عبد القادر حميدة (الجزائر):
لا يمكنني أن أصدقك طوال الوقت، أنت تحكي دائما وأنا أصدقك، لم أتوانى أبدا عن ذلك، رغم أنك في كثير من الأحيان تروي لي قصصا خرافية، وأساطير غير قابلة للتصديق، غير أني أهز رأسي موافقا علامة لتصديق حكايتك، وحينما تبصر هزة رأسي فإنك لا تتوانى عن إشعال سيجارة جديدة، حتى وإن كانت الأولى لم تكتمل، تشعل سيجارة جديدة من الطرف الملتهب لتلك المسكينة التي لم تكتمل وهي آيلة للزوال حتما على الرصيف المقابل لمقهى الحاج بولانوار حيث ترميها دائما كأنك ترمي سنارة في نهر كبير، لنقل كأنك ترمي سنارة في نهر النيل، ثم تلتفت إلي باسما لتشرع في سرد حكاية جديدة.
حكاياتك لم يكن لها موضوع واحد، لكن مواضيعك المفضلة كانت دائما وبالترتيب التصاعدي: السياسة، الدين، الجنس، آه الجنس وما أدراك ما الجنس، كنت تحكي لي حكايات غريبة تدوخ بها رأسي، تحكي لي عن جارتك نعيمة وكيف لعبت بأثدائها ورضعتها كطفل صغير في ذلك الصيف البعيد بعد خروجكم من الكتاب مباشرة، حين تبعتها، ودخلت وراءها سقيفة مظلمة طويلة، هناك أمسكتها دون مقاومة منها، لأنها كانت تبتسم لك دائما في الكتاب، بل وذات مرة غمزتك، هناك عقدت العزم على فعلتك، وظللت تنتظر الفرصة السانحة، إلى أن واتتك يومها فانقضضت عليها.
لا تحدثني أكثر عن الدين لقد ولجت بي عوالم مجهولة، وصرت بعد حكاياتك أشك في كل شيء، لقد أربكتني، وعدت أنا لقراءة طه حسين في الشعر الجاهلي، في حين كنت أنت ترمي بي في المتاهة وتسير نحو بيت الزهرة العوجة (قلت لي: أنها سميت بالعوجة لأن إحدى إليتيها أكبر من الأخرى)، لقد وعدتني مرارا بأن تأخذني هناك بعد أن حكيت لي حكايات أسطورية عن ذلك البيت، كيف يقصده الموالون، والخبازون، والجزارون، والأساتذة، وعمال البلدية، والمجانين، المجانين أيضا كانوا يعقلون في لحظة الجنون تلك، كانت الزهرة تعاملهم بالتساوي لا فرق بينهم إلا فيما يمكن أن يدفعه أحدهم أكثر من الآخر، لم تكن تحتقر أحدا هي تعلم أنه يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، حتى المراهقون الصغار كانت تسمح لهم بولوج بيتها، وولوج أستها، لم يكن لديها مانع طالما هناك دفع، ورفع، ونفع.
أما عن السياسة فمنذ اغتيال الرئيس بوضياف بطلقات خادعة في ظهره، لم تعد تحدثني عنها كثيرا، قبلها بأيام كنت متحمسا كثيرا لمقدمه، كنت تحكي لي عن بطولاته، التي كنت أعرف نتفا عنها عن طريق صديقي الراحل الحاج الزين، وقد قال لي يوما “كان سي الطيب –يقصد بوضياف- يأتي مدينتنا قبل الثورة التحريرية متخفيا في هيئة بائع شحوم، يلتقي بالمنتمين إلى الحركة الوطنية في دهليز بالحمام الشعبي، يتبادلون التعليمات، ثم يرتشفون شايا ساخنا من يدي الحاج بولانوار صاحب المقهى، ثم يخبئ رأسه الصغير داخل قلمونة القشابية، وينصرف كما جاء..”، كان الحاج يتنهد لتلك الذكريات، لكنك أنت لم تكن تعرف هذه الحكاية، إذ أخبرتني قائلا: إنها غير مكتوبة في كتب التاريخ، وأنا بدوري كنت أسخر منك قائلا: ومتى كان التاريخ يقرأ في الكتب؟
حينها، وكعادتك دائما، صرفتني برفق عن هذا الموضوع، حين شرعت في قراءة الكلمات الأولى لقصة جديدة: “ماذا تفعل المرأة الوحيدة غير رسم الكلمات في وجه الصمت، تبعثرها كيفما اتفق دون خطة جاهزة، وتلقي بالحلزونات الصغيرة في إناء به ماء بارد، ليلها لا يشبهه سوى شق القمر، ونهارها يعزف موسيقى الضوء”..
أجذب نفسا من سيجارتي الجديدة، التي أشعلتها وأنا أبتسم لك، من الطرف الملتهب لتلك المسكينة التي لم تكتمل وهي آيلة للزوال حتما على الرصيف المقابل لمقهى الحاج بولانوار، ثم أنظر في فنجانك متيقنا أنني لن أشفى منك أبدا..