سِفر التكوين | موحى أوحديدو.
موحى أوحديدو.
تحت سماء وحدتي المثقلة بسحب لا تأتي ببشرى. أتمشى وحدي ورأسي بين كتفي أعد الحصى على أرض جرداء في قلب الجنوب الشرقي، وأركل الدقائق والساعات في طريقي إلى لا مكان.. هبت ريح خفيفة ألقت بوشاحي الأزرق -هذه القطعة من السماء حول عنقي- على وجهي وتعطل نظري المنكسر. توقفت ورفعت رأسي إلى الأفق المحجوب ويدي إلى وجهي أزيل عنه الحجاب: في الأفق شمسٌ تُغْرِقُ خجلها بِعُسْرٍ خلف الجبل الأبيض، وسحب بخدود وردية كخدود فتيات أيت حديدو. استوقفني المنظر، وكأني في خضم طقس أحيدوس -أحواش-، أو جالس على التبن ألف سيجارة أُشعِلُها وأحترق أنا. عدت إلى غرفتي التي أكتريها في حي الموت، وفي طريقي للخروج من جغرافيا التيه إلى عالم المكعبات والإسمنت، صادفت فتاة كأنها خرجت من حلم مستعجل، أو من فيلم بدون عنوان، تهم بدخول ديار الانكسار والتقوس. بادرتها بالحديث كأني أعرفها منذ دهر: حبيبتي .. إذا داهمت رياح جافة غرفتك وأفسدت عليك خلوتك فأغلقي الباب، حتى لا تبعثر كل أوراقك في أرجاء المكان، ويتشتت تركيزك على الأفق، وتتوهي وأنتي في جمعها وإعادة ترتيبها. وحين تنتابك شكوك بصدد الزمن ومآل الأحداث ومصير الشخوص فيه، فتذكري أن لا أحد سيمنحك حياته إن أنتي أضعت حياتك في البحث عن منطلق الحبكة ونهايتها.. حبيبتي ليس المهم ما يحصل ولماذا هكذا أو هكذا بهذه الصيغة أو تلك في قصة ما، بل ما يهم هو مدى قيمة وعمق الواقع فيها، ولا تخوضي في العبث أرجوك ! فبعض الأفكار فوضى، وبعضها تناسل وتشابك وتقاطع أخرى، لكن، كل هذا لا قيمة له ما دام غارقا في وحل الماضي لا يتزحزح، كجثة جاموس مهاجر نافق، حتى التماسيح ترفض أكله. لا تبتلعي هواء الماضي الراكد في حاضر تتجول فيه رياح الغد المنعشة، ولا يهمك كيف هو الغد ما دام غدا، لأن كل الغدِ شيء جديد، فعيشي لِلُقياه. حبيبتي إن اليوم مجرد مدرسة نتتلمذ فيه لنلقى الغد، والغد مدرسة أخرى، ومستوى آخر، ودروس أخرى، لغد آخر.. والحكاية لا تنتهي بحلول الغد، لأن كل غَدٍ حاضرُ غدٍ آخر، فلا تيأسي من رحمة السماء. أتدرين ؟! المشكل ليس في من يفسر الحياة بشكل صحيح، بل المشكل أن البعض لا يريد إلا أن نعيشها على كيفه وهواه، وحسب تفسيره هو لها، وهذا هو الغباء، لأنه يعتقد أن تفسيره غير قابل للنقض. الحياة لا تحتاج لتفسير أو تبرير، بل تحتاج لمن يعيشها بكل كيانه، وهذا طبعا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال فهم وتفهُّم تفاسير الآخرين واحترامها. اعتلت وجهها علامات التعجب والاستغراب والاغتراب، ولم تنطق بكلمة، تسمرت في مكانها كتمثال وسط ساحة كبيرة، يسير فيها الناس ذهابا وإيابا بدون انقطاع، دون أن تَشعر بوجودهم أو تُثِيرها ديناميةٌ ما فتتحرك. لم يدُم خطابي إلا ثوانٍ قليلة ثم غادَرْتُها، وما إن تجاوزتُ كتفها بكتفي حتى أدركت أن صورتها قد تلاشت تقريبا في خيالي، تملكتني حينها رغبة قوية في العودة خطوات إلى الوراء، لآخذ لها صورة أكثر وضوحا من التي كنت للتو أُحدِّثها.. لكن فكرة أن تكون هذه المرأة مجرد صورة من نسج وحدتي وغربتي أرعبتني، فعزفت عنها وقررت أن أُرَمِّمَ ما تبقى منها في ذاكرتي وأذهب لحال سبيلي.
2016-08-25