سعيد بوخليط
أيضا حرقة الغياب، من خلال غياب مادي لأفراد غير عاديين، توخت إبداعاتهم فتح آفاق إنسانية رحبة، كي تنتشل الشعوب العربية نفسها من مستنقعها، فتصبح جديرة بالانتماء إلى التاريخ الكوني، الذي لا يتوقف عن التطور.
يبكي الروائي الكبير عبد الرحمان منيف، معاتبا غيابا غير مقبول ، بسبب رحيل عقول عربية استثنائية، راكمت تراثا نصيا نوعيا على المستوى الأدبي والشعري والفلسفي والنضالي، فأرست نظريا مشاريع مجتمعية، متكاملة الأفق والمنهج، توخت تفكيك آليات تكلس النماذج المترهلة القائمة، المبلورة لواقع عربي يتحلل على جميع المستويات، نتيجة انتفاء رؤية حقيقية للإنسان العربي.
فقط، جملة الإهداء، التي افتتح بها منيف، عمله هذا :((إلى سعد الله ونوس :الذي حكم علينا بالأمل))، تختزل في المجمل، بدايات ونهايات وثنايا، نحو ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، سافر بين طياتها منيف، بتعدد زماني وتنوع جغرافي، موسوعيين صوب تأملات عشرات الأسماء، تأرجحت بين الروائي والمفكر والشاعر والمسرحي والحقوقي، التقت جميعها في البعد التأسيسي، الأصيل، المميز لكتاباتها. هي متون، عميقة، رصينة ، حداثية، استشرافية، كونية، ثورية، نوعية، كتبتها أقلام تستقي مدادها الذهبي من محبرة القلب.
“نحن محكومون بالأمل”، قولة رهيبة استطاع ونوس صياغتها ببلاغة منفردة، فكان لازما على منيف، الاستكانة إلى سلواها، حين سعيه لرثاء هؤلاء الغائبين-الحاضرين، أو بالأحرى التحايل على فرصة أخرى قصد الإنصات إلى شذرات من إيحاءاتهم، ليس بالطريقة المبتذلة القائمة على معاينة الكائن، كي تبقيه الذاكرة أمام سطوة الموت، بل على النقيض، مركزته لتيمة الموت وملاحقته وجوه تمثلها عبر الأطروحات الكبرى للمرثيين بين دفتي الكتاب، ثم ما ميز حيواتهم من مسارات استثنائية، يقول منيف:((مايكاد الموت يختطف واحدا من المبدعين، وبعد كلمات الرثاء التي تشبه بعضها تماما، وما إن يمر وقت قصير، حتى ينسى ذلك المبدع، ويغرق أكثر في التراب، في الوقت الذي يجب أن يكون الموت مناسبة لقراءة هذا المبدع قراءة موضوعية، وإعطائه المنزلة التي يستحقها، ويكون وإبداعه لبنة في البناء الذي يكون الذاكرة))(ص9).
خلال الوهلة الأولى، قد تبدو الدراسة، بمثابة معجم صغير يحاول مد القارئ، ببعض الأفكار الأولية التي مثلت هاجسا لأسماء تألقت في سماء الخلق العربي والبشري عامة، مادام أن منيف أضاف إلى قائمته المعجمية تلك، علمين من أعلام الثقافة الغربية، هما الشاعر الاسباني لوركا وكذا إيفو أندريتش، الكاتب البوسني. لكنه، عندما استحضر جوانب من نصوص:سعد الله ونوس، جبرا إبراهيم جبرا، محمد الجواهري، غائب طعمة فرمان، نزار قباني، جميل حتمل، محمد الباهي، إميل حبيبي، حليم بركات، يوسف فتح الله و حسين مروة. فإنه في الحقيقة، يلاحق تشكلات التراجيديا ، كما اشتغلت بحس إبداعي مرهف لدى هؤلاء، مأساة: الموت والقتل والمنفى واستبداد السلطة وضيق المكان والاغتراب عن الواقع وضياع الأحلام والإخفاق عن تحقيق المشروع الذاتي في ارتباطه الجدلي بالمجتمعي والتاريخي ثم الكوني فالحضاري.
بالتالي، قد لايبدو الشاعر لوركا هنا غريبا، أو إيفو أندريتش أجنبيا. مادام الأدب في ماهيته، يعانق القضية الإنسانية، دون اعتبار للهويات، ثم أقل من هذا، لأن الحس المأساوي حاضر لديهما، حسب الذائقة الجمالية للبستاني الذي زين بهم حديقته، فهما لايختلفان عن نزار قباني و حسين مروة أو محمد الباهي. الأساس، تحقق أصالة الكاتب المقصود بالتأبين وريادته، وكذا غنى ماخلفه ، فكانت الموت مناسبة سانحة لمساءلة منجزه ثانية، ووضعه ضمن سياق سوسيومعرفي، يبتغي التراكم، يقول منيف : ((هذا مادعا إلى تسليط الأضواء على جزء من أعمال بعض الراحلين، وعلى جوانب من حياتهم، ليس بدافع الوفاء الشخصي، قدر ماهو محاولة لإشادة ذاكرة حية ومنصفة، وللتحريض على القراءة، بهدف المراكمة الايجابية من أجل خلق الذاكرة المطلوبة والضرورية خاصة في هذه المرحلة))(ص10).
سعد الله ونوس، الذي توفي عن عمر لم يتجاوز السادسة والخمسين، بعد أن ساجل فلسفيا الموت عبر مصارعته مرض السرطان، ضدا على المآل الطبيعي في حالات كتلك، المفترض للخضوع و التشكي. الدليل، أن تأليفا من قيمة”رحلة في مجاهل يوم عابر”، الذي أرخ لمرحلة نوعية مجملا وتفصيلا، انتقل معها ونوس، من كاتب مسرح يطغى عليه الطابع السياسي، كما الحال مع عناوينه السابقة، مثل”منمنمات تاريخية”و”الفيل ياملك الزمان”و”رأس المملوك جابر”و”الملك هو الملك”…، نحو منحى مغايرا كليا، تسوده معاني الوجود والحب والموت، وهو يواجه بجرأة بشرية نادرة، آلامه الفظيعة لمرضه الفتاك، يقول ونوس :((من الظلام جئت والى الظلام أعود، تلك هي الحكاية)) ، إنها المواجهة الشفافة للنفس، وأصعب أنواع المعارك التي يمكن لأي واحد منا خوضها، يشرح منيف دواعي السياق الجديد :((لقد “انغسل”سعد الله في المرحلة الجديدة، كما يقول، من الأوهام. أصبح في مواجهة مختلفة عن السابق، ربما أصغر، لكنها مرهقة ومؤرقة، وهو يريد أن يشرك الآخرين في هذه الأسئلة، أن يورطهم، كي يواجهوا أنفسهم قبل أن يواجهوا القضايا الكبرى ، لأن القضايا الكبيرة، لايمكن أن تواجه إلا من خلال شجاعة داخلية تتجاوز الزيف والنفاق والرغبات أو الشهوات العارضة))(ص26).
ربما، لأول مرة سيجد القارئ العربي ذاته، أمام كاتب مذهل بكل المقاييس، يتمثل مصيره الحتمي بتجرد فلسفي، فصيّر فزع الموت بشتى تساؤلاته المعقدة، إلى مجرد ترانيم :((تمددت في قبري، وحاولت أن أنام، ولكن كنت أسمع غناء شجيا وغريبا))(ص16).
كان من حق مقالات لوعة الغياب، حصر امتدادها والاكتفاء بواقعة سعد الله ونوس، نظرا لزخمه الموضوعاتي، خصوصا ماتعلق منه بالموت، بغير الانتقال إلى الباقين، الذين اختطفتهم الموت، بكيفية أو أخرى، نكاية بحاجة الواقع العربي الجديد المنشود، إلى حكمتهم. فكان فقدا أسطوريا، بيد أنه مع ونوس ، ستتدرج المأساة إلى صلب مسيحي، حيث عاش موته كي لايموتها قط، أو يموت على طريقته.
صحيح، أن اغتيال، حسين مروة ولوركا قبله من طرف الفاشيين أتباع فرانكو، أوالحقوقي الجزائري يوسف فتح الله، رئيس رابطة حقوق الإنسان، قترة العشرية الدموية بين الدولة وجبهة الإنقاذ الإسلامية، والإمعان في التعنيف الرمزي للمبدع العراقي طعمة فرمان صاحب رواية”آلام السيد معروف”، ثم إدمان الكاتب جميل حتمل لحزنه، فكان لابد لصاحب عبارات شبيهة بسقوط النيازك، من قبيل :((أنا وحيد أيتها الآنسة، ولا أريد أي شيء، فقط أن أحس لدقائق أنني لست وحيدا))(ص174) ، ثم :((أنا الذي يعيش الانهيارات كاملة، وحتى انهيار الحياة ذاتها، تلك العظيمة المستحيلة))(ص-174) ، أو :((سأؤجل موتي إن كانت تحبني…آه لو أحد يخبرني إن كانت تحبني))(ص-178)… ، كان لابد له، الإسراع بموته، فجاء الرحيل مباغتا.
إنها، ميتات ليست بيولوجية بالمرة، أو صلب بشكل من الأشكال، فكانوا ذواتا فوق مادية، على آثار المسيح. ولدوا، دون أن يموتوا، بعد أن حاولوا بالكتابة، الاهتداء بالوجود، غاية أقصى مدارج الكمال حيث الحق والخير والجمال.
لاشك، أنه سعي لم تتبلور تجلياته بنفس المضمون لدى المعنيين هنا برثاء عبد الرحمن منيف، لكنه تعدد ليس فقط باختلافهم، بل أيضا لدى الكاتب الواحد، تبعا للظروف التي مر منها.
سعد الله ونوس، أرسى إحدى أهم دعائم الانجازات المسرحية في العالم العربي، منطلقا من مبادئ تقاليد الفرجة المحلية، معتبرا العرض حالة احتفالية، يرتبط بالناس والمكان، بهدف رؤية : ((الحقائق عارية وأن نعرف الأسباب العميقة التي تجعل الإنسان تعيسا مقهورا مستغلا))(ص15). مسار مسرحي، متراكم كما ونوعا، قدم عروضا فترة السبعينات، ثم توقف خلال الثمانينات، فأعاد تدفقه ثانية سنوات التسعينات، بعد انتقاله من وازع الهم السياسي المباشر نتيجة تبعات هزيمة 1967 ، إلى سجال شاعري مع أسئلة أنطولوجية كبرى، في إطار مواجهة المسرحي السوري، لمرضه المميت، بجرأة وعقلانية، عز نظيرهما.
ونوس، المثقف الجاد، الشفاف، الصادق، الشجاع غير المكترث بتاتا بالحروب الصغيرة، يستطرد منيف، في تجميع خصاله الذاتية :((البساطة إلى درجة الزهد، الصدق إلى درجة الطفولة، الشجاعة إلى درجة التضحية، مع شعور عال بالمسؤولية، وإدراك حقيقي للمصاعب والتحديات، وأيضا فهم المهمة التي يجب أن يتصدى لها الكاتب والقادر عليها))(ص20). كائن بتلك المواصفات، سهل عليه، رغم قسوة تجربة آلام ماقبل وأثناء، حقنه بجرعات علاجية في إحدى مستشفيات باريس، التوثيق لوتيرة دقائق موته البطيء، والتأسيس ربما لأول مرة في تاريخ الأدب، لذاكرة الموت :((عاش سعد الله ونوس تجربة نادرة، ولاأظن أن في الأدب العربي من تناول هذه التجربة، إذ بالإضافة إلى ندرة وقوعها، فإنها تتطلب حدا عاليا من التماسك الذهني والنفسي))(ص-88). سرالأمر، يبرزه لنا ونوس، قائلا :((لقد حاجج أيوب ربه، أما أنا فمن أحاجج، وليس لدي إلا هذا اليقين البسيط والموحش :من الظلام جئت والى الظلام أعود)).
جبرا إبراهيم جبرا، الفلسطيني-العراقي، الذي استعار منيف من أحد دواوينه، عبارة لوعة، سيظهر أيضا بمثابة معلم ألهمه الكثير، بل، ومعه جيل عربي بأكمله، ثم منيف بمثابة التلميذ النجيب، الذي دأب بداية على مجرد القدوم إلى مقهى البرازيلية ببغداد، كي يختلس السمع إلى ما تبعثه أصوات النقاشات الثقافية بين جبرا وبعض أصدقائه :((الحالمين الذين لايريدون تغيير وجه العراق فقط، بل ووجه العالم كله. كنا نلقي نظرات طويلة، نتأمل، نسمع، وكنا نميز بين الجالسين :السياب، والبياتي…والحيدري))(ص111). أقول، سنوات بعد تلك الحقبة، سيتقاسم منيف وجبرا، كتابة نصهما الروائي”عالم بلا خرائط”.
جبرا، وصل إلى العراق سنة1948 ، نتيجة تداعيات المأساة الفلسطينية، مستقرا في بغداد التي أضحت مدينته الثانية، بعد بيت لحم. لقد جسد مثال المثقف الموسوعي، الملم بقضايا الفن التشكيلي والنحت والموسيقى وفن العمارة والمسرح. المطلع، على تجارب شعرية تنتمي إلى لغات أخرى، فكان بجدارة ضمن قائمة رواد الثقافة العربية من وضعوا لبنات المنعطفات التاريخية التأسيسية. بل، هو ملهم نظري لمن بلوروا عمليا بقصائدهم، انطلاقة مسار الشعر الحديث كالسياب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة وحسين مردان. يقول منيف :((لقد كانت الثورة الشعرية، لكي تكتمل، بحاجة إلى التعريف بالجوانب الهامة والقوية في المعمار الشعري الجديد، إضافة إلى توضيح رموزه وأساطيره، لكي يسهل التعامل معه ومن ثم تبنيه))(ص101. ). وطد جبرا، أرضية نظرية لرواد الشعر العربي الحديث، بالمتابعة النقدية والترجمة والمحاضرات وخلقه لشبكة من العلاقات الثقافية، كما أن دراساته عن الفن العراقي، لازالت تمثل مرجعية، نظرا لما اتصفت به من عمق وجدية. كل هذا، لأن جبرا استمر مقتنعا، عبر اشتغاله على جبهات متعددة، أن معركتنا فكرية بالدرجة الأولى.
نادرا، مايحدث، ارتقاء شاعر عظيم، بوجوده الذاتي والشعري، كي ينزلهما منزلة الأسطورة. ذلك، ما اجتمع عند عراقي آخر، هو محمد الجواهري، صاحب مقولة :((ألا ليت الإنسان ينسجم مع نفسه دائما)) ، الذي عاش بيولوجيا، قرنا من الزمان، تمردا وشعرا، فأضحى وثيقة من مصادر التأريخ لعراق القرن العشرين :((من الدولة العثمانية، إلى السقوط فالاحتلال البريطاني، ثم ثورة العشرين، فإقامة مملكة أحد أبطالها نوري السعيد، وعبقرية هذا الرجل في تأليب الخصوم وخلق العداوات، ثم انقلاب بكر صدقي فثورة رشيد عالي، فالوثبة ثم حلف بغداد، إلى سقوط النظام الملكي وقيام ثورة تموز1958 ، وماتلاها من عواصف وتبدلات بدأت ولم تنته بعد، أن يعيش إنسان كالجواهري هذه الأحداث، وأن يكون قريبا منها بنسبة أو أخرى، وبعض الأحيان مشاركا، أومعارضا، وباعتباره الناطق الرسمي، وقد انتدب نفسه لهذه المهمة، لشعب مرت عليه تلك الأحداث، لابد أن يكون إنسانا خارقا وأقرب إلى الأسطورة))(ص125). هو، الشاعر العربي الوحيد، المنخرط في حيثيات قضايا عصره، لكنه ظل فوق الأحزاب السياسية، عصيا عليها، في سعيها إلى استقطابه أو مجرد ترويضه، فقد اتسمت شخصيته بالمعارضة الأبدية، حتى حينما كان نائبا أو خلال اشتغاله بالصحافة. شاعر، المرأة والخمرة والمنافي، الذي يعتبر بعد المتنبي :((أكثر الشعراء العرب إلماما وغراما باللغة))(ص128). مع أنه تبنى الطريقة الكلاسيكية، فقد اتسمت قصيدته بكونها أكثر راهنية وحداثة.
شاهد آخر على العصر، إنه الشاعر نزار قباني، الذي استطاع تحويل الشعر خبزا يوميا يعرفه الجميع، يفهم قصائده الأطفال والكبار، ويستمتع بها الشباب كالشيوخ، يستحضر اسمه بنفس القيمة الأدبية داخل الصالونات الأدبية والفضاءات العمومية، تغنى به كبار المطربين العرب، لأن نزار قصيدة حية، تحول معه الشعر العربي نحو مرحلة غير مسبوقة ، بحيث تبدلت مع قصائده مفاهيمنا للأشياء ومعاني الحقائق ودلالة المعطيات، لم يعد الحب هو الحب ولا المرأة بالمرأة، رومانسية حالمة تبدو مكتفية بعالمها، بيد أنها جوهريا مسكونة بهاجس انقلابي ثوري، أراده قباني من خلال شعره، للإنسان العربي، كي يتحرر من أغلال الاستبداد السياسي وعتاقة تقاليد مجتمعية بالية :((كان نزار، في أحيان كثيرة، ضميرا، وكان جسورا في قول الحقيقة، وكان لايتردد في أن يرمي الجمر في أحضان”الكبار”دون أن يحفل بحساب الربح والخسارة، كما يفعل غيره من الشعراء والكتبة…إن شيئا ما في داخل الشاعر، الفنان، يأبى الترويض، وهذا الشيء من القوة والتحدي إلى درجة يستطيع أن يقاوم إرهاب الحاكم))(ص-159).
حدس عبد الرحمن منيف، أولى ملامح الشاعر الجديد، منذ ديوان قباني”طفولة نهد” :((الجميل شكلا وموضوعا)) (ص-157). تلته، قصيدة “حبلى”، التي نشرت أواسط الخمسينات، فشكلت على امتداد سياق زاخر بالمحرمات والدم :((هزة في الجو السياسي، لأنها كانت تحديا لقيم سائدة، لأعراف عمرها مئات السنين، إذ قالت شيئا مختلفا))(ص-158). ثم تواصل، المشروع الشعري مع “خبز وحشيش وقمر”، وغيرها من النصوص الطليعية المزعجة، فكان لازما على قباني، استمراره في رحيل دائم، من منفى إلى آخر :((بحثا عن مساحة خضراء، صغيرة تكفي لإقامة خيمة أو عريشة ياسمين))(ص-162).
مع عمل منيف هذا، سأكتشف لأول مرة اسم الروائي العراقي غائب فرمان، صاحب رواية “آلام السيد معروف”، الذي ضاق به وطنه العراق لأسباب سياسية، فداوم على الترحال بين منافي الصين والاتحاد السوفياتي، وحدها الكتابة وفرت له بيتا دافئا، كي يدمن على استحضار موطنه الأصلي، مدينة بغداد، يقول منيف :((لا أعتقد أن كاتبا عراقيا كتب عن بغداد كما كتب غائب. كتب عنها من الداخل، في جميع الفصول، في كل الأوقات. وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف على بغداد أواخر الأربعينات والخمسينات، لابد أن نعود إلى ماكتبه غائب)). أيضا، حرم من ممارسة معتادة، بخصوص عشقه لكتابة الرواية، فلم ينجز الحد الأدنى من مشاريعه وطموحاته، لأن مطلب لقمة العيش، اضطره إلى استهلاك مجمل طاقاته العقلية والنفسية والجسدية، في ترجمة نصوص لا تروق له، تقول إحدى رسائله على سبيل المثال :((بعد أيام سأفرغ من كتاب شولوخوف :”الأرض البكر”فأكون قد أتممت عملا مرهقا كلفني سنة وأكثر))(ص-150). فماذا، لوكانت الظروف أكثر رحمة بغائب فرمان، كي يتفرغ لإبداع، أراده بقوة؟
وفق نفس المنحى، لم أعلم كذلك قبل لوعة الغياب، بوجود كاتب بوسني من حجم إيفو أندريتش، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 1961، اشتهر برواياته الثلاثة :جسر على نهر درينا، وقائع مدينة ترافنك، الآنسة. أحد، أهم أدباء العصر، أو زرقاء يمامة البلقان، كما وصفه منيف، حيث استشرف منذ العشرينات بكتاباته مثل ” البوسنة الفتاة”و”صوت الجنوب”، الويلات التي ستعيشها البوسنة فيما بعد :(( لقد كان أندريتش إنسانا وكاتبا استثنائيا، أما جهوده التي بذلها من أجل البوسنة، ومن أجل شعوب يوغوسلافيا، فليس لها مثيل. قرأ التاريخ لكي يستخلص العبر، قدم النماذج الايجابية والسلبية، لكي تكون درسا، صرخ بأعلى صوته، من خلال شخصياته الروائية، لكي يفهم الآخرون، لكي يسمعوا)).
منظور من هذا القبيل، افتقده الحس الإبداعي، لدى الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، الذي ستخسره السياسة دون أن يربحه الأدب، وفق تقييم منيف، لماذا؟لأنه راهن على حسابات سياسية خاطئة بخصوص التعايش مع الدولة الإسرائلية، ولم يكن موقفه ذلك في نفس مقام خطابه الإبداعي، بناء على منطق الانسجام، المتكامل، المفترض حدوثه عند أديب يعيش مع شعبه قضية استثنائية : ((إذ في الوقت الذي كان يفترض أن يبقى ضميرا، وأن يستمر رافضا، وبعناد، ولامانع أن يكون حالما أيضا، بإصراره على الحد الأقصى، وغير مستعد للتفاوض والتنازل، تاركا للسياسي أن يستفيد من هذا الرفض وتلك المعارضة…، وعندما يقبل جائزة إسرائيل للإبداع الأدبي، يعرف أن إسرائيل لاتمنحه هذه الجائزة لجدارته الأدبية وإنما لموقفه السياسي، في الوقت الذي يعتبر شامير أن قصيدة مثل “عابرون في كلام عابر”لدرويش، تشكل تحديا لوجود إسرائيل، مع ما يترتب على قائلها من حرم))(ص-190-191). نستشف، من بين كل مرثيي منيف، أن صاحب رواية المتشائل، ربما كان الوحيد بسبب إخفاقه السياسي غير المحسوب، الذي قد يشعرنا نحوه بنوع من الاغتراب، الممزوج كذلك، بالحزن على فشل إميل حبيبي السياسي، وتأثير ذلك على رمزية الثاني الأدبي.
من جهته، سيكتشف القارئ المشرقي، بين دفتي هذا الكتاب، اسم المناضل والصحفي المغربي الفذ محمد الباهي، ذي الأصول الموريتانية، المنتمي بدوره إلى جيل الأحلام العربية الكبرى ، وسيدرك في نفس الوقت مدى المكانة التي يحظى بها عند منيف، لذلك سيخصص له عملا مستقلا تحت عنوان “عروة الزمان الباهي”. مشاريع عدة، شكلت هاجسا لاشتغالات الباهي، قبل مغادرته المبكرة للدنيا :((لأن الباهي غير قابل للموت))(ص-183). لقد وضع برنامجا لانجاز أشياء كثيرة، حول تاريخ الحركة الوطنية في المغرب ودراسة حالة البداوة الطاغية على الفكر والسلوك العربيين، ثم توثيق تجاربه في السياسة والصحافة وكتابة عمل عن باريس المدينة التي شكلت منفاه الاختياري لكنه صار يعرفها أكثر من الباريسيين أنفسهم. أما فيما يتعلق بالأدب :((فكان ينوي أن يسجل بصوته الدافئ المعلقات العشر، وكان يريد أن يعطي، بطريقة غير مباشرة، درسا في كيفية إلقاء الشعر، خاصة الجاهلي، وكيف يجب أن يترنم به الإنسان، بعد أن يفهم مفرداته ويحس مناخاته))(ص-183). لقد شكل الباهي بامتياز، نموذج المثقف العروبي، بحيث بقي جسرا بين المشرق والمغرب، واسع الاطلاع والعلاقات، محيط بخبايا القضايا ومشاكل الواقع العربي، فكان موته خسارة حقيقية. لكن من قال بأن مثل هؤلاء يموتون؟.
الأفكار دائمة وسرمدية، خالدة خلود روادها، لذلك فإرث مفكر من وزن اللبناني حسين مروة، لاسيما منجزه الهائل : “النزعات المادية في الفلسفة العربية”، الموضوع الذي حصل به على درجة الدكتوراه، لكن سرعان ما تم منع تداول الكتاب، عقب صدوره. أقول، بأن عقلا مثل مروة، توقف عمله في البداية، بسبب عماء وحقد المتعصبين، ترك للأجيال أورشا مفتوحة للتفكير ومختبرات للتأمل، ينبغي الانكباب عليها من أجل تلمس أجوبة كافية لوضعية التخلف التاريخي، التي تستغرقنا على جميع المستويات.
هامش :
*عبد الرحمن منيف : لوعة الغياب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2003 .