مريم الساعدي (الإمارات ):
“حرام هذه الشفاه الجميلة دوما تفعلين بها هذا.. ستأكلينها تماما”، تنهرني إحداهن وأنا مستغرقة في تقشير الجلد الجاف على شفتي، أتطلع إليها، تبدو فخورة، أتساءل بماذا.
أكاد أجن. السأم يفتك بي. لم أعد أحتمل كل هذه الأحاديث الصغيرة على مقربة من مسامعي. وكل هذه الوجوه الطيبة مثل خراف الراعي العطوف.. أريد أن أخرج من جلدي. فأتسلى بتقشير الجلد الجاف على شفتي… ثم أفكر، أني لو استمررت في هذا السأم سآكل جسدي كله، لن يتبقى سوى أسنان قارضة والأظافر على عظام القدمين واليدين. لا أحب قضم الأظافر مع أنها عادة شائعة أكثر من أكل الشفاه لكن التماسّ مع الأسطح الملساء مثل الأظافر يثير قشعريرتي تماما كالمشي حافية على أرضية متربة.
إذاً سآكل جسدي كله وفي النهاية سأكون عظاما وأظافر. وستظهر فئة جديدة من الناس على غرار أكلة لحوم البشر، هي أكلة لحم الذات. وستصير موضة. سيقلدني الكثيرون، العادات الجديدة تنتشر بسرعة. والبشر يحبون التقليد؛ فقط افعل شيئا مختلفا، سينتقدونك في البداية ثم سيفعلون مثلك، ولو بعد حين.
كل ما عليك فعله فقط أن تثابر على الفعل المغاير. طبعا كثيرون غيرهم لن يتأثروا بشيء لأنهم من الفئة التي لم توجد بعد، أي أنهم موجودين يذهبون ويجيئون ويأكلون ويشربون ولكن لا يستوقفهم شيء في قصة الوجود هذه. هذه الفئة مستريحة، حاولت أن أكون مثلها. حتى إني صادقت إحدى المنتسبات إليها، كانت عضوا نشطا فيها من شدة التصديق. تمشي مثل طاووس، ليس مجازا، فعلا تمشي مثل طاووس، ترفع رأسها للأعلى، وتتعمد ترك مؤخرتها تمشي لوحدها في الخلف، وتجعل صدرها يستقبل المهنئين بالأيام الجديدة السعيدة.
كل يوم جديد هو يوم سعيد، ففيه سيكون إفطار وغداء وعشاء، وستمشي وتستقبل العالم بصدرها وتستدبره بمؤخرتها وسيكون مندهشا لكل هذا الجمال الذي يدبّ عليه.
للأسف لم تدم الصداقة طويلا، وَجَدَتني حمقاء لا أفهم شيء حتى إنها كانت تضطر أن تفسر لي معنى الماء: “وعندما مددت يدي لأخذ كوب الماء…” قالت حين كانت تحكي لي عن كيف اكتشفت أن الجالس قبالتها في مكان عام كان يراقبها بشبق، فكالعادة كل العالم كان يشتهيها، وهذا يزعجها وتتمنى لو يكون في العيون ذرة حياء.
” مددت يدي لاخذ كوب الماء..” . ” الماء ..تعرفينه ؟ “.. وحين وَجَدَتني “أبحلق” مثل قطة بلهاء أعادت طرح السؤال: ” الماء. تعرفين الماء..صح؟”… هززت رأسي بالإيجاب لتكمل القصة. فقالت: “كان (يبحلق) مثل وحش لم يرَ أنثى في حياته، هل يجب على الواحدة أن تحبس نفسها في البيت لتستريح؟!”.
قلت لها: “ربما تتوهمين، لا أرى أحدا يبحلق فينا حقا”، خشيتُ أن تحبس نفسها فعلا وأخسر هذه الصداقة.. “طبعا لا ترين، لا تحسين لأن لا أحد (يبحلق) فيك أنت.. أنظري لنفسك”، قالت بعد أن ضحكت بتفهم صبور يريد أن يقول: “أيتها الحمقاء هل تقارنين نفسك بي” . نظرت لنفسي، وجْدْتُني سحلية رملية ألتصق بجدار أملس، وحتما لا أملك ما أستقبل به العالم وأستدبره. قلت باستسلام: “معك حق”، لو قلتُ غير ذلك لَتَوَقفَت عن التواصل معي. واحتجت إليها بشده لتنتشلني مني. على الرغم من ذلك قاطعتني، لم تُجدِ محاولات اتصالي. وَجَدَتني مضيعة للوقت.
فعدت للاستغراق في أكل الجلد اليابس على شفتي.
“يوما ما ستندمين على ما تفعلينه بجسدك..وستتمنين لو اعتنيت به أكثر وكنتِ أكثر حرصاً في التعامل معه”، قالت لإحداهن. بدت متحسرة هذه المرّة بصدق، متحسرة جدا، ثم غامت عيناها في أفق بعيد، وانكمشت جميع ملامح وجهها، بدت متألمة كمن حلّت به مصيبة قديمة اكتشفها للتو، أو كالمصاب بمغص حاد مزمن يعرف أنه لن يزول. كانت جميلة لكن قديمة، وتخيلتُ أن هكذا ستبدو ملامح نفرتيتي لو استيقظت فجأة ورأت نفسها وقد أصبحت مومياء.
وقلت بيني وبين نفسي، إذا كان الجسد في النهاية سيأكل روحك هكذا، فلم لا تبادر وتأكله؟
ولكن لو أكلت جسدي كله، كيف سآكل رأسي! سأكون عظاما وأظافر ورأسا. ولن أستفيد شيئا. سيكون كل عناء أكل الذات قد ذهب هباء، فالمشكلة في الرأس: أشباحي، أوجاعي، أهرام الأحلام وقمامة الفشل، الخوف من النفق الممتد المظلم، وكل هذا السأم…ماذا أفعل بها كلها وقد أكلت كل الجسد؟، هل أطحن العظم وأعتاد قضم الأظافر؟ حتى لو فعلت سيبقى الرأس وحده ملقىً على سطح الأرض مباشرة من دون جسد يحمله، سيبقى وحيدا تماما سوى من كل ما يسممه..
ربما لو يأكل لي أحد رأسي لن أضطر لأكل باقي الجسد…
من يأكل رأسي؟