حنان الدرقاوي – فرنسا
كان لزينب الدكالية أطفال سمينون، كانوا مصدر فخرها في حي ايخرمجيون في ميدلت بالأطلس المتوسط، حي كان يصعب علينا نطق إسمه ويصعب تخيل الحياة فيه نحن الذين نعيش في الحي الإداري حي منظم وهادئ عموما. كانت أخبار إيخرمجيون تأتينا معجونة بأخبار اغتصابات وجرائم شتى. كانت أوامر الأمهات واضحة بأن لانذهب إلى هناك وكنا طبعا نتجاوز الأوامر ونذهب هناك لأن الأحياء الشعبية كانت تثيرنا بأشكال الحياة خارج البيوت فالناس يعيشون فيها خارج المنازل أغلب الوقت. الأطفال يلعبون والأمهات مقرفصات لطحن الشعير والآباء على كراس قصيرة يدخنون الشقوفا. كان ذلك الجو الحميمي يثيرنا فنذهب هناك لمشاركة أبناء الحي ألعابهم الكثيرة. في ذلك الحي كانت تسكن زينب الدكالية ذات السحنة السمراء. كانت فارعة الطول وفي ذلك كانت مختلفة عن نساء ميدلت القصيرات وهي خاصية للأمازيغ إذ هم قصار القامة ونحيفون. كنا جميعنا نحيفين جدا وكنا ننظر إلى أبناء زينب بالكثير من الحسد والنقمة على أكلنا الذي لا يسمننا. لم نكن قد عرفنا بعد أسرار الجينات وكيف أننا نشبه أمهاتنا وآبائنا النحيفين في إطار استمرارية الجينات منذ الأمازيغي الأول على وجه الأرض. كانت زينب تنظر إلى أبنائها وتقول وهي تنظر إلينا أبناء الحي الإداري.
-هاذوا أولاد الحلبة” نوع من الزرع سيء الرائحة ويقال أنه يعوض اللحم لأنه غني بالبروتينات” وليسوا أبناء دانون” القشدة”
كانت من المؤكد تعتقد أننا أبناء دانون لكن ما لاتعرفه هو أننا تماما في مثل حالتها ولا نرى الدانون إلا حين نمرض ويأتي به الناس إلينا في أغلب الأوقات. أعتقد أنه في لقاءاتنا مع أبناء إيخرمجيون كانت هناك مجموعة من الآراء المسبقة فأطفال ايخرمجيون يعتبروننا من أغنياء المدينة ونحن كنا نعتبرهم غجرا نتنين بفعل رائحة الحلبة. وهاته الآراء المسبقة كانت تؤدي في الغالب إلى معارك طاحنة تستعمل فيها الحجارة وقضبان الحديد التي كنا نلتقطها من ورشات البناء المنتشرة في المدينة التي كانت تتأهب لانطلاقة عمرانية توقفت في أواسط الثمانينات بعد أن هجرها الفرنسيون وتركوها لقدر التهميش. كانت هناك عمارات توقف البناء فيها وصارت أشباحا إسمنتية وأماكن مناسبة للعب الغميضة، لعب خطير جدا إذ كنا نصطدم بأعمدة الحديد التي تتدلى من سقوفها وجدرانها وقد تكسر أنفي في إحدى جولات اللعب في عمارة باخريمجيون. في ذلك اليوم كان أنفي يسيل دما وهالة قرمزية تتشكل حول عيني. أدركت أن لي فعلا أصدقاء في اخريمجيون فخالد نادى أمه بسرعة لتلحقني بالمخينزة” عشب طبي”. أدخلتني إلى بيتهم المتواضع، وضعت أعشاب المخينيزة تغلي في إناء. وضعت المخينيزة على أنفي وهي لا تزال حارقة فصرخت من الألم. أتت جارة لها بالدواء الأحمر وصبغت أنفي به فاختلط القرمزي والأحمر في وجهي ولم أستطع التعرف إلى نفسي في المرآة. زينب الدكالية أتت الي بكأس من الشاي المنعنع وبعض الخبز به زيت بلدي لذيذ. أكلت وشربت الشاي وأردت الخروج لكن زينب قالت:
-
لن أدعك تعودين إلى المفتشية لوحدك رجلي على رجلك يجب أن أكلم أمك، غير معقول أنك فتاة وتلعبين مع الأولاد في مثل سنك لقد شارفت على البلوغ وبدء نهداك في الظهور.
لم أكن اعرف ما معنى البلوغ لكنه بدا لي شيئا سيئا إذ أنه من موجبات التوقف عن اللعب. لم أكن أريد أن ترافقني الدكالية فهذا يعني افتضاح أمر لعبي ومصطفى الشاعر في اخرمجيون. حاولت الهرب لكن الدكالية أمسكتني من يدي وكادت تقسمها بقبضة يدها القوية وقالت:
-
أنت لست حملا للعب هنا، أنت لا تأكلين الحلبة هزالك مخيف
كنت أعرف أن هزالي مخيف وأن لياقتي البدنية ضعيفة ففي أغلب الأوقات أكون مريضة لكن بمجرد ما تغادرني الحمى أجري وأقفز ولا أتوقف عن اللعب. كنت أقاوم حكاية الضعف الجسدي تلك بإبراز القوة وقبول تحديات الأولاد حتى لو تطلب الأمر اللعب مع أبناء اخرمجيون.
رافقتني الدكالية وهي ممسكة بيدي على طول الطريق. تحدثت عن أشياء كثيرة عن غلبتها أمام أولادها الذين لايدرسون جيدا ويغادرون المدرسة تباعا. سألتني عن الدراسة وقلت لها أنني الأولى في قسمي دائما، قالت في حقد ظاهر:
-
طبعا إبنة رئيس المفتشين لا شك أن الأساتذة يزيدون في نقطك اتقاء لشر أبيك أغضبتني ملاحظتها فأبي الذي تجتمع فيه العلل لم يتدخل يوما في تمدرسنا ويطلب من الأساتذة معاملتنا كالتلاميذ الآخرين بل كان يقول لهم أن لايحرجوا من التأديب البدني الذي كان هو شخصيا يستعمله كوسيلة للتعليم. أبي الذي تفقه في علوم التربية وسافر الى العاصمة تاركا إيانا في فقر وخوف عاد وفي يده حزامه الجلدي كأهم وسيلة تربوية وبالفعل نجحت وسيلته التربوية الحديثة فكلنا ندرس جيدا خوفا من الحزام.
لم أقل كل ذلك للدكالية، كنت أحاول الإبتعاد عنها لأن رائحة الحلبة كانت تخرج منها قوية. رائحة تخرج من كل جسدها وتحيله كتلة رائحة كريهة. لأول مرة أنتبه إلى أن ايخرمجيون حي مقيت ومنبوذ إذ كيف يعقل أن يتغذى الناس بمادة مسيلة للدموع. كيف يشعرون في بيتهم ورائحة الحلبة تنز منهم؟ هل تتمنى الدكالية شهية طيبة لأبنائها وهي تضع أمامهم صحن الحلبة ذي الرائحة الكريهة؟ يقال أنها تعوض اللحم ولهذا يأكلها من لا يستطيع إلى اللحم سبيلا.
رغم كل بؤس حياتي الأسرية إلا أننا على الأقل لم نكن نأكل يوميا تلك المادة التي بدت لي الفاصل بين الفقر المدقع والفقر ببساطة. عدت وفكرت في أبناء الدكالية السمان. بدت لي الحلبة حلا غذائيا لتأمين السمنة الضرورية لمواجهة العالم. كان يخيل لي أن النحيلين لا يستطيعون مواجهة الحياة بصعوباتها وتعقيداتها وأن الإنسان يلزمه حزام بل أحزمة من الشحم لمواجهة الوجود المعقد بدءا بسخرية الأقارب وانتهاءا بسوق الزواج الذي من ضمن معاييره السمنة طبعا سمنة النساء أما الرجال فلا يعيبهم غير جيوبهم.
قررت أنني حين سأعود إلى البيت سأناضل من أجل إدخال الحلبة ضمن المقرر الغذائي المضطرب في البيت. الحلبة تعوض اللحم كما تقول الدكالية فأكيد أن أمي ستوافق على إدراجها ضمن المواد المراوغة للجوع. أمي تراوغ جوعنا بأطباق كثيرة كالباذنجان وحريرة اللفت والزغزاو والعدس. الحلبة اختراع عربي لهذا أمي لاتعرفها بالضرورة. سأتكفل بمحو أميتها الغذائية. عدم معرفتها بالحلبة شيء مسيء للإنسجام الوطني بين الشلوح والعرب ويجب إصلاح الوضع.
وصلت مع الدكالية إلى البيت، جريت باتجاه الباب و أغلقته بقوة. طرقت الدكالية طرقا عنيفا وأسرعت أمي بفتح الباب. تحادثت مطولا مع الدكالية التي أخبرتها بكل شيء اللعب والأولاد والضربة في الأنف. سمعت أمي تقول لها:
-
أبوها يسمح لها باللعب مع الأولاد ولارأي لي في الأمر، لو كان علي لحبستها في البيت لكن الأمر بيد أبيها.
-
أنت أمها إبنتك كبرت على اللعب في الأزقة مع الأولاد المهم دوزي بخير واحرسيها جيدا.
كان أبي المثقف يكرر دائما لأمي أنها لا تصلح لتربية الأبناء وأن مهمتها الوحيدة هي التنظيف وتهييء الطعام. أمي وجدتها فرصة واستقلت تماما من تربيتنا واكتفت بالملاحظة من بعيد، تلاحظ آراء أبي الغربية في التربية ولا تتدخل كأن الأمر لا يتعلق سنرى نتائج تربية أبيك فيك ستفضحينه في المستقبل” كانت تلك نبوءة تجسدت في الواقع سنوات بعد ذلك.
أمي لم تكن مهتمة بحكاية الحراسة التي حدثتها عنها الدكالية فهي كانت مشغولة بتوفير سبل الراحة لأبي وإعانته على جيش الناس الذين يتكفل بهم ويعيشون معنا بالإضافة إلى قائمة ضيوفه الممتدة من طنجة إلى الكويرة وقد حول البيت إلى فندق ونقطة عبور القوافل وكانت أمي هي التي تتكفل بذلك الحشد من الناس ولم تكن تتوفر على وقت لا لحراسة بناتها ولا حتى لإطعامعن كما يجب.
أمي طبعا خافت أن تخبر أبي بما حدث وأبي لم ينتبه إلى الهالة القرمزية على وجهي فهو كل يوم يعود سكرانا ثملا تفوح منه رائحة نبيذ رخيص . أنا ايضا لم أفاتح أمي بشأن الحلبة لأنني كنت أعتقد أنها لن توافق على مشروعي الغذائي ثم إن أكل تلك المادة سيجعل البيت جحيما فقد تخيلت لو كنا جميعنا برائحة كريهة فكيف سنفعل في بيت يعج بالناس ذوي الروائح؟ نحن أحسن كما كنا نحيفين لكن رائحتنا مقبولة ولا داعي لتعقيد الأوضاع أكثر مما هي معقدة.
كنت في مدينة ألبي ذات يوم من 2007. لم أعد أستطيع أن آكل شيئا. كان منظر أي أكل يثير في داخلي الغثيان ولم تنفع محاولاتي في تعلم أطباق جديدة في شيء. كنت أنظر للأكل في الثلاجة وأتمنى لو تعود شهية الطفولة. كنت أشتهي الأكل ولم يكن إليه سبيل وها هو الأكل الآن لكن الشهية طارت.
فكرت بالدكالية ووصفتها العجيبة في فتح الشهية والتسمين. قرأت على النت عن الفينوغريغ وهو الإسم الفرنسي للحلبة. فقرأت أنها غنية بالبروتيين وهي مضادة للأكسدة أي أن فيها كل ما أحتاجه .
مد لي الصيدلي قنينة فينوغريغ صغيرة وقال:
-
ثمان يورو
رحلة الى ماض وحنين .. رجعت بي خمسين سنة الى الوراء فكان لزيارة اخرمجيون مع امتزاج رائحة الحلبة وتربة اخرمجيون احساس غريب ولذة عشق شكرا على هذا المقال الرائع.