عبد الله القصيمي الطائر النادر
عبد الواحد مفتاح
مهما اختلفت حوله الآراء، وتضاربت عليه الأقوال، يبقى عبد الله القصيمي كما يرى إلى ذلك كثير من مُجَايليه ومتابعيه، أحد أكثر الأصوات الفكرية صدقا ووضوحا في المشهد العربي، رغم ما كيل له من اتهامات لم تستطع أن تنزع عنه صفة رجل ذو وجه واحد، يؤمن إيمانا عميقا بالخير وكرامة الإنسان .. بلا هوادة أو مُمالقَة وبلا أي قناع، قدم أطروحة ناصعة البياض في نقد الميتولوجية العربية.. بعدما قضى عشرين عاما يُدافع عن الوهابية ضدا في علماء الأزهر والشيعة معا، يحارب هنا وهناك ..إلى أن كان أحد أهم شيوخها الواقفين في وجه كل عدو إيديولوجي لهذه العصبة الدينية .
غير أن مذهب القصيمي في تسطيره الفقهي كان البحت والتقصي و الإعلاء من شأن الدليل والحجة، أحد أدوات عدته الفكرة التي لازمته في كل مراحل بحته وسنوات عمره، إلى أن كتب في عام 1946 كتاب “هذه هي الأغلال” الذي وصف فيه العوائق الإبستمولوجية والقيود التي تقف في وجه تقدم العالم الإسلامي، هذا الكتاب الذي سيكون نقطة التحول الكبرى في مسار القصيمي الفكرية، والذي ستعقبه مؤلفات كثيرة كان مصنفه الذائع الصيت “العرب ظاهرة صوتية ” أحد أبرزها، هذا الكتاب الذي تلقّفه كثيرون بدهشة بكر وفي الطرف الأخر بجدال – قديم جديد – حول مشروعية أي نقد للخط العام للفكر العربي الذي تنخره التقليدانية، ويشوبه العجز المدقع عن أي إبداعية مؤثرة. وهذا ما يقف عند ضفافه مشروع عبد الله القصيمي: المسلمون اليوم يقفون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يستفيدوا من التراث العلمي للبشرية أو أن يبقوا متخلفين جهلة، ولكي يتخلصوا من الركود الذي هم فيه، ما عليهم إلا أن يعرفوا أنه لا يوجد معرفة ضارة ولا جهل نافع، وأن كل الشرور مصدرها الجهل وكل الخير مصدره المعرفة.
يقول انسي الحاج – مؤسس مجلة شعر إلى جانب أدونيس – عن عبد الله القصيمي (مستخدما لغة شبه عامية) :
- أنسي الحاج
“ اقرؤوا القصيمي ، لا تقرؤوا الآن إلا القصيمي. يا ما حلمنا أن نكتب بهذه الشجاعة!
ياما هربنا من قول ما يقول! ياما روضنا أنفسنا على النفاق، وتكيفنا، وحطمنا
في أنفسنا الحقيقة، لكي نتقي شر جزء مما لم يحاول القصيمي أن يتقي شر
قوله في كتبه. ويهجم على الكلمة هجوم البائع الدنيا بكلمة. ولا يرتاح له عصب.
ولا يتراجع من اللسان . ولا تصدقه عيناك! “
القصيمي الذي أَثرَت كتاباته الرصيد النقدي للفكر العربي على ما فيها من شحنات عاطفية ومفاهيمية فلسفية ..ظل أسلوبها الشذري محافظا على طراوته اللغوية الصافية، إذ تُعد هذه الشذرات التي التَفت لها كثير من النقاد، على أنها من أعمق وألد ما كتب من شذرات في الأدب، كما أنها الأكثر جرأة على طول العمود الفقري للتاريخ العربي، هذا نفسه ما سيجُر له صراعات فكرية وسجَالية مع كتائب من الفقهاء وجيوش من المحافظين، وأخرى أكثر حدة مع عدد من الأنظمة السياسية التي سنّت قوانين بأكملها لمنع كتب القصيمي وتجريم تداول أفكاره، والسبب بسيط جدا فهو لم يجرؤ على نقد التراث فحسب، بل نادى إلى هدم كثير من يقينياته، خاصة ذات الطابع الخرافي منها، فقد عمل عبر عديد كتاباته على تسليط نور العقل على كامل جسد الموروثات المُؤسسة للمعرفة عند العرب بشقيها العقلي والنقلي، المُعوقَة للتفكير الحر والإبداع الخلاق، في دعوة لإخراج الإنسان العربي بالخصوص من قصوره في حق نفسه، الذي أذى إلى تعطيل عقله، وهذا ليس راجع بالضرورة إلى خلل في هذا العقل، وإنما إلى فقدان الشجاعة والعزم – الشجاعة هذا الفعل النادر –
فعلى امتداد البؤس العربي الممتد في الجغرافيا والمسافر في التاريخ رجوعا، لم تتمكن الشجاعة العقلية على الحضور، إلا مُدانة أو على نحو هامشي ومنسي،
فالسلطة الفقهية وعملُها على التّحكم في وعي المجموع العام للأفراد، وطول فترة هذا التحكم، جعلت العربي يراكم مسافة الحذر من أي نقد أو نقاش، يقول القصيمي في إحدى شذراته “تحضر الإنسان خارج المحراب ولم يتحضر داخله” ذلك أن ما يصنعه الإنسان هو أعظم من الإنسان، وهذا هو دَيدن العربي الذي صار سجين تمذهبات فقهية وخرافية، هو من صنعها وأسس لهذا الصنع
عبتا حاول عديدون صد أفكار القصيمي، وتكميم أرائه تارة بالوعيد وتارة بالترغيب، وقد أُلفت كتب كثيرة تحاول الرد عليه ومنها : كتاب “ تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في اغلال” لعبد الرحمن السعدي، وكتاب “ الرد القويم على ملحد القصيمي” لعبد الله بن يابس.
إلا أن هذه الكتب سرعان ما خفت صوتها، لطبيعتها الهجومية الغير المتوازنة، ولإغراقها في رديكالية تنتمي لأدبيات القرون الوسطى، لم يلتفت لها كثير من المتتبعين خاصة في الأوساط الفكرية، فكانت محاولتي الاغتيال التي تعرض لهما، الأولى في لبنان والثانية في مصر، كطلقة غادرة من شيوخ الكهنوت الذين لم يستطيعوا مقارعة منجز عبد الله القصيمي، بالحجة والدليل المعرفي هذا المنجز الذي عرف طريقه رغم كل أساليب المنع وظروف الرقابة البوليسية، إلى أن صار علامة فارقة في تاريخ النقد العربي، يقول أدونيس عن عبد الله القصيمي : لا تستطيع أن تمسك به. فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئا. يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا. إنه الوجه والقفا: ثائر ومتلائم, ملتزم وغير ملتزم، بريء وفتاك. وأنت عاجز عن وصفه. فهو بركان يتفجر.
أدونيس أنسي الحاج عبد الله القصيمي عبد الواحد مفتاح مفتاح 2015-09-03