السعيد بوطاجين (الجزائر):
عاد بعد سبع سنين من الغياب بثياب أثارت حفيظة سكان قريته الصغيرة التي تسكن هناك في الطابق السفلي من الجحيم حيث يقطن النسيان وأحفاده. لم يتعرف إليه الناس بسهولة كما جرت العادة مع العائدين من البلدان البعيدة جالبين معهم سيارات وأمتعة كثيرة. اعتقدوا أنه من هؤلاء السياح الذين يجيئون صيفا وشتاء، يلتقطون صورا للجبال والثلوج والشلالات واليتامى والمحزونين والبيوت الطينية المتناثرة في الروابي، ثم يعودون إلى مدنهم المضيئة الدافئة وهم سعداء كديدان القز وقد كتبت ما يكفي من القطن لإضاءة المجرّة.
كان شعره مربوطا إلى الوراء كشعر فتاة في مقتبل السعادة. لم يعره الناس اهتماما كبيرا رغم أنه كان جاحظا في المشهد العام للجغرافيا ونواميس البلدة. نظروا إليه ثم أشاحوا بوجوههم منشغلين بدبيبهم وقد ألفوا تلك المناظر التي تميّز بها القادمون إلى القرية من جهات غامضة: سراويل قصيرة وشعر مصبوغ رسمت عليه أشكال وخرائط، وفي الأذرع والصدر العاري أوشام غريبة لم يرها الناس من قبل، ما عدا على جباه وخدود العجائز البربريات المسنات اللائي عشن في الطين واتخذن الوشم زينة وهوية.
كان الوافد يبتسم مبتهجا، ميمما شطر المقهى المركزي حيث جلس شباب وشيوخ فاتهم الوقت والقطار والمواعيد وداء الكلب. كانوا يشبهون الخنافس والرثاث وهم ينتظرون وصول الموت الآتي إليهم من الأرض والسماء، كما الغيث والجفاف. كذلك عاشوا، وكذلك سيموتون وقد لفتحهم الهزائم والقلة والذلة. لم يتحرك أحد منهم، ظلوا ثابتين في أماكنهم، واهمين مقهورين في برانسهم وثيابهم التي كالفلين ولباس الجراد.
ـــ السلام عليكم. كيف الحال؟ أنا. أنا. يبدو أنك نسيتني.كيف حالك؟ قال للجالس على مقعد خشبي تحت شجرة التوت الظليلة ينظر إلى المد والفراغ وينتظر المساء.
رفع الشاب رأسه بتثاقل، تثاءب متلذذا، وضع كأس الشاي على الطاولة العرجاء، وبكسل عارم نظر إليه دون أن يراه، ثم قال له ببرودة تنمَ عن تلك اللامبالاة الغريبة التي أصبحت ملازمة لسكان القرية الذين شحذوا بصيرتهم ودبغتهم التجربة واليأس. لقد أمسوا شيئا يشبه الفناء.
ــ تريد شايا بالنعناع؟ تفضل. من عندي. ما زال لدي بعض المال وكثير من القناعة، الناس هنا كرماء، ينطبق عليهم تماما قوله تعالى: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”. الناس هنا كالأشجار، ساكتون، مطمئنون، فقراء وكبار. ناس القرية أغنياء جدا رغم أنهم يأكلون النبات والتراب. هكذا هم مذ جاءوا إلى هذا العالم، بل إنهم كانوا فقراء قبل أن يخلقوا، قبل الزمن.
ـــ ألم تعرفني؟ سأله الغريب مجددا وهو يربّت على شعره الطويل.
تأمله الشاب كمن لم يره و لن يراه. ربما كان يفكر في غذائه وطباشير الأولاد، في العشاء، في شيء ما لا يعني أحدا غيره، في كل شيء، بما في ذلك طلعة الضيف القادم من وراء البحر بلباس الأوربيين الذين دمَروا القرية وخرجوا صاغرين، ثم خصلة الشعر الصفراء المتدلية خلفه كذيل البغل، وهناك تلك الأوشام الزرقاء التي جعلت يديه غريبتين عن الحيز والمساحة الآمنة.
ـــ عرفتك. كيف لم أعرفك؟ وهل أنا فأر حتى لا أميّز؟ قال له دون اهتمام واضح، أنت أمقران، وأبوك المختار ولد خديجة. كل الناس يعرفونك هنا كما يعرفون جيوبهم. أنت ابن القرية وأحد فقرائها القدامى. السكان في هذه البقعة لا ينسون أبدا، كما الفيلة. كل واحد منهم عبارة عن كتاب من الصمت والأسرار. يتظاهرون بالنسيان وهم يخفون في قلوبهم كل حكايات الدنيا. أتذكر مثلا أننا كنا نرعى الماعز معا في قمة جبل الشيطان الذي علّمنا الصبر، كنا نأكل البلوط والتوت البري، الحشائش، الموز الهندي الذي سرقناه من بساتين الناس. لم نكن وسخين جدا، كان الوسخ أنظف منَا نحن العراة الحفاة. أتذكر القمل جيدا. براغيث الكون. لا يمكن أن أنسى. كلما كبرت تذكرت، كلما خطوت خطوة إلى الأمام عادت إلى ذهني تلك الأيام فعدت إلى الوراء لأبصر نفسي كما كنت سابقا.
ارتشف جرعة شاي، أشعل نصف سيجارة وتذكر كثيرا، تذكر الطفولة والرعي والعصافير والأقدام الحافية إلا من الأصابع المتربة المتجمدة، تذكر البرد والثلج، الرياح العاتية، الخبز الحافي، الخبز بالتمر اليابس، المرق البائس في محال الأكل الخفيف وفي الأكواخ التي لم تصل إليها الجغرافيا، لم تصل إليها الأعياد. تنهد وهمَ بالقيام لولا إلحاح الضيف على الجلوس قريبا من شجرة التوت المقابلة للمسجد حيث يتجمع أهل القرية بانتظار الأخبار السارة التي كانت تعبر الشارع بسرعة متجهة إلى بيوت السادة والسيدات.
ـــ أنا أيضا عرفتك، علق أمقران.لم تتغير،كأنك حجر في بناية. أنت محمد الصغير.
ــــ أجل. ما يتبدل غير الجرذ، أجابه وهو ينظر إلى نوار شجرة التوت التي تتوسط القرية مترنحة ذات اليمين وذات الشمال وقد أيقظها النسيم الذاهب إلى بيته، أو إلى صلاة الظهر، أو إلى المقبرة القريبة. ثم أضاف: كيف أنساك؟ كأنك هاجرت البارحة. ما زالت علامات القبيلة في جبهتك، خدوش النوادر حيث سقطت، أشواك الجبل والضيعة، آثار البرد، كل شيء فيك يدل على أنك من هذه القرية، ما عدا تسريحة الشعر والوشم.
ـــ غيّرت اسمي. أصبحت فرنسوا. الناس في باريس ينادونني فغنسوا. الفرنسيون ينطقون الراء غينا كما تعرف.
لم يعلق محمد الصغير. كان غير مبال بالموضوع، كأنما شعر بأن هذا المزاح مؤلم وغبي، لكنه ظل يردد بصوت خفيض قادم من فجر النفس: الشامي شامي والبغدادي بغدادي، سبحان الله، من أمقران إلى فرنسوا، بل فغنسوا. نعم. همَ يضحك وهمَ يبكي. لا حول ولا قوة إلا بالله. قال لك فغنسوا. قالوا له ماذا ينقصك أيها الأعمى قال لهم الكحل، علامات الساعة.
ـــ هل زرت القبيلة؟ قبيلتنا؟ سأله محمد الصغير وهو يرد التحية على العابرين الضائعين في رؤوسهم. القبيلة وضيعة الأجداد وشجر التين في النادر، العجائز اللائي بمناديل مرقعة، بفساتين علاها الغبار، المراعي، النسوة المحزونات اللائي تكدس الغبار على أصابعهن المشققة الحزينة؟ الأصابع التي تشبه حالنا، تلك التي باركها الربّ وملأها كرما وبهجة. أصابع الجدات الفقيرات ببهائها العجيب. أصابع الجدات تشبه حسنات تفرك الشعير وتغرس الجزر والياسمين لليوم القادم. الأصابع التي لا تعرف الأقلام والبياض. دائما تمتلئ بالتراب المبين، التراب الذي جئنا منه، التراب الذي سلبه الأعداء واسترجعناه بالعذاب والدم، ذاك الذي يخبئ زادنا ويضيء أيامنا العابسة يا فرنسوا، أو فغنسوا. هل تتذكر غابة البلوط والزان؟ تلك الأصابع الأصيلة لن تحفظ اسمك لأنه يذكّرها بالألم والخيانة، سوف لن تفهمه، وستظل في عيونهن ابن القرية، أمقران الذي كان يأكل خبز الشعير باللبن. أمقران الذي عاش بالزيت، بالزيتون والبلوط وذهب إلى المدرسة مرتديا مئزرا من أكياس الدقيق والنخالة، من سروال جده، من القماش الذي كنا نلتقطه من نفايات النصارى.
ـــ لم أزر القبيلة، أجابه مترددا وحائرا، ليس بعد، أردف بعد أن تأمل الجبل المحيط بالقرية. هل تعتقد أن أهل القرية سيعجبون باسمي الجديد؟ هل سيقبلونه؟ إنه أفضل من أمقران على كل حال. اسم خفيف وجميل.
ـــ اسألهم. رد عليه محمد الصغير مبتسما.
لم تمر سوى دقائق قليلة حتى خرج المصلون من المسجد الصغير مرحبين بولد المختار ولد خديجة، الولد الذي تزوج هناك بامرأة قديمة وغيّر اسمه، امرأة رومية مستعملة واسم لا يشبه الجبل ووجوه الناس. كانوا يسألونه عن تلك المدن البعيدة، عن حياته وعمله، عن المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، عن العدالة والحرية، عن كل شيء ولا شيء.
أجابهم باستعلاء وأضاف حكايات خرافية نسجها خياله الصغير. قال لهم إنه في الجنة، في نعيم لا حدود له، قريبا جدا من الملائكة، لا شيء ينقصه سوى منصب وزاري، ولذلك بدَل اسمه، لذلك أصبح فغنسوا، هكذا، بالفرنسية، وليس كما ينطقه أهل القرية الذين ضيعوا حياتهم وآخرتهم في الوديان والأجمة بحثا عن أنفسهم وعن تاريخ لم يعد مجديَا.
ـــ أصبحت فرنسوا بن زبل. علق أحد الشباب مبتسما. نسيت أنك منّا، من لوننا، أسمر داكن وعلى وجهك ندوب قديمة ذهبت معك إلى فرنسا، ندوب الغابة والعليق، ندوب التراب والتاريخ. نسيت آثار الصندل المطاطي، نسيت البرنس والنعناع، ربما لم تتذكر القمل، إحدى علامات الصبا، ذلك القمل الذي صنعه الغزاة، نسيت الكوخ والدخان، رائحة خبز الشعير. نسيت كثيرا.
انتبه الضيف إلى اسمه العائلي وردد في سره: بن زبل. هذا ليس جيدا. فرنسوا وحده كاف، دون لقب. بن زبل لا معنى له، يبدو نشازا، إساءة كبيرة لفرنسوا. كيف رفض والدي أن أغير اسمي العائلي؟ قال لي سأطردك من البيت، أتبرأ منك، لن أعترف بك، ثم وبخني على فرنسا. قال لي إنك فاسد، فأر لا تاريخ له ولا أصل. انتبهت إلى هذا من قبل، قبل المجيء إلى هنا، قبل الجلوس في هذا المقهى الشعبي، قبل أن يأتوا. كان من الأفضل أن أقول لهم فرنسوا جان كلود. فغنسوا، وليس فرنسوا. نطق الفرنسيين جميل وشاعري. بقيت مسألة اللقب. نعم. الأمور ليست على ما يرام. سأفكر في المسألة، سأجد حلا بعيدا عن وصايا الوالد، بعيدا عن قهره. أما الآن فيجب أن أتحدث إلى هؤلاء، أزور حارتنا القديمة، لا أدري ماذا ستقول العجائز والنسوة، الشيوخ الذين كطوابع بريدية مثبتة هناك، في الروابي وأمام الأبواب الحزينة. الأطفال. لا بد أنهم كبروا. أطفال القبيلة فقراء، ثيابهم مغبرة، لكنهم رائعون ولهم سرَ السمرة والتمر. أبناء العمومة والأخوال.
تحدث كثيرا قبل أن يقرر زيارة القبيلة القريبة. كان يزن خطاه ويتأمل سرواله القصير وقميصه الذي كتب عليه: المجد لباريس. المجد للجمهورية الفرنسية. أذيع الخبر بسرعة الهشيم. أطلت النسوة من نوافذ الأكواخ الطينية ورأين ابن العشيرة القادم من وراء البحر بثياب عجيبة وتسريحة شعر تشبه تسريحة الهدهد. لم يكن فرنسوا يسمع سوى أصوات النوافذ التي كانت تنغلق محدثة قرقعة خفيفة، كن يبرعمن فجأة، وفجأة ينطفئن خلف الأبواب وهن مندهشات من أمقران بن زبل، ابن المختار وأم السعد. وكان الأطفال ينظرون إليه فاغري الأفواه وهم يتفحصونه من الألف إلى الياء غير مصدقين ما يرونه. أما الشيوخ فنظروا إليه ببرودة وأشاحوا بوجوههم المغبرة التي جللتها التجاعيد. كانوا يجلسون على حجارة أمام بيوتهم، يتحدثون عن الزمن، يبتسمون ويتنهدون ويسبَحون. لم يعلقوا عندما قال لهم بلغة أجنبية: أنا فرنسوا، فغنسوا، أنا أمقران. هل نسيتموني؟
سمعهم يرددون فيما بينهم بأصوات خفيضة: كبر أمقران بن زبل، ولد المختار القومي وأمَ السعد وأصبح فرنسوا، يحدثنا بلغة الغزاة نحن الذين طردنا الغزاة، كأنه لا يعرفنا، كأنه نسي من نكون. هذي علامة من علامات الساعة، نسي الزيت والتين والزيتون وخبز الشعير واللبن، تنكر لاسمه، ومن ينسى اسمه سينسى أصله، من يبدَل اسمه مستعد لتبديلنا بقميص. مستعد لإطلاق الرصاص على التاريخ، تاريخنا، وإذ تعالى صوت المؤذن نهضوا خفافا. كان الليل على أبواب القرية. لقد نامت الشمس والعصافير وذهب الناس إلى الجامع العتيق مطأطئي الرؤوس وفي البال يرنَ اسم فغنسوا، بالغين، وليس بالراء، كما ينطقه الأهالي المصرَون على التخلف.
أمّا فرنسوا بن زبل فقد شعر ببرد الخليقة وهو ينزل الرابية وحيدا، مطأطئ الرأس والأفكار.لم يقل شيئا، أحسّ بأنه ضال في أرض الربّ. لم تنفعه ضفيرة الشعر، لم ينفعه الوشم والقميص وسرواله القصير ولغته المتلعثمة، كان متعبا ومهزوما كأباطرة الأزمنة القديمة، وكان يردد في سره وهو في المنحدر: لن يتغيروا أبدا، أن أكون فرنسوا أو برنار أو إرنست أو جان كلود فذاك لا يعنيهم، إنهم مشدودون إلى الماضي، إلى أغاني الأرض وبهجتها، إلى النبتة والجدّ والجدول والساقية والذاكرة، هؤلاء هم أهلي، النساء والرجال الذين صنعوا مجدهم بالعرق والدم، بدموع الأجيال وألمها. علّمهم التراب الكرامة البشرية، وعلّمتهم الأدغال كيف يتكلمون بلغتها وسعادتها. أمّا أنا، يا إلهي! من أنا؟ هل أخطأت كثيرا؟ كيف نسيت البرنس والكانون والجوع والتين والموز الهندي وصلاة العيد؟ وكيف أعود إلى هنا؟ لماذا أعود؟ ولماذا لا أعود؟ إنني متعب. متعب جدا يا ملائكة الله. متعب جدا. غريب عنّي هنا وهناك.