منذر السعيدي
لا أعلم كيف ولدت، ولا متى ولدت، وكيف كان أول عهدي بالحياة، ظلت الكثير والعديد من التساؤلات تدور في خلدي وتُضاعف حيرتي، إلى أن أتى يوماً ما الطائر الحكيم، أنا من أطلق عليه هذه الكُنية، فهو صدقاً حكيم، وبعد حوار قصير في أول لقاء غزت المودة قلبينا وأصبحنا أصدقاء…
إن الطائر الحكيم هو نوع من الطيور يسمى البغبغاء الأفريقي الذي اشتهر كما يقول هو نفسه من عهود غابرة بالذكاء والفطنة وسرعة البديهة، ولقد استبطت هذه القدرة المذهلة لديه منذ أول حوار بيننا، لقد كان هذا البغبغاء سلس الكلمة وواسع الفهم ولين الطرف.
لم ينهرني، ولم يُلقي قذارته على وجهي، ولم يتأفف من كثرة الاسئلة التي اطرحها، لقد أفهمني من أكون، فأنا لا أفهم إلا ما أفهمنيه، ولا أعلم شيئا إلا ما علمنيه، عندما سألته من أنا؟؟ ابتسم وقال: أنك جزء من شجرة، في بادئ الأمر لم أفهم ما يرمي إليه، ولكن مع توطد علاقتنا وتعمقها فهمت منه كل شيء، وهو من اراحني من عناء التفكير عندما أجاب على أهم تساؤل لطالما أتعب ذهني ألا وهو متى ولدت؟؟ قال لي: وبكل عطف لا احد يعلم متى ولدت، حتى أنا لا اعلم متى ولدت، ولو ان ابي قد أخبرني بذلك…
مرت الايام وبفضل البغبغاء الافريقي عرفت أن الشجرة لا تأكل كما يفعل هو وانما نرتشف المياه ونتقاسمها فيما بيننا، وانطوت الأيام الجميلة وبدأ البغبغاء في الغياب لفترات طويلة ولقد علمت أنه هرمَ واستشرى المرض في أطرافه لذلك هو يُكثر من الغياب، لقد كان لنا صديق ثالث وهو الطفل يزن…
يزن هذا دائما ما يستظل تحتي ويأكل التفاح، وفي تارات كثيرة كان يقدم لي الماء البارد عندما اتعرق من حرارة الصيف، وما عكر صفو محبتي ليزن أنه في يوم من الأيام قفز وكسر ظهر جدي “غصن”… لقد كان جدي رجل لا يؤذي أحد، ولا اعلم لماذا فعل يزن هذا الفعل الوحشي الشنيع…
بكيت كثيرا على جدي الذي كان يقول لي مهما تغيرت الأحوال وتقلبت العواطف والمشاعر فلا شيء يستحق الحزن، كان دائما يوصيني بالعطاء، فقد قال لنا أنا وإخوتي أننا خُلقنا للعطاء، وعندما سألناه عن شكل العطاء هذا ولمن نقدمه، لم يحصر إجابته في بشر ولا حجر ولا طير، ولكنه قال لكل محتاج لعطائنا، لهذه الكلمات المشرقة كنت استدل على أن جدي هو الوحيد الذي يقارع البغبغاء الأفريقي بحكمته.
مع كل هذا الوجع الذي تكالب عليّ مع غياب البغبغاء الافريقي وفقدان جدي فقد أحببت يزن كثيراً، لأنه يُصبح ويمسي برفقتي، وقد غفرت ما بدر منه تجاه جدي …
وفي يوم ربيعي جميل فتحت عينيّ على منشار يقتلع احشائي ويمزقنا شر تمزيق، لم احتمل الألم وفقدت وعيي، ولم اعرف من أنا بعد ذلك اليوم … كل ما بحثت عنه طوال اعوام مديدة تبدد بفعل المنشار، كل المعارف التي استقيتها عن ذاتي اقتلعها المنشار بلا رحمة، واعادني الى نقطة الصفر..
سأخبركم ما آل إليه أمري، فقد وضعني رجل ذو كف عريض خشن في جيب بنطاله، وكان يأخذني كل صباح الى مقر عمله، ويُعيدني الى البيت بعد الظهر … كنت أخاف منه فقد كانت ملامح وجهه تُوحي بالشر الدفين في فؤاد.
لم يتغير الحال إلى أن اتى اليوم الأحزن في حياتي أكثر من يوم حزن فراقي البغبغاء وجدي، فقد كنت نائما في سبات عميق وفجأة أخذني الرجل بدون سابق انذار، وقد كانت الأصوات توحي بشيء من عدم الاستقرار والهلع، لم أكن اعلم اين نحن ذاهبون، وعندما وصلنا أخرجني الرجل من جيبه واخذ يقذفني على رؤوس وظهور المارة لا أُخفيكم سراً فأنا صلب وقوي جدا على الرغم من مشاعري الجياشة.
وما ضاعف حزني أن الرجل هوى بي على ناصية يزن الذي لا اعلم ما الذي أتى به الى هناك، فقد كان يبدو أكثر نضجاً واكبر عمراً ولكن الرجل لم يرحمه بلا انني أنا لم ارحمه وعندما سال دمه على جبيني بكيت كثيرا، وعلمت أنني قد أُستخدمت آلة للقمع.
مؤلف وقاص من سلطنة عُمان …
نُشر له :
أطماع رفات ” مجموعة قصصية ” عن دار ” العلوم العربية للتوزيع والنشر ” . –
– صفات السعي في النجاح والرقي ” تربوي ” عن دار ” بداية للنشر والتوزيع “.
قصه تحتوي على كميه كبيره من الابداع والموهبه السرديه