نعيم عبد مهلهل ( العراق):
“حين يسأل المتصوفة بعد ألف عام من نهاية زمن التكيات وصلبها بالخازوق..
أين انتم من الموسيقى ؟
البسطامي والحشد المصطف بجبته من الحلاج وحتى السروجي
سيهتفون مثل فرقة كورال:
أودعناها بحنجرة فيروز”…
قصيدة كتبتها بمناسبة بلوغ فيروز عامها السبعين عام 2005
يقول أبي: نحنُ نصنع الطائرة الشعرية من الورق، والروس يصنعون طائرة الميك الحربية من الحديد. قالها بعد أن ثقفتهُ المدينة عندما أرغمتنا حشرة البلهارزيا التي بنت أعشاشها في مثانتي وأخوتي بسبب عفونة ورداءة الماء الذي نشربهُ ونسبح فيه، لنهاجر من قريتنا ونبيع جاموسنا ونلجأ إلى المدينة هاربين من لعنة التجفيف والأمراض وتهديم المدرسة لتناقص أعداد التلاميذ.
لم نكنْ نعرف صناعة الطائرات الورقية في الريف، وكان يفزعني جداً صوت طائرات الميك التي كانت تخترق براءة المكان وبكارته وتمزق الصمت الجميل، ومرات تدفع الأسماك لتنفق وتطفو ميتة عندما تمر على الأهوار بارتفاع منخفض جدا لتتحاشى المقاومات الأرضية من الجانب الإيراني وهي ذاهبة لتقصف أهدافا في جبهة الأحواز.
لم أكن أعِ الحرب، وكنت اشعر بسعادة غامضة عندما تمر الطائرات رغم زعيقها المخيف، وكنت أرفع يدي ملوحا لها وفي قلبي أمنية لتهبط وارى شكل هذا الطائر الحديدي الضخم الذي لم أره بعد في صحيفة مصورة أو تلفاز، وأتذكر عندما هاجرنا إلى المدينة وعمري 10 سنوات، والحرب لم تزلْ مشتعلة حين رأيت الجريدة لأول مرة، عندما رافقتُ أبي في عمل له في السوق، عندما استراح في واحدة من المقاهي، وهناك رأيت ورقة عريضة يرفعها رجل يرتدي نظارات ويتطلع فيها…
وعندما سألت أبي عنها.؟
قال:هذه ورقة تظهر فيها صورة الرئيس وأخبار الحرب وأشياء أخرى لا أعرفها.
لهذا ارتعبت مفزوعا عندما أراد الطفل (الحَضري) جارنا في بيئتنا الجديدة أن يعلمني صناعة الطائرة الورقية، وقد أدهشني طيرانها مع نسائم الريح وبألوانها الزاهية، وقارنتها مع الطائرات التي كانت تمر فوق قريتنا، فوجدت طائرة الورق أكثر رقة وهي لاتملك صوتا مدويا يصُم الأذن، ارتعبت لأن الطفل (حكيم) أراد أن يصنع لي طائرة من ورق الجرائد.
قلت مرتعباً:كيف تصنعها من هذا الورق وفيه صورة الرئيس؟
ضحكت وقال: لاتخف الجريدة فيها صفحات كثيرة، نحن نصنع طائراتنا الورقية من الصفحات الرياضية..!
اكتشفت حينها عالم الجريدة وموضوعاتها، وعشقت هذا العالم وتمنيت أن أكون احد الذين يساهمون في الكتابة في هذه المساحة المغرية من دهشة الحروب والكتابة والصور، وكنت كلما اصنع طائرة ورقية من جريدة،أتخيل اللاعبين الرياضيين طائرين وممثلات السينما ورؤوساء الجمهوريات والملوك والدبابات وأبراج الحظ، وكلما هو مكتوب ومصور في الجريدة، عدا الصفحة الأولى التي تحمل صورة الرئيس حيث كنت أخاف أن تتمزق الطائرة أو تسقط، فيهوي الرئيس وتتمزق بدلته، أو تنكسر رقبته، فيأخذون أبي إلى السجن بتهمة التآمر، وربما لن نراه مرة أخرى.
اقترنت بهجة صناعة الطائرة الورقية بوجه الرئيس وبزته العسكرية، وحتى اتخلص من هذا الرعب رحتُ أدخر مما يعطيني إياه أبي من مصروف يومي، لاشتري ورقاً ملوناً صُنعَ خصيصا من اجل الطائرات الورقية، فتغيرت سعادتي وصارت أكثر بهجة وأنا اخلص ذاكرتي من رعب وجه الرئيس عندما تسقط الطائرة الورقية التي نصنعها من الصحف ومعها يسقط الرئيس في بركة طين أو فوق إحدى السطوح فتكون الكارثة، وأيضا نسيت لحظات الرعب في تخيل طائرة الميك، واتسعت سعادتي لتصبح سعادة شعرية كما وصفها أبي عندما كنت فوق سطح بيتنا في واحد من صباحات الصيف المشمسة متمتعا مع طائرتي الجديدة الملونة وسمعت صوتا ملائكيا من مذياع جارنا يغني أغنية تقول:
((طيري ياطيارة طيري
ياورق وخيطان…
بدي ارجع طفلة ازغيره
على سطح الجيران))
وهكذا منحتني الطائرة الورقية فتنة جديدة،غيرت في عاطفتي الطفولية ودفعتها إلى شباب مبكر.
لقد كان صوت فيروز بوابةً لاكتشاف الخواطر والأحاسيس الجيدة، عندما صنعت لنا ألفة من الحب والسفر والكتابة، وصارت كل أغنية من أغانيها طائرة ورقية نعتليها ونسافر فيها لمدن نحلم بالوصول إليها، لندن، روما، باريس، براغ، إسطنبول…
كنا نحلق مع الطائرة الورقية ونجوب قارات الأرض كلها بفضل تلك الأغنية الفيروزية وهي تجمع شتات الذكريات في طرف الجفن وتصوغهُ لنا عقدا من قبلات الفم أجمعها بشجاعة محارب طروادي وأطبعها في أول مشاعر غرام على فم بنت الجيران..!