حاوره عبد الواحد مفتاح
يعتبر الشاعر عبد الغفار العوضي، من شعراء قصيدة النثر المتحمسين لها، والمنمين لسرديتها التعبيرية، في بحثه الدائم في الأساليب والأشكال، وهو إلى ذلك شاعر اختبر أكثر من مرحلة، وتجاوز عدة عتبات مضمونيه في تجربته، التي راكمت منجزا غنيا رغم قصر عمرها البيولوجي.
فصاحب ديوان (شجرة الغرائز) وما عمل عليه من شحن عميق لقصيدته، جعلها تحتل مكانة مميزة وأنيقة. في هذا الحوار ننصت لهذا الشاعر المرهف ونرى إليه وإلى تعريفه للشعر، وأيضا إلى قضايا تضل لازمة في منجزه.
-
كبداية لهذا الحوار، ما فاتحة النص الذي ورطك في عالم الكتابة؟ خبرنا قليلا عن البدايات.
من الصعب تحديد من أين تنبع الكتابة، هذا يشبه الوعى المفاجئ بأننا داخل حلم ..من أين أتينا ..ومنذ متى ابتدأ الحلم ..لا ندرى ..ولكن من المؤكد أن الكتابة تنشأ من خلال إدراك أننا على نقيض مع هذا العالم، الإحساس بالألم نتيجة أننا لا نحصل على إدراك مطلق بالذات وماهيتها ووظيفتها الوجودية، هذا مقترن بالطبع مع السقوط اليومى فى عاصفة الحياة والبحث عن الخبز والتعايش مع كم هائل من الضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتى من خلالها يتشكل وعينا بالعالم وبالذات وسياقها الاجتماعي والوجودى.
من المهم الاقتراب من المفهوم الجدلى لعلاقة الذات بالواقع الاجتماعي والطبقى لاكتشاف الحياة ضمن تناقضاتها الأساسية والتفاصيلية الصغيرة، هذا الحراك المتغير والدائم هو ما ينتج المعرفة والشعور بما حولنا، كل ما بالداخل هو انعكاس أيضا للخارج ولكن عبر مفهوم مختلف للمرآة التى تتغير وظيفتها، فى الخارج العالم ينمو ويتوحش من خلال قانون الربح والمصالح القومية والصراعات على السلطة وتقسيم الثروات والجغرافيات التى يتم انتهاكها بحثا عن فائض النفط والخامات، هذا الخارج بعلاقاته المتشابكة والمعقدة والمعزول عن الذات باعتبارها هامشا وماهية عاجزة عن التأثير المباشر فتتجه لإنتاج عالمها الداخلى والخاص والمرتكز على أسس مغايرة، تستمد طاقتها من الخيال والرفض والانتماء للضفة الأخرى، هذا جزء من غريزتها في الهرب وتكوين نسق وجودى آخر وبعيدا عن هيمنة القانون والسلطة والمجتمع.
من هذا المفهوم الجدلى يمكنني تحديد موقع متى بدأت كتابتى الحقيقية لقصيدة النثر، بعد ثورة 25 يناير فى مصر شكلت الثورة بمفهومها الكلى وعينا المثالى والذى يهدف لتكوين عالم جديد قائم على هدم النظام القديم بتمفصلاته الاجتماعية والسياسية والطبقية، كانت قصيدة النثر والأدب الروائى تمثل مع باقي أنواع الفنون من التشكيل والنحت والموسيقى والأنواع الأخرى ليس مجرد شكل ثقافى وإنما وسيلة أساسية من وسائل التغيير ، الثورة لا ترتكز فقط على الانتفاضات الشعبية والجماهيرية ونمو المنظمات العمالية والشعبية وغيرها، وإنما يشكل الوعى المناقض والثورى قائدا أساسيا لتوجيه مسار التغيير، الفن والكتابة هنا تغيير عميق في الوعى المعرفى وعلاقته مع الخارج، الكتابة باعتبارها فعلا ثوريا ليس على المستوى السياسى المباشر والجاف وإنما الحفر داخل طبقات السلطة والمجتمع بكل تكويناتها الثقافية والنفسية والاجتماعية والوجودية والدينية، ولذا تتجه كتابتي إلى الانحياز للقضايا الكبرى ليس باعتبارها إحياءً لموروثات فكرية ميتة، مثل الوطن والعالم ومركزية البطل فى سردية التغيير كما تقول ما بعد الحداثة التي تتجه إلى تفتيت العالم والذات وبعثرة الماهية وتشتيتها داخل مكونات ثقافية معولمة وبعيدة عن جذورها المعرفية، ما بعد الحداثة التى تمجد الذات الفردانية المهمشة والباحثة عن لذة الهرب والانتماء والمنتمية لعوالم الجنس واستهلاك المفاهيم السطحية عن العاطفة والحب وعلاقات الجسد بالآخر، هذه المنظومة الشعرية والفنية المعزولة عن سياقاتها الاجتماعية والسياسية والتى تحاول أن تكون حيادية ومهمشة فى عالم يتجه إلى الانحطاط والتآكل الداخلى وسيطرة مفهوم السلعة والتسويق التجارى لكل شيء باعتباره قيمة قابلة للتبادل مقابل المال .
وفى المقابل أيضا تعمل قصيدة النثر على اصطياد تلك الغابة من الجمال الآخر ، المرأة، ليست هذا الجسد الشهوانى الذى نبحث عن وسيلة لامتلاكه، وإنما عن امتلاك شفافيته وبياضه المطلق ضد الأسود والحزن والاستلاب الذى نعيشه، المرأة فى قصيدة النثر لا تتحدد باعتبارها كائنا جنسيا فقط وهذا جزء لا يتجزأ من غريزة قصيدة النثر فى تعبيرها الفنى عن الشهوة واللذة وعوالمها الجمالية اللانهائية باعتبارها بحثا عن الاكتمال مقابل التفتت ، والوصل بديلا عن التيه والاغتراب ،والطمأنينة مقابل الخوف والموت .
وإنما أيضا عبر تمثلاتها الجمالية والمجازية والتى تعكس تناقضات طبقية ومعرفية فى السلوك البشرى ، المرأة تعكس كما هائلا من تصوراتنا الذكورية عن العالم وتقسيماتنا الجنسانية لكل من المرأة والرجل فى عالم تحكمه سلطة رأس المال بنفوذها الأبوى وتحالفها مع النص الدينى بتأويلاته الرجعية والعنصرية ، وبالتالى تقوم قصيدة النثر عبر وعيها النقدى والرؤيوى لتفكيك تلك المنظومة المتوارثة والحفر داخل جذورها التاريخية والاجتماعية ، وتناول الجسد الأنثوى فى سياقات تعبر عن الجغرافيا الإنسانية بمختلف تنوعاتها النفسية والعاطفية والصوفية وحتى باعتبارها صورة جزئية تعكس المفهوم الكلى لصورة الله والوطن والطبيعة والنفس الانسانية.
-
هل ترى أن قصيدة النثر التي تكتبها بإخلاص كامل قد حققت الوعد الذي انفجرت عنه؟
قصيدة النثر لا تشبع الذات، إنها الجوع المستمر للتغيير والحلم الذى لا يأتى ، أو ربما يأتى ولكن بعد خسارة كم هائل من الدم والبيوت والعرق كما يتجلى فى الثورات المناضلة من أجل التحرر ،وبالتالى لا يمكن اعتبار قصيدة النثر بأشكالها الفنية والجمالية الحالية هى الشكل النهائى للتجربة الشعرية وممارسة الوعى من خلال المجاز والتكثيف والرؤية العميقة للعالم ، قصيدة النثر تنفجر من داخلها ، مشكلة تكوينها المتجدد واللانهائى والمنفتحة على أشكال وصيغ سردية متعددة ومنتمية أكثر للفنون الأخرى عبر تمازجات مع السرد القصصى والروائى والفن التشكيلى والإستفادة من التقنيات السينمائية والصورة والإنفتاح الكلى على المعجم اللغوى الشعبى والمهمش، بذلك تكون قصيدة النثر رئة بديلة للإنسان، ومتاخمة للإنعتاق الدائم من النمطية والجمود عبر ثورتها الجمالية وتحررها حتى من نفسها.
-
وهذا يشدنا إلى السؤال الجوهرى : ما وظيفة الشاعر ؟
هناك انفصال بين الشاعر باعتباره كائنا اجتماعيا وبين مُنتَجه الجمالى والشعرى، القصيدة ليست الشاعر بشكل كامل، انها الانعكاس الجمالى بداخله والتى تحاول الهرب من لاوعيه وتتفكك من تناقضاته وتكشف عن حروبه الداخلية فى امتزاجها الملعون مع الخارج بسياقاته المتعددة ، وهذا ما يعطى للقصيدة خصوصيتها وانعتاقها عن الشاعر ، والذى بحكم تكوينه الطبقى والاجتماعى والثقافى محكوم بمنظومة معقدة من العلاقات والقوانين والنظم الإجتماعية، وبالتالى نحن نتكئ على الشعر ووظيفته باعتباره الخطاب والمتن الثقافى الأكثر فعالية فى التغيير والتعبير عن عمق القضايا، لا يمكن تحديد وظيفة للشعر إلا باعتباره هدما وإعادة إنتاج ،قصيدة النثر ليست تعبيرا عن الواقع ولا تعبيرا مجردا عن المشاعر والعاطفة والاحساس بالجمال ، وإلا كانت تقوم بوظيفتها الأرسطية القديمة وهى المحاكاة .
تنبع وظيفة قصيدة النثر باعتبارها العالم الآخر المنفى والمنبوذ والمهمش ، انها تبحث عن اللاطمأنينة وتجردنا من المنطق والتمسك بالثوابت والعقائد ، تحررنا من الخوف والقانون والسلطة، قصيدة النثر تنبع من الألم المطلق والصراخ والتمرد ضد كل الهيمنة السائدة لرأس المال بمنظومته الأيديولوجية والثقافية ومعطياتها الفنية والتداولية، قصيدة النثر منافسة للسوق الاستهلاكي، لا تنحاز للجمال بقدر ما تنحاز للقبح والتدمير والتآكل والعفن والغبار والعرق..
من هنا تشكل قصيدة النثر فى مفهومها الجمالى المغاير عن وجودها فى المنطقة المعتمة من العقل، انتهاكها للمقدس، نبشها المستمر عن الجثث والأفكار والله والجدوى والقانون وسلطة الواقع، تتجرد من اللغة المؤدلجة لأنها تهدم الأسس البنيوية للمعرفة السائدة ، الخلاص من المنطق النهائى وهيمنة العقل ووجود حقيقة واحدة ومطلقة.
-
ماذا أضاف الفضاء الأزرق على الانترنت لقصيدة عبد الغفار العوضي؟
يتيح الفضاء الإفتراضى فرصة هائلة لانتشار تجارب نوعية وواعية لكتاب ومبدعى قصيدة النثر، باعتبارها ساحة مجانية وجماعية للنشر، وبعيدة نسبيا عن الالتزام بقواعد اجتماعية وسياسية، انها تعمل على نفى الرقابة من الداخل، ومساءلة الواقع الاجتماعى وإتاحة المجال للمناقشة فى كل المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكنها أيضا تعبر عن الخليط العشوائى الطبقى والثقافى والمنتمى لمختلف الطوائف والانتماءات الأيديولوجية والحزبية مما يجعلها تعكس طبيعة التناقضات في المجتمع، وهذا التكوين المتناقض يجعل الساحة الافتراضية مكانا ملائما لطرح أفكار ثورية وربما إعادة تكوين الوعى عبر منظومة مختلفة ومتمردة عن السائد .
الفضاء الأزرق أتاح لي جغرافيا أوسع للبحث عن الآخرين الذين يشبهونني، ربما لتشكيل كتيبة من الوعى المفارق والمتمرد ، ما نفعله دائما هو البحث عن أشباهنا للخلاص من الوحدة والاكتئاب وربما غواية الانتحار كوسيلة للتعبير عن الغضب والألم الذي لا مفر من معاناته بشكل يومى ومستمر .
-
ما الجديد الشعرى ؟