عبد الهادي الفحيلي: الأدب يصنع الحياة ولا يصارع من أجل حشد الأنصار والمريدين كما يفعل العلم والسياسة.

حاوره عبد الواحد مفتاح

هو كاتب وقاص مغربي عرف عنه اشتغاله على تكسير البنية الكلاسيكية للقصة، وهدم بنائها المتعارف عليه، في أعماله التي تتسم بتلك القدرة المخلخلة على تكسير أفق انتظار القارئ دائما.

عبد الهادي الفحيلي بالإضافة لأنه أحد الكتاب الذين فجروا كامل طاقتهم الإبداعية في فن القصة، التي عمل في تجريبه على تجديد أبنيتها، وتغيير أسلوبها، هو شاعر يوظف أدوات قصيدته في قصته -هو شاعر ماكر بهذا المعطى- إلا أنه يبقى أحد الأسماء المغربية اللامعة والتي أعطت الكثير لطموح الرقي بالقصة القصيرة،

في هذا الحوار يطلعنا على جانب أساسي من اشتغاله، ويعري لنا عن أرائه ومواقفه بخصوص الساحة الثقافية المغربية.

• أنت قاص وشاعر، غالبية الكتاب يكتبون القصة بأدوات الشعر، أنت قلبت المعادلة، تكتب الشعر بلذة القصة. من أين لك بهذه الخوارزميات؟

سؤالك يجعلني أتساءل بحيرة: هل أنا فعلا أكتب الشعر؟ إلا إذا كان المقصود بكلامك ما عبر عنه أحد الرومنطيقيين، لا أذكر اسمه، حين اعتبر الشعر يجعل الأشياء الأليفة تبدو كأنها غير أليفة. الشعر يسكن عميقا في الحياة. معنى ثاو في الأشياء والأديب يكشف عنه. أفلاطون اعتبر الشعر محاكاة للعالم المحسوس في حين اعتبر تلميذه أرسطو المحاكاة معرفة واعتبر الشعر أسمى من الفلسفة. لا أتحدث هنا عن القصيدة أي ذلك الشكل أو “الإخراج” الفني الذي يتخذه الشعر. أتحدث عن ذلك النسغ الذي يسكن الأشكال الفنية والإبداعية ويجعلها قابلة للتذوق ولتحقيق اللذة التي لا يمكن تفسيرها لأنها ليست حسية. كتبت قصائد وراكمت ما يقارب ديوانين لكني لم أطبعهما لأنني وجدت ضالتي في السرد.

• لمن و لماذا يحكي القاص فيك أنين قلمه و ابتسامات قلبه ونبض ذاته ؟

أكتب لأني أجد نفسي مدفوعا بقوة خفية للكتابة. الكتابة حال تستعصي على التفسير والتحديد تتلبس الكاتب. قديما كان العرب يعتقدون أن الشعراء يستمدون الإلهام من الجن والشياطين في وادي عبقر. إذن هناك قوة غير محسوسة تدفع للكتابة، ولا تضع نصب اهتمامها متلقيا معينا. أكتب وكفى لأتخلص مما يعتريني من توتر وانفعال وقلق. لأتطهر. لأترك المجال لقلق آخر. لأصرخ في وجه القبح والتشظي. وعندما يستوي النص يطل المتلقي في الأفق عساه يقاسمني ما أكابده.

• ما هي الأسماء التي أضاءت مخيلتك وتأثرت بها، وما زلت تقرأ لها إلى اليوم؟

قرأت للكثيرين حتى اختلطت في ذهني الأسماء والعناوين. بعد محمد عطية الأبراشي الذي فتح ذائقتي في أولى سنوات دراستي الابتدائية، على عالم الحكاية، أتى زكريا تامر، وكتب التراجم والأعلام. ثم اكتشفت عالم جرجي زيدان الذي زج بي في القراءة التاريخية. لكن ما كان له بالغ الأثر في ذائقتي ومخيلتي هي روايات الكبير نجيب محفوظ، حيث التهمت رواية “اللص والكلاب” في سنتي الخامسة الابتدائية. كانت لأخي الأكبر صندوق كتب زاخر بنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وجبران خليل جبران والمنفلوطي والعناوين الأدبية التي كانت تصدرها وتنشرها “دار العلم للملايين” اللبنانية، وعدد لا بأس به من مجلة العربي. في المرحلة الثانوية ولجت عالم محمود درويش والمعلقات والشعر المترجم وعالم عبد الرحمن منيف وحنا مينة ومحمد شكري وزفزاف والخوري وبوزفور وهلم أسماء عديدة لمبدعين كبارا. في السنة الأولى ثانوي نظمت قصيدة من خمسين بيتا على بحر الطويل عن القضية الفلسطينية، أذكر كيف أن أبي نهرني عندما سمعني أنشدها على مسمع أختي، وقال لي: “هاذ الشي كيسيفط للحبس”. أقرأ لأسماء عديدة من مشارق الأرض ومغاربها: بيسوا وإدغار ألان بو وغوغول وتشيكوف وكافكا وتولستوي ودوستويفسكي، واللائحة طويلة. تأثرت بإلياس خوري وماركيز وكورتازار وبورخيس وماريو يوسا وإيتماتوف وياسوناري كاواباتا وإبراهيم نصر الله وجبرا إبراهيم جبرا. لا يتسع المقام لذكر جميع الأسماء. الكاتب الذي لا يقرأ لا يكتب.

• من هو قارئك المفترض؟ كيف تتصوره؟ كيف تتوقع تفاعله مع إنتاجاتك؟

كما قلت سابقا لا يحضر القارئ في أفقي إلا عندما يستوي النص ويتخذ سبيله إلى النشر. لا أتصور مطلقا “شكلا” ولا “نوعا” معينا لمن سيقرأ لي. أكتب ثم “أغمض عيني” وألقي بعصاي، فمن يشاء يتلقفها بقبول حسن ومن يشاء يلعنني و”يدعو” لي بالثبور والخسران. ما يهمني هو أن المتلقي يوجد بالضرورة وبقوة الوجود. لا أخفي أنني قارئ نفسي في مرحلة أولى. أكتب وأشذب وأنقح. أسخر من نفسي تماما كما يفعل قارئ لا يرضى عما يكتبه كاتب ما.

• تتعدد مدارس القصة الحديثة.. فهل تصنف نفسك ضمن واحدة منها، عربية أو غربية؟

لا أدعي لنفسي هذا الشرف. أكتب عندما يمسك شيطاني الأرعن بعنقي ويملي علي آياته. تندفع الأحداث والشخصيات وتخلق عوالمها دون أن أرسم في ذهني وجهة محددة أو طريقا معينة أو أسلوبا. تتدافع الأشياء في مخيلتي لتلفظها كلمات وجملا وفقرات. يبقى للناقد أن يصنف ما أكتب وفق مرجعياته وتصوراته. لكن ما أكاد أجزم به هو أن نصوصي مزيج من مدارس شتى بحكم مقروئيتي المتعددة والمتنوعة.

• تنشر في الأنترنت وعلى الورق أيهما أفضل بالنسبة لك ؟

النشر في الإنترنت خلق لي مساحة لا بأس بها من الانتشار. أنا مدين له بهذا الفضل. النشر الالكتروني سريع ومباشر ويتيح ذلك التفاعل بينك وبين القراء، ويفرض نفسه بقوة ومستقبل الكتابة مرهون به. لكن النشر الورقي له بريقه الخاص. عندما أطالع نصوصي في صفحات المنابر الورقية أشعر بفرح عجيب، بفرح طفولي، كأنني حصلت على لعبة مشتهاة أو نجحت في امتحان بعد كد وعناء.

• ما نوع الدعم الذي يحتاجه المبدع لمواصلة علمه؟

المبدع نهر جارف لا ينضب ولا يتوقف إلا فيما ندر. الإحباط والقلق يعتبران تلك البحيرة التي يستقي منها المبدع شرارة إبداعه أو هما المحركان لذلك. وأفضل دعم له هو قراءة أعماله ونشرها على نطاق واسع. نحن نعي تماما حجم وشكل المآزق التي يتخبط فيها الفعل الثقافي والإبداعي في بلادنا وفي مثيلاتها من البلدان الفاقدة للبوصلة. لكن على الأقل ينبغي دعم المبدع ولو معنويا بالاهتمام بنصوصه والتعريف به. المبدع لا يبحث عن مكانة مرموقة وعن نجومية، فقط يبحث عن قراء وعن محبين مجانين مثله.

• ما هو الأقرب إليك من خلال تجربتك السردية الثمينة القصة القصيرة التي تختزل كل شيء في سطور قليلة أم الرواية ذاك العالم الذي لا حدود له..؟؟

نبهني الكثير من أصدقائي من مبدعين ونقاد وقراء إلى أنني أكتب القصة القصيرة بنَفَس الرواية. وعن تجربة متواضعة جدا أقول إن كتابة القصة القصيرة أصعب و”أشقى” من كتابة الرواية. هناك من يكتب الرواية حتى دون أن تكون له “سوابق” في الإبداع وقد يأتي من مجالات فكرية ومعرفية بعيدة كل البعد عن الأدب. لكن القصة القصيرة نوع إبداعي مشاكس ومتمرد لا يجيد ضبط إيقاعاته غير الكتاب المُخلَصين لذلك تستعصي على تحديد النقاد والدارسين. أما الرواية فهي عالم منفتح على التجريب واختزال مختلف الأشكال الفنية والمعرفية مما جعلها لا تكتمل. ورغم ذلك فالكتابة الأدبية لا تعطي أسرارها لأيٍّ كان، يعني أنه لا يكفي لكي تكتب أن “تنوي” ذلك فقط. حاليا أعكف على كتابة بعض الأعمال الروائية ربما يرى أحدها النور قريبا، دون إهمال كتابة نصوص قصصية قصيرة.

• هل تؤمن بأن الأدب قادر على المساهمة في صناعة رأي عام ؟ وكيف يمكنه ان يقوم بهذه المهمة؟

الأدب يصنع الحياة. الأدب لا يصارع من أجل حشد الأنصار والمريدين كما يفعل العلم والسياسة. الأدب ارتقاء نحو آفاق التجانس والملاءمة بين المتضادات والمتناقضات. يفتح الأبصار والأفئدة على الأشياء التي لا يلتفت إليها أحد. الأدب يتسامى عن الصراعات والإيديولوجيات كيفما كان نوعها. هو تلك المساحة التي تتيح للإنسان أن يتنفس بعمق وبحرية مطلقة. الأدب لا يحارب كي ينتصر لأنه عابر للحياة وللنُّظُم وللمعارف والفكر.