لا شك في أن الكشف، مؤخرًا، عن فسيفساء قصر هشام في أريحا، كواحدة من أهم وأكبر لوحات الفسيفساء على مستوى العالم، يعيد الباحثين في الفن العربي الإسلامي، والمهتمين به، إلى إشكاليات نجمت عن تصنيفه ضمن سياق فكريّ غربي ــ استعماري، اختزل كل هذا الإرث الجماليّ، من الفنون البصرية والمعمارية العربية الإسلامية، في كونه مجرد “تنميق وتزيين”، فقد استثنت التصورات الغربية الفن الإسلامي من مصطلح “الفنون الجميلة” واعتبرته مجرد فنّ تنميق وتزيين، وأطلقت عليه تسميات مثل “الفنّ الشعبيّ” و”الفن والحِرَفيّ” وغيرهما من تسميات أكدت التمييز الثقافي والثنائية الحادة في الفكر الغربي الاستعماري والتي حاول أن يفرضها في علاقته مع الشرق، في موازاة لما تضمنته تلك العلاقة من تمييز اجتماعي وسياسي. فكما اشتمل الفكر الغربي على ثنائيات التمييز بين “أضداد ثقافية” مثل الرجل الأبيض “المتحضّر” مقابل الشرقي “المتخلّف”، صُنّفت الفنون على الأساس العنصري الثنائي ذاته.
قبل التعرض إلى جماليات فسيفساء قصر هشام، كواحدة من أهم معالم الفن والعمارة الإسلامييْن، لا بد من التعرض للإشكالية الكبيرة المحيطة بالفن العربي الإسلامي، والتي يلخصها عفيف بهنسي في كتابه “جمالية الفن العربي” بقوله: “كثيرًا ما نُظر إلى الفن العربي الإسلامي على أنه فن فلكلوري سعى المستشرقون في ظل الاستعمار إلى رعايته، كما لو كان لقيطًا طريفًا يحتاج إلى التبني والمواساة. هكذا كان شأن أوستاش دولوره الذي استقر في قصر العظم بدمشق خلال العشرينيات، يسعى وراء الرقش العربي والصناعات الفنية لا يرى فيها إلا متعة المستغرب الباحث عن الطرفة، والساعي لاكتشاف الغريب من عالم، من دون أن يميز في بداية أمره أنه أمام فن له جذور عميقة وأبعاد فلسفية تحتاج إلى المزيد من التعمق والبحث. حتى إذا تبين له ذلك عاد لكي ينشر آراءه في فرنسا وأميركا وقد أصبح كاتبًا مرموقًا، موضحًا شخصية هذا الفن التي أثرت في الفن الحديث على الرغم من فارق النفوذ الحضاري بين الغرب والشرق، ومعلنًا أن بيكاسو نفسه ليس أكثر من فنان تبنى كل تعاليم الفن العربي الإسلامي”.[1]
قصر هشام
يبعد قصر هشام بن عبد الملك عن مركز مدينة أريحا حوالي ثلاثة كيلومترات وهو يقع في مكان يسمى خربة المفجر، بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، حيث إنه أثناء التنقيبات التي قام بها علماء فلسطينيون وبريطانيون في الفترة ما بين 1935 و1948 عثروا على حجر في القصر عليه كتابة مذكور فيها اسم الخليفة هشام بن عبد الملك، الذي حكم في الفترة ما بين 724 – 743 ميلادية. وكان الخليفة معاوية بن أبي سفيان قد أسس الدولة الأموية بعد انقضاء الخلافة الراشدة، ونقل مركز الخلافة إلى دمشق حيث يكثر أنصاره.
شيد الأمويون قصورهم خارج العاصمة في البادية، في سورية وفلسطين والأردن، فقد أحبوا الصحراء بطبيعتهم، واشتملت قصورهم، كما يذكر ثروت عكاشة، على مظاهر الرفاه والبهجة التي تجلّت في زخارف الفسيفساء والنقوش الزخرفية الحجرية المتقنة. وكان الأمويون يحرصون على تشييد هذه القصور في الصحراء للنزول فيها بين الفينة والأخرى لينعموا بهواء البادية النقي ويعايشوا اللغة العربية الصافية، متحررين من أعباء المدينة مستمتعين بالمرح والصيد، وبذلك صورت الموضوعات الزخرفية في قصورهم مشاهد الصيد والرقص والموسيقى[2].
اشتهرت قصور الأمويين عامة بزخارفها ورسوماتها إلا أن قصر هشام اشتهر بفسيفسائه. يتكون مبنى قصر هشام من قصر خاص مع ساحة سماوية، وحمامات، ومسجدين، ونافورة مزخرفة، وحدائق، وقد هُدم القصر بفعل زلزال أصاب المنطقة عام 747 م قبل أن يكتمل بناؤه ولم يعد ترميمه في حينه حيث انتهت الدولة الأموية بعد ثلاث سنوات من الزلزال. يقع القصر الخاص في القسم الجنوبي من الموقع ومدخله من الجهة الشرقية، وهو عباره عن بوابة ضخمة مزينة بالزخارف، ونُحتت على جانبي البوابة مقاعد حجرية كانت تستخدم لحراس القصر. يتكون القصر من طابقين وفي وسطه ساحة كبيرة مكشوفة حولها غرف كثيرة بنيت لاستقبال الضيوف.
الحمّام الكبير
أما الحمام الكبير فيقع في الجزء الشمالي من القصر ومدخله عبارة عن باب كبير مزخرف. يتكون الحمام الكبير من مبنى ضخم مسقوف بتسع قباب، وبالقرب منه عثر الآثاريون على تمثال الخليفة والموجود حاليًا في متحف الآثار الفلسطيني “متحف روكفلر” في القدس الذي تستولي عليه إسرائيل منذ عام 1967. توجد في داخل الحمام قاعة كبيرة فيها بركة مياه باردة يتم الوصول إليها عبر درجات، وأرضية القاعة مزينة بالفسيفساء وتتكون من ثمانٍ وثلاثين لوحة كبيرة. بجوار القاعة الكبيرة توجد غرفة صغيرة تسمى الديوان كانت لاستقبال الضيوف المهمين، سقفها وجدرانها مزينة بالزخارف الجبسية أما أرضيتها فمزينة بالفسيفساء الشهيرة والمعروفة “بشجرة الحياة”، التي تصور شجرة تحمل ثمارًا، على الجانب الأيمن من الشجرة غزالان يلهوان بسلام وعلى الجانب الأيسر منها أسد يهاجم غزالًا، وتمثل اللوحة أضداد الحياة وما فيها من خير وشر وسلم وحرب.
كشفت وزارة السياحة الفلسطينية مؤخرًا عن أرضية الفسيفساء الموجودة في القاعة الكبيرة وأُعلن عن البدء بتنفيذ مشروع لحمايتها بتمويل ياباني. تبلغ مساحة الأرضية نحو 827 مترًا مربعًا كلها من الفسيفساء، وتتكون من 38 لوحة متنوعة نفّذت بألوان وأشكال هندسية ونباتية مختلفة. اكتُشفت الأرضية في ثلاثينيات القرن العشرين وكانت مغطاة تحت طبقات من التراب وبقيت كذلك لحمايتها من التأثيرات المناخية، إلى أن بدأت عمليات ترميمها قبل بضع سنوات.
“ |
التجريد الصوفيّ في الفسيفساء
بطبيعة الحال، تنتمي فسيفساء قصر هشام في بصريّتها ومضامينها إلى روح الفن الإسلامي الذي لعب دورًا مهمًا في صوغ هوية مميزة للفن العربي عكست الفلسفة الروحية والعقائدية التي يقوم عليها الدين الإسلامي، كدين يقوم على التوحيد المطلق للخالق الذي “ليسَ كَمِثْلهِ شيءٌ” (سورة الشورى، آية 11)، أي المنزّه عن التصوير والتمثيل والتشبيه. ولا شك في أن مسألة تحريم التصوير والتماثيل ذات دلالات دينية وثقافية، خاصة خلال فترة ظهور الإسلام، كدين جاء بمبادئ رئيسية أهمها التوحيد، وأن المصوّر هو الخالق، والصورة هي هيئة الإنسان المخلوق، كما يرد في العديد من الآيات في القرآن. لقد ظهر الإسلام في بيئة اجتماعية كانت تُقتنى فيها التماثيل كآلهة تُعبد، أي لم يكن يُقتنى التمثال كقيمة جمالية، بل لغاية دينية تعبّدية، بالإضافة إلى رسوم تصور الأنبياء والسيد المسيح والسيدة العذراء والملائكة والتي كانت منتشرة في مكة آنذاك[3].
هذه الثقافة المؤلِّهة للتماثيل والصور، والمنافية للتوحيد المطلق للخالق في الدين الإسلامي، أدت إلى نبذ التمثيل والتصوير في العهد النبويّ بشكل خاص. ومع ذلك، كشفت الحفائر الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن أن العهود الإسلامية قد مارست التصوير، فقد عُثر على رسوم منها ما يمثل النبي محمّد (ص) وأحداث السيرة النبوية والأنبياء[4].
وفي قصر هشام عُثر على تماثيل منها تمثال الخليفة، وأخرى تجسد شخوصًا آخرين من نساء ورياضيين وجنود وفرسان، بالإضافة إلى منحوتات جصية ورسومات فسيفساء تزين القصر وتصور حيوانات كالأسود والغزلان والعصافير، ما يشير إلى أن المسلمين مارسوا الرسم وتصوير وتمثيل الشخوص بحرية، نتيجة انتفاء العلّة التي أدت إلى تحريم التصوير في بدايات الإسلام، أي تحول الفن من موضوع تأليهٍ وعبادة، إلى قيمة ثقافية ــ جمالية.
غير أن شيوع الرأي القاضي بتحريم التصوير في الإسلام، ساهم في توجه الفنان العربي خلال العهود الإسلامية إلى التجريد في الفنون وأبدع في هذا المجال، ويشير كمال بلاطة في حوار أُجري معه مؤخرًا أنه من دون الفن الإسلامي أو البيزنطي (إذ ثمة علاقة جذرية وزواج بين الحضارتين البيزنطية والإسلامية كما يرى) ما كان الفن التجريدي ممكنًا في الغرب. وبذلك أبدع الفنانون العرب في العهود الإسلامية في فنون الرقش والزخرفة والخط والعمارة وغيرها، والتي تستلهم بما فيها من تحوير وتدوير وتكرار وتماثل وترادفيّة، من الفلسفة الروحية في الإسلام والقائمة على التوحيد.
جماليّة الجزء والكلّ
تشكل أرضية الفسيفساء في قصر هشام في كليّتها، كما يظهر في صورة جوية التقطها المصور فادي عميرة، تكوينًا بصريًا متكاملًا يضم داخله تشكيلات مربعة ومستطيلة ودائرية ونصف دائرية، ويميز كلّ تكوين من التكوينات الثمانية والثلاثين تشكيلٌ زخرفيّ خاص به، غير أن الجزء بتفرّده يشكل الكلّ الشموليّ، والكلّ بدوره يحتفظ بتميزه وتفرّده المختلف أيضًا نسبة إلى الأجزاء التي يتكون منها. تحيل هذه الفلسفة البصرية في الفسيفساء إلى جدلية “الكثرة والوَحدة” في الفكر الصوفي؛ يقول ابن عربي في كتابه “فصوص الحكم” إن “صاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد.. فتكون في التجلّي (أي الكثرة) كثرةً مشهودة في عين واحدة”. ولا شكّ في أن وراء هذا التوزيع الهندسيّ المُحكم لأجزاء أرضية الفسيفساء في قصر هشام مصمّمين وفنانين ومنفّذين حرفيّين كانوا على مستوى عالٍ من الإبداع والاحتراف.
تشكّل التكوينات نصف الدائرية المحيط الأوسع للأرضية من جهاتها الأربع وكلها مرصوفة بالفسيفساء عدا جهة واحدة. ثم يلي ذلك تكوينات مستطيلة الشكل في كل جهة تعمل كإطار داخلي، ولكل منها زخرفتها الخاصة بها والتي تميزها بصريًا عن غيرها، ثم تنقسم الأرضية بعد ذلك إلى تكوينات دائرية ومربعة تحيط بتكوين دائري يأتي في وسط أرضية فسيفساء الحمام الكبير.
تعتمد كل لوحة من لوحات أرضية الفسيفساء في قصر هشام على تكرار وتداخل وترادف وحدة زخرفية واحدة أو أكثر؛ يقوم التشكيل الدائري الذي يقع في وسط الأرضية على رمز واحد هو المثلث؛ مثلثات صغيرة ملونة بالأبيض والأسود والأحمر وألوان أخرى بدرجات ترابية ورملية، تتداخل لتشكل مثلثات كبيرة، ليعكس التكوين في مجمله تمثلات بصرية لا متناهية، فيبدو التكوين كزهرة هندسية متعددة الطبقات، أو كتدفق لونيّ ينساب من المحيط نحو المركز أو من المركز نحو المحيط. أيضًا، تكمن البراعة في هذا التكوين في القدرة على تطويع رمز المثلث حاد الجوانب داخل الدائرة لينساب مع انسيابيتها.
تتأكد الانسيابيّة البصريّة ــ المائية الروح ــ في تكوين نصف دائري اتخذ شكله من انسجام وتداخل خطوط متعرجة تشبه في شكلها الأمواج. يعتمد تكوين نصف دائري آخر على وحدة زخرفية نباتية هي الزهرة والتي تشكل في اصطفافها مجمل التشكيل البصري، فيبدو التكوين لوحة تجريدية تستقي جمالها من عنصر واحد فقط يقيم العلاقات والتمثلات عبر التكرار والتماثل. بينما يصبح التشكيل البصري أكثر تعقيدًا في تكوينات أخرى تتداخل فيها الوحدات الزخرفية النباتية مع الأشكال الهندسية.
أخيرًا، لا بد من القول إن هذه الجماليات المعمارية والفسيفسائية في قصر هشام تستدعي تسريع العمل الجادّ من قبل المؤسسات الرسمية والأهلية في مشروع ترميمها وحمايتها مناخيًا وثقافيًا وتنشيط السياحة إليها، وهي تستدعي كذلك من الباحثين والمثقفين والفنانين ضرورة العودة الثقافية والتأمّلية في هذا الإرث البصري الإسلاميّ في الهوية العربية عامة، والفلسطينية خاصة، والتي ما زالت تواجه محاولات الطمس وأسرلة المكان وثقافته وإرثه. ويبقى الفن العربي الإسلامي، وبرغم المحاولات الاستعمارية لاختزاله وتصنيفه وإبعاده من دائرة الفنون، إرثًا بصريًا غنيًا يلهم العديد من الفنانين المعاصرين من العرب وغيرهم، وما زال يستدعي المزيد من البحث المتخصص في فلسفته وعمقه الروحي والجماليّ.
* كاتبة من فلسطين
* الصور للمصور فادي عميرة
[1] عفيف بهنسي، جمالية الفن العربي، سلسلة عالم المعرفة 14 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، شباط/ فبراير 1979)، ص 17.
[2] ثروت عكاشة، تاريخ الفن: العين تسمع والأذن ترى ـ القيم الجمالية في العمارة الإسلامية، (القاهرة: دار الشروق، 1994)، ص 79.
[3] في مسألة منع التصوير في الإسلام وتأويلاته ودلالاته انظر/ ي: شربل داغر، مذاهب الحسن: قراءة معجمية ـ تاريخية للفنون في العربية، (الأردن: الجمعية الملكية للفنون الجميلة، 1998)، ص 242 – 250؛ بهنسي، مصدر سابق، ص 19 – 21.
هذا الفن تاريخه صنعه أبن هذه الآرض بغض النظر من كان الحاكم فهو فن قبل الدين الآسلامي والمسيحي أبدعه أبن الحضارة لهذه لآرض وأنتشر في اليونان وإيطاليا بعدما كان منتشر في مناطق شمال فلسطين والآردن وتركز في حوران وكان مركزه أوغاريت وحلب ووسط سوريا
يعطيكون العافية للشح الجمالي وأرتباطه كان مع تاريخ بناء الحجر في المدن المنسية وتصوير جماليات وآلهة ثم أحبه المسيحيون والآسلام وأكملوا العناية بالمهارات المتوارثة من تاريخ عريق بالفن