ميرفت علي – سوريا
مَن ظنّ أنّ (جحا) مات، قصّرَ عن فهم منطق التاريخ في الانتخاب و الاصطفاء. وغابت عنهُ فلسفتهُ المؤسسة على تخليد الحماقة و الغباء و الجهل، أو القوّة
و العنجهيّة و التسلـّط، بإحياء رموز هذهِ السمة أو تلك في أذهان عباد الله، ليعلم الجميع من أينَ تؤتى العظمة و الخلود.
و ها هيَ الرياح قد جرت بما يشتهي جُحا، و تساوت حسناتهُ و سيـّئاتهُ في محكمة السماء، فعادَ حيّاً يُرزق، مسكوناً بهاجس النجوميّة و استرداد الشعبيّة التي طواها النسيان، أو كادَ يفعل.
هاهوَ يوضـّب حقائبهُ في أفخم فنادق العاصمة. و قد آلَ على نفسهِ أن يعيش عيشة مترفة، منفقاً من جائزة نالها عن تكافؤ الحسنات و السيئات، دونَ أن يدور بخـَلـَدهِ تدبّر أحوال معيشتهِ.
ــ سيعلم الكلّ أنّ حجا ليسَ محض خيال فذ ّ لمؤلف ظريف.
حدّثَ نفسهُ، و عشرات المارّة من نافذة مطلـّة على الشارع. و اختارَ زيّاً يلائم أذواق الناس:
بنطال جينز كحلي، و قميص أزرق مقلـّم بخطوط بيضاء، و صندل.
أما العمامة و السروال الفضفاض و الحزام العريض و القميص المتهدّل عن الأكتاف، فقد أخفاها جحا في صرّة.
و بقيَ حمارهُ الكنز النفيس و الورقة الرابحة التي لم يستطع إهمالها في رهاناتهِ القادمة. فبعدَ رشوة تلقـّتها إدارة الفندق، سُمحَ أن يُقام مربط للحمار في الحديقة الخلفيّة، بذريعة جذب أنظار السائحين، و إذكاء روح التنافس و الأفكار الخلاّقة بين المرافق و المنشآت السياحيّة.
في اليوم التالي زوِّدَ جحا بخريطة للعاصمة، و باشرَ باستطلاعاتهِ في أرجائها.
و رغمَ أنهُ نُصحَ بعدم اصطحاب الحمار لأنّ احتمالات المضايقة قد تهدد جولتهُ بالفشل، ومزاجهُ بالسوء، فقد ركبَ رأسهُ و امتطى الحمار مجتازاً بوّابة الفندق، مزهوّاً كطاووس، و أفسحَ بوّابان الطريق أمامهُ، و أخرجاهُ من مرآب سيارات الشبح و “المارسيدس” و “الليموزين”.
في الشارع العام، رأى الناس أعجوبة ربما غدت ثامن أعاجيب الدنيا في سجلّ (غينيس):
رجل يتزيـّا بزيّ سبور، تفوح منهُ عطور فرنسية رائجة السيط، يركب حماراً هرماً، يشخر أكثر مما يتنفـّس، و يرفس أكثر مما يخطو، و يسير في ركب من السيارات و الدراجات النارية و الحافلات و الشاحنات. يتوقف معها، و يمضي معها في إعاقة واضحة لحركة السير، و مخالفات في ارتياد الشوارع الفرعية،
و الحَرَن وسْطَ الدوّار و الساحات الرئيسية العريضة، و الرجوع إلى خلف حيثُ لا يتسع مجالٌ لذلك، أو الالتفاف و العودة من نفس الشارع، ضارباً أنظمة المرور بعرض الحائط.
أدركت دورية الشرطة الحمار و راكبـَهُ إثرَ مطاردة تعثرت بسبب عجز الدورية عن الوصول إلى هدفها في نقاط حساسة تموضعَ فيها. و صاحَ قائد الدورية في وجه جحا بانفعال:
ــ أأنتَ مجنون؟! ستتسبب بحماركَ هذا في فصلنا من الخدمة.
بقيَ جحا هادئاً، و لم يترجـّل عن مطيـّتهِ. فيما أجرى الشرطي ذو الرّتب مكالمة باللاسلكي، أبلغَ فيها رؤساءهُ بالقبض على مرتكب مخافة السير الذي دوّخَ شارع (السلام) زُهاءَ نصف ساعة.
اقتيدَ جحا إلى المخفر ممتطياً حمارهُ، بعدَ بلبلة أثارها احتجاجاً على أوامر الشرطيينَ بإدخالهِ السيارة. فسجـّلَ ثاني انتصاراتهِ في تأكيد علاقتهِ الوطيدة بالحمار المدللّ. و كادت تطقّ (مرارة) مَن شاهدهُ من الضحك، إذ سخرَ من الدوريّة بترقيص الحمار حيناً، و بدفعهِ للنهيق تارّة ً. و اضطرّ عناصر الدورية إلى كظم غيظهم حتى ساعة الحساب.
و في المخفر ربطَ جحا دابـّتهُ بجذع شجرة (كينا)، ظللت شطراً من الساحة. ثم وجدَ نفسهُ إزاءَ رجل صارم القسمات، هائل الكرش، كأنما حشِيَ برميلٌ تحتَ حزامهِ و قميصه.
و حينَ أُطلِعَ الرجل على أمر الموقوف، و قـُدّمَ لهُ ضبط المخالفة، سألَ رئيس المخفر جحا عن اسمهِ و سنـّهِ و عمله، و فوجئَ أيّما مفاجأة حينما ذ ُكرَ الاسم، فأغربَ في الضحك وسْطَ دهشة الحاضرين. و نط ّ بكرشهِ، و اختضّ بهِ يميناً و شمالاً، فاضطرّ الباقونَ إلى احتذاء حذوهِ من باب المجاملة.
ــ هل أنتَ حقاً جحا بعينه؟، و مهنتكَ إسعاد الناس بالتغابي و التحامق؟
قدّمَ جحا أوراقهُ الثبوتيّة و شهادة السياقة، فبلغَ العجب من رئيس المخفر أشدّهُ،
و غابَ و الباقون في نوبة ضحك جديدة انتهت بقول رئيس المخفر، و آثار الضحك لا تزال عالقة بوجهه:
ــ اذهب يا ابني، و جدْ لكَ طبيباً عصبيّاً يشفيك، و بالنسبة للحمار فلا تقودهُ إلا في الأماكن المخصصة للسياحة الشعبية، و إلا صادرناه، و أوقفناكَ مجدداً.
غادرَ جحا المخفر مغتبطاً. و لِمَ لا؟، إنهُ نجم الجماهير، و باستطاعتهِ أبداً أن ينجو من المهالك، أن يتحامق و يثير الضحك و الإدهاش متحدّياً مهرّجي السيرك و بهلواناته.
و أمضى جحا أزهى أيامهِ متنقـّلاً من ضاحية إلى أخرى، و من نزلّ إلى آخر.
و تأكـّدَ لهُ و قد مسحَ المدينة بالكامل أنّ شعبيـّتهُ لم تهتزّ. فالقهقهات و التندّر يلازمانهِ حيثما حلّ. و قد سجـّلت حالات إغماء و إسعاف للمصابين بنوبات تورّم الضحك، و تشنـّجات الخاصرة المباغتة، التي تزامنت مع جولاتهِ العديدة بدءاً من المقاهي الشعبية و الخانات و الأزقـّة العتيقة و الأسواق المسقوفة
و الأحياء المغلقة و الدور المحنّطة بالألغاز و الجدران العالية، وصولاً إلى أفخم الفلل و الفسحات و المرائب و الطرق المشجـّرة و الحدائق المنسّقة و مطاعم الوجبات السريعة و المسارح و المراقص و المعارض و (الديسكوتيكات).
و نسيَ جحا في لهاثهِ المحموم وراء الشهرة، أنّ الزمن ابن زانية، لا يحفظ عهداً، أو يرعى ذمّة، و أنّ (من عزّ بإقبال الدهر ذلّ بإدباره) و ألفى نفسهُ يوماً و قد نفذ َ آخر درهم من جيبه، فوقفَ يجيل الفكر في أمور معيشتهِ، و اضطرَّ إلى المبيت على قارعة الطريق، تحتَ (الفراندات) و الشرفات إلى أن يقضي الله أمرهُ. و سوفَ لن يتجاهلهُ محبـّوه في ظرف كهذا.
التمسَ جحا بحمارهِ سبلَ الرزق، و دقَّ كل الأبواب، من بهلوان في سيرك، إلى
(ضاحك ليل) في ملهى، إلى (كومبارس) في مسلسل من الدرجة العاشرة، و نجم إعلانات سلعيّة رديئة، و مؤدّي أغنيات هابطة، و ممثل مساعد في المسرح التجاري، و بوّاب خمارة، و ساق في مقمرة، و حاجب في حظيرة، و ناطور بناية، و ماسح أحذية، و كنّاس شوارع، و راقص في فرقة (سماح) أفلَ نجمها،
و نسيها عشّاقها، و لم يفز بأيٍّ من تلكَ المهن، فقد كانت محتكرة بشدّة،
و رهن تدافع ذئبي مسعور للحصول عليها.
و حمارهُ
الذي لازمهُ زمناً على السرّاء و الرّغد، ذو الحسب و الخبب، لم يشفع لهُ في رزق، و رفضَ كثيرونَ شراءهُ أو اكتراءهُ لسدّ حاجات التبضـّع و التحميل
و أفلام السينما و مدن الملاهي، و حدائق الحيوان، علماً أنّ صاحبهُ رددَ مراراً مذكـّراً الناس:
ــ أنا جحا الطريف، و هذا حماري الحَرون الظريف.
و استبدّ الجوع بـِجحا و حمارهِ، و ابتـُليا بشحوبٍ و هزال لم يعهدا نظيراً لهُ في زمانهما الأول على قلـّة مواردهِ و أرزاقهِ. فلم يجدا بدّاً من التسكـّع و استجداء المال و الرغيف، فتحوّلَ جحا إلى شحـّاذ يجرّ خلفهُ حماراً ضامراً، و خيبة
و خذلاناً. و لم يُجدِهِ نفعاً استبدال هندامهِ العصري بلباسهِ التقليدي و عمامتهِ
و خفـّهِ، و لا سرد حكايا مغامراتهِ و نوادرهِ و مُلـَحه في استدرار شفقة و تعاطف الناس الذين سئموا ذلكَ الإرث (المليح) من زمان.
و عادَ جحا إلى الحارات القديمة يبحث عن أنصارهِ القدامى، الذينَ أضحكهم زماناً و بعضَ زمان ، فتنكـّرَ الجميع ليدهِ المبسوطة، و أرتجـَت الأبواب و النوافذ و المشربيـّات في وجهه، و أغرى نفسهُ بالحارات الجديدة، و مساكنها المترفة، فيمـّمَ شطرها متشاغلا ً بالأمل عن آلام ساقيهِ و فقرات ظهره، و عواء معدتهِ الأصمّ، و احتضار حمارهِ الطيّب الحبيب ، فلقيَ من الصدّ و الطرد و التقزز
و الاشمئزاز ما لن يلقاه لو قـُدِّرَ لهُ أن يحيا ألفَ جيل.
ذاتَ ليل
فيما كانَ يمضي يائساً، وقعت عيناهُ الذابلتان على حاوية قمامة، و أسالت لعابهُ
و مخيـّلتهُ أكياسها المكدّسة، و الصناديق و العلب المتراكبة بعضها فوقَ بعض.
و إزاءَ عواء معدتهِ، و حالة حمارهِ المزرية، و نهيقهِ المتخافت، و زفراتهِ الثقيلة المتقطـّعة، اتـّجهَ جحا إلى الحاوية بغبطة من وقعَ على كنز. و ما كادت يدهُ تسحب أول كيس، حتى أسقطها و ما فيها مقبض مكنسة الزبـّال، الذي طردَ جحا صائحاً:
ــ أتتعدّى على أرزاق غيركَ؟
فرَّ جحا كأنما من كلب مسعور. و لطأ وراء عمود كهرباء منتظراً مغادرة الزبـّال للشارع. و لدهشتهِ، لمحَ الرجل يجمع الأكياس السود و العلب
و الصناديق في كيس خام كبير، و يمضي بهِ على ظهره مصفـّراً فـَرِحاً.
أدمعت عينا جحا، ألقى نظرة على الحمار و جسَّ نبضهُ، فألفاهُ قد فارقَ الحياة،
و نظرَ إلى الحاوية فوجدها منهوبة عن بكرة أبيها. و ما لبثَ أن تحوّلَ نحيبهُ إلى نشيج، و نشيجهُ إلى تفجـّع و ندب قبلَ أن يبسط يديه إلى السماء و يضرع قائلا ًبعتب:
ــ ربـّي، يا محيي العظام و هيَ رميم ، لِمَ بعثتـَني حيـّاً في زمن ٍ ميـّت؟!
ألا فأهلكني من ساعتي، أو أعدْني إلى زماني الأول . لوْشحـّاذاً، لو حماراً،
أو كلباً أجربَ، صعلوكاً، و حسبي بذلكَ فخراً و فضلا ً و مِنـّة.
أنا جُحا الطريف، أبو الحمار الظريف.