه حامد:بل خيانة لهذه الحرب، التي لم نتدرب علي خوضها.
دانة أخيرة أنهت هذا الحوار، دانة واحدة اجتثت رأس بشوي، وصنعت ثقبا مرعبا فى جسد حامد، عادا في نعشين لقريتهما، هناك قرر المحافظ إطلاق اسم “بشوي” على مدرسة القرية، وإطلاق اسم حامد علي وحدتها الصحية.
لم يلق القرار ترحيب أهل البلد،يضيف كاتب قصص الجنود للمحابيس الذين التفوا حوله في الزنزانة المظلمة: أقصد قرار إطلاق اسم بشوي علي المدرسة، ثار القرويون، وثار العمدة، المدرسة كانت تحمل اسم شيخ يسمي “الشيخ يوسف”، شيخ اشتهر بعمل الأحجبة، وممارسة الشعوذة، لفك المربوطين، العاجزين، وكذلك اشتهر بممارسة عمليات الختان أحيانا، تسبب فى مقتل خمس فتيات، لكن ذويهن عفوا عنه، تبلورت أسطورته فى معاداة نصارى أهل القرية، لا أحد يعرف بالضبط كيف مات، وأين دفن، لكن اسمه كان ملتصقا بلافتة المدرسة، ذهب العمدة إلي مجلس المدينة وقدم شكوى ضد قرار المحافظ، وكتب فيها:
اعترض على تسمية مدرسة قريتنا باسم نصراني، اتق الله يا محافظ، فهي تحمل اسم شيخ فقيه، عرف عنه تأدية خدمات عديدة لأهل البلد، كيف تمحو اسمه من علي المدرسة، وتسميها مدرسة بشوي.
ثار أهل البلد، ذهبوا إلي منزل عائلة الجندي المسيحي الشهيد، وقذفوه بكتل من اللهب، فرّ والد الشهيد وأمه، توجه الثائرون إلي المقابر، ونبشوا قبر بشوي، وألقوا رفاته في الترعة، ودمه لم يجف بعد علي كفنه، كان لم يزل رطبا، مديرة المديرية التعليمية التي تتبعها المدرسة رفضت قرار المحافظ، وصدقت على الاحتفاظ بالاسم الأصلي للمدرسة، وهو مدرسة الشيخ يوسف.
انتهي كاتب قصص الجنود من الحكاية، كان قد اكتسب جمهورا الآن، زملاءه في الزنزانة كانوا قد التفوا حوله، أطلق أحدهم ضحكة متهكمة وهو يقول: فين السر العظيم في اللي حكيته يا حاج..؟
لم يعقب كاتب قصص الجنود، تفرس فيه مليا، وأسند ظهره لحائط الزنزانة، انتشرت الحكاية بطبيعة الحال، أفشاها المحابيس، لأمناء القسم، بلغت الضابط النوبتجي، والصول، وسربها الأخير لأحد الصحفيين، ممن يترددون علي الأقسام للحصول علي أخبار صالحة للنشر في صفحة الحوادث، تلقف الصحفي القصة، ونشرها، ثارت الدنيا ولم تهدأ، استدعوا الصحفي للتحقيق في النيابة العسكرية، كشف عن مصدره بسهولة، فوصلوا للصول، ثم للمحابيس الذين روجوا للقصة، حققوا معهم، أنكروا جميعا معرفتهم بالقصة، إلا أحدهم، انزلق لسانه، وقال أنه سمعها من شخص يدعي “كاتب قصص الجنود”، لكنهم لم يجدوه في الزنزانة، استيقظوا ذات صباح، فوجدوا الحجز خاليا منه، حققوا مع سبعين محتجز، حققوا مع الضابط النوبتجي، ثم عادوا للتحقيق مع المحبوس، ونقلوه من محبسه إلي السجن الحربي، ووجهوا له تهمة إفشاء أسرار عسكرية في زمن الحرب، قال في جزع:ما أفشتش..ثم أي حرب؟ أجابته هيئة المحاكمة التي انعقدت سريعا بأمر الدستور الذي تم الاستفتاء عليه فى 2013 : نحن الآن في حرب علي الإرهاب، وهذه القصة من شأنها أن تفسد معنويات الجنود، ومعنويات المواطنين، كرر المحبوس أنه سمعها من شخص يسمي نفسه “كاتب قصص الجنود” ولديه العديد من الحكايات، أجابوه أنهم لم يستدلوا علي هذا الشخص، طالب محاميه أن يعاودوا التحري، والبحث عن هذا الشخص، استدعوا الضابط النوبتجي، فأكد أنه كان هناك شخص بالفعل يحمل هذا الاسم فعلا، حبسته النيابة فعلا، اسمه كان موجودا في السجلات، وفي دفاتر الأحوال، ثم قال على مضض: ولفقنا له تهمة أيضا.
فتح المأمور بناء علي طلب هيئة المحكمة العسكرية حجز القسم، وأرسل من ينادي علي الرجل مرة ثالثة، توالت نداءات العسكري، ولم يلب أي شخص النداءات، حُبس المحبوس في السجن الحربي بتهمة إفشاء أسرار عسكرية في زمن الحرب، ثم لم يلبث في السجن بضع سنين، وتم تحويله إلي مستشفي الأمراض العقلية، مرددا عبارة واحدة: كان هناك..حكي لي القصة وطلب مني ألا أنشرها، لأنها سر، لم يقل أنه سر عسكري، لم يقل أنه سر عسكري، كان هناك..كاتب قصص الجنود.
أصوات القصة العربية الجديدة: الأرخبيل المتشظي راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية كاتب قصص الجنود وجدي الكومي 2016-01-31