سعيدة عفيف
الليلةَ عازفي حزين. سَوّى أوتاره على نغمات متجذرة الأسى، صَباهُ والنَّهاوَنْد.. وَشَدَّ وثاقي بإحكام لطقس يسود هذا الفضاء الذي لا يبدو أنه صانعه. لم أعترض على اختياره ولم ألمّح له بذلك، إذ تهيأ لي أنني في انسياب عفوي مع كل شيء حزين. لحناً، موقفا، إحساسا وانفعالا وتفاعلا. وكأن الجدوى، أنت حزين إذن أنت طافٍ على الوجود. مؤشر الليلة يوحي بذلك. وهي دون كل الليالي الماضية.
مر وقت طويل قبل أن أنتبه إلى صوت الصفحات ترتعش بين سبابتي وإبهامي. كنت مأخوذة بقصة الحب والحرب.. حيث كل الأحداث تتواتر على إيقاع حزين، كما في “ذهبَ مع الريح”، وكما كل شيء مهما تبلغ عظمته وقوته وقيمته تذروه الرياح في النهاية. وما زلت أعدو عبر مسافات الورق، لا ظل لي من معانٍ حارقة، فالطريق المفتوحة الوحيدة لي هي من اختيار النص، ولا مهرب لي منها. أحيانا لا أشعر أنني قد توقفت عن التنفس بسبب مشهد ما، أو كلما قرأت عبارة بديعة تختزل كل الحب وكل الأسى. وكأنني أصعد جبلا شاهقا، لا أنتبه إلى ذلك ولا أتنفس الصعداء، إلا بعد أن أكمل قراءة المقطع، وبعد أن أحس رغما عني بانقطاع التنفس وبداية الاختناق.
الموسيقيُّ الحزين لا يتوانى بدوره ولا يهدأ. حركات يديه في غاية التوتر، وخصلات شعره المنساب تتطاير وتتمرد، بل وتصرخ عند كل مشهد حربي وعند كل اقتتال وعند هرق كل دم..
وأنا أقرأ، أتوقف وأتوسل إليه بعبارات واضحة أن يخفف الوطء قليلا.. وأن يغير المقام إلى مقام أقل تدرجا في الحزن.. لكنه يرمي بخصلاته خارج الورق، ويطوّح بها في كل الاتجاهات، فيُسمَع لها دويٌّ مرعب كصوت سياط على الصفحات.. يبدو أنه يسمعني لكنه منشغل بموسيقى الحب والحرب، ويرفض أن يستجيب. مخلص في عمله، يتحرى أن يعبر بأفضل شكل عن أهداف النص، ولا يتمكن من ذلك إلا باللجوء إلى موسيقى تزيد التعاسة حدة واشتعالا.
لن أسأله شيئا بعد. ما دامت الأحداث هي ما يملي علينا طقوس الوجع، ومادام هذا الأخير بندا ضروريا في عقود اتفاقنا مع الزمن. تلك النار تشعلنا لنذكيها، تأكل منا لنحيا، وتنير لنا فنسير على هدي نورها.. ولأستعن بين الفينة والأخرى بفواصل قصيرة، أتذكر فيها تلك الفقرات التي تؤثث لجمال لحظي مسروق من الزمن المشؤوم، ومن عبث الحروب وغبائها. وتلك المشاهدَ البعيدة قليلا عن أجواء التطاحن وعمن سيملك الأرض ومن عليها.. كي أستعيد أنفاسي من أجل إنهاء الرواية في أسرع وقت ممكن. أبعدت بأصبعي بعض الخصلات عن سطور كادت تتشابك معها في ضفيرة لأتبينها، وتابعت..
لا أعرف لماذا تحيلني أحداث الرواية على أبيات من فنّ العيطة(1):
خَربوشَة(2) ماشي قْصارة ورَكْزة
خربوشة نخوة وعزّة تشفي الْجْراحْ وَقْتْ الْحَزّة
فينك أعْويسَة وفينْ الشَّانْ والمَرْشانْ
تْعَدِّيتي وخَسَّرْتِي الْخْواطَر وظنِّيتي القيادة على الدوام
في أيامك الجَيِّدْ ما بْقالو شَانْ
والرَّعْواني زَيْدْتيهْ القُدَّامْ
سِير أعيسى بن عمر أوَكَّالْ الجِيفَة..
ويا قتَّال خُّوتو ومحلل الحرام
عَمَّرْ الظالم ما يروح سالم
وعَمَّر العَلْفة ما تزيد بلا علام
…….
وَاخَّا قْتَلْنِي وَاخَّا خَلاَّني
مَا نْدُوزْ بْلادي رَانِي زيدية
عْلىَ كَلْمَة خْرَجْتْ لَبْلادْ وَاخْرَجْتْ لَحْكامْ لا سْلامَة ليك آليام
واخايت عليك الايـام والايـام الايـام ألايـام.
تتملكني هذه الأجواء كلما تماديت في القراءة. ربما لأن بطلة الرواية شاعرة ثائرة تصارع الظلم بالكلمات، فتُذكِّرني بالشيخة حْويدة الغيَّاثية العَبْدية المعروفة ب “خَرْبوشَة” التي كانت تتمتع بشخصية قوية.. تجالس الرجال المحاربين بعد عودتهم ليلا. تناقشهم فيما يجري من أحداث. وبينما يسردون ما يحملونه من أخبار عن الضحايا والناجين، وعن حجم الخسارات وعن استفحال الاستبداد الشنيع بالمنطقة أواخر القرن التاسع عشر.. تجود عليهم من تأثرها ومن حرقتها بأشعار منها هذه الأبيات، تستنفر بها هممهم وتزيد من شجاعتهم في مواجهة جبروت السلطة والطغيان.
صوت السياط يشتد، ولا يزال مستمرا في جلد الصفحات الجديدة. لم يبق على النهاية سوى فصلين أخيرين، أخشى أن النهاية مأساوية وستعصف بالجميع. ماذا لو أغلقت الكتاب قليلا؟ قد أريح العازف والصفحات والخصلات.. وقد يتسنى لي أن أتخلص مما تجمع من أنفاس تثقل رئتيّ، وقد أساهم لبعض من الوقت في ارتخاء انقباضاتٍ وتشنجاتٍ بدأت تؤلمني.
حاولت أن أغلقه، لكن الخصلات اِنتشرت أكثر بين الصفحات، وقوس كمانٍ يخرج من وسط الكتاب.. ونوتات تتطاير من الأوراق متلاشية في الفضاء. أعرف أنه لا مجال للابتعاد الآن، قبل أن أكمل الفصلين المتبقيين.. وعَدتُ أن أعود سريعا بعد شرب فنجان قهوة أستجمع به رباطة جأشي.. وتركته مفتوحا..
آخذُ الكتاب، فينسَلّ القوس لتماسٍّ صريح بأوتار تنتظر، ويسحب الموسيقيّ خصلاته برفق، وتعود النوتات لتتربع بأمكنتها على الورق. يشرع الفصل في وصف أجواء هادئة بمنأى عن فضاء التوتر والخوف. تتذكر البطلة لحظات الهناء والتجلي برفقة زوجها الذي أضاعته الحرب الشعواء.. وينطلق الكمان في موسيقى ساحرة هادئة لحين..
بعد صفحتين أو ثلاث، يحتد مزاج النص، وتميل الكلمات والعبارات إلى ألوان قاتمة، بعد أن صار ينقص عدد المحاربين كل يوم، والعدة تكاد تنفد كما نفدت كل مسببات العيش الكريم. والأعداء يحومون ينهبون يغتصبون وينتهكون الحرمات، يتصيدون الأبرياء كصيد سمين، ويتأكد خبر هدر دم الشاعرة الثائرة يوما بعد يوم. وهذه الموسيقى المفزعة الجارفة تلقي بي في بحر تعاسة لا حدود له ولا مفر منه. تجلدني الخصلات قبل الصفحات، وأمضي جادة في القراءة.. يجب أن أنتهي من هذه المأساة الليلة.. ليلة الليالي جميعا..
تُصْفق الأبواب، وتَرفس حوافر الحيوان والبشر كل ما يعترض الطريق، دون اعتبار أو تمييز.. ويعم الخراب والظلام كل شبر على الأرض، حل التتار بالمنطقة.. يزرعون الموت في كل خطوة. جاؤوا للقبض على الشاعرة سليطة اللسان، فهولاكو في الانتظار ليُمَثِّل بجثتها أقبح تمثيل وأشنعه..
نعود إلى الجَلد الذي لن ينتهي.. ماذا يفعل هذا الموسيقيُّ بي وبآلته، هل يذبحها ويذبحني في كل جرَّة قوس؟ وهل نحن من يستحق هذا التنكيل؟ وما الذي سيصير عليه لو استمر في صرعه هذا؟ تكاد تذوب منه النوتات، وتنسلخ كل الأشكال عن مضامينها. يتقاطع عزفه بموسيقى العيطة في دمي وكل المعاني تعيدني إليها. يتقاطع الأسى بالآخر…
تولول النساء، ويبكي الأطفال، وتنتحب السماء بمطر غزير عنيف. تصفعني الخصلات. تلسع أصابعي قبل أن تتكاثر وتتطاول. أتخيلها تطول بشكل رهيب وتلتوي على كل شيء من حولي، وتلفني من كل جانب وتقيدني وتنبثق من كل مكان لتخنقني. والقوس يمتد ليلامس عنقي في سادية مطلقة.. ثم يعود إلى كمنجته كشاة تنتظر الذبح الرحيم. من بيننا يهوى التعذيب؟؟ موسيقى الرعب توقِّعها الحوافر والصرخات.. نكتم الأنفاس جميعا ونتشنج.. الموسيقى . و.. وقع الحوافر.. هولاكو يتمنى أن ينعم الليلة برأس الشاعرة.. يشوي لسانها شيّاً ويأكله في استلذاذ مَرضيّ أمام خدامه الأوفياء.. وينهي احتفال الدم بالنوم على سرة إحدى جواريه التي تداعبه إلى أن يذهب في نوم عميق غير مبالية بعَنانته..
لم يبق سوى صفحتين.. تكاد تشير النهاية بأكمامها. لن يمهلوا الشاعرة لقول الكثير، للدفاع عن نفسها لصدهم وردّهم عنها. قد يجرونها من لسانها إليه.. اِنتشروا كالدود في كل مكان.. لم يجدوا لها أثرا ولم يتركوا شبرا دون تمشيطه بحثا عنها. أكاد من فرط ألمي، وخوفي من نهاية مفزعة يخبؤها النص للشاعرة، أطلب من العازف أن يضللهم بإشارة من قوسه إلى مكان لا تكون فيه، وأن يكف عن ملاحقة عنقي بقوسه الذابح. فأنا مجرد قارئة لا أريد الأذى بأيٍّ كان. لكن كيف؟ وهل ضِمْن هؤلاء التتار من ينتبه إلى الموسيقى؟ لن أفعل.. لا طائل من ذلك. هو مخلص لمضمون النص ولن يخرج عنه. مثلما هم أوفياء لهولاكو ولن يحيدوا عن مهمتهم الحقيرة في النهب والسرقة والابتزاز والقتل إرضاء له.
نحن إذن أمام أمر واقع. نصل إليه بعد فقرات قليلة تفصلنا عن النهاية. يُسمع في الموسيقى صليل السيوف وصوت الرصاص وانفجار القنابل وكل العتاد الحربي، فتصير أكثر صخبا ومأساوية، ويكاد الموسيقيُّ من حركاته العنيفة ينهار ويسقط صريع عزفه. هل ستمهله النهاية هو أيضا أم لا؟ هولاكو بنفسه في الأرجاء. لم يستطع صبرا على الانتظار. فجاء بحشذ آخر يرافقه كأنه في حرب.. فجأة يلمحها أحد الخائنين متجهة نحو البئر؛ وقبل أن تصل إليها حوافرهم وأيديهم المتسخة بالدم، تلقي الشاعرة بنفسها في قَعرها من غير تردد. تعلو الموسيقى تصدم وتعصف وتخصف على لهيب الألم برذاذ نداها. فتنتصر المأساة بطريقتها على الظلم، وتتطاير الخصلات من جديد، في مشهد أخير يتكلف عازف الليل بترميمه.. وبشدِّه بكل النوتات اللازمة. تنقبض الأنفاس تشتد ثم ترتخي..
ينتأُ القوس خارج الورق في تلامس وداعيّ مع عنقي.. لم أشِحْهُ عنه، بل أمَلْتُ رأسي جانبا لأُذبَح بدل الشاعرة.. ربما أحدهم يطالب به الآن…
(1)- العيطة: فن مغربي ظهر في عهد سلاطين المغرب وعرف تطورا كبيرا إبان
الاستعمار لمقاومة الاستبداد والاحتلال.
(2)- خربوشة: لقب الشيخة حويدة الغياثية العبدية التي عاشت أواخر القرن التاسع عشر
وكانت ترسل أشعارها القوية كسياط في وجه الظلم والطغيان