سبيل الحكمة | حسن شوتام
حسن شوتام
قرّر الحكيم ذات صباح أن يَسْلُكَ سبيلا مختصرا إلى المدرسة. ضبط نظارته على العِرْنين، وأحكم المِقْوَدَ بكلتا يَدَيْه، فيما تكفّلتْ صفحتا قَدَمَيْه بتحريك دَوّاسَتَيْ الدّرّاجة. اعتدلَ على السّرج ثم انطلقَ والثقةُ رَفيقَةُ وَجْهِه. في ظَرْفٍ وَجيز، ابْتَعَدَ عن بنايات الحيّ وأزقّته المتداخلة الضيّقة؛ كمن يستعجلُ مُعانقةَ فضاء أَرْحَب.. فضاء يُعينُه على النظر أبْعَدَ من أَرْنَبة أنفِه. طبعا، لم يُفَوّت الحكيم فرصةَ خُلُوّ الطريق المُعبّدة الرئيسة من حركة السير؛ لينحرف بدرّاجته جهة اليسار، حيث المسلك العريض غير المُمهّد الذي يُفضي إلى المدرسة، ناهيك عن مسارات أخرى مُتشعّبة؛ تربط بين القرى وأماكن تتلاشى وتختفي عند مُنتهى البصر. لسبب ما، استحوذتْ تلك السُبُل الدقيقة على اهتمامِه.. قوّتُها الجاذبة قد تَكْمُنُ في وِجْهَتِها غير المعلومة.. إنها سلطة المجهول عندما يُلقِمُنا وَهْمَ امتلاك رأس الخيط، ويُشْعِلُ فينا رغبة عنيدة في الامساك بِطَرَفِه وتَتَبُّعِ مَسارِه حتى الحَوْض الأخير.
كاد الحكيم يَمِيلُ بدراجته ويدخل بعجلتِه المتواضعة تلك القِفار؛ من خِلال أوّل فرْع يَشُقّ حافة طريقِه، غير أنه تذكّرَ مواعيد الدّوام المدرسية، فاختارَ قَسْرا تَجاهُلَ المسارات الثانوية وإيداعِها قُوّتَهُ المُتَعَقّلة عَلّهُ يظفر منها بمعاني جديدة ينتشي باكتشافها.. جَمَعَ الحكيم حواسّه دون أن يتراخى في القيادة، ثم فتح فَمَه مُكلّما نفسه: ما جدوى كل تلك الشُّعَب مادامت ستلتقي وتتصافح في ذات المَصَبّ؟ ثم هَبْ أني قرّرتُ أن أشقّ لي طريقا في القفر. أكان سيصير كذلك دون خُطى أتباع تُبعد وتُنَحِّي عنه الأحجار وتُسَوّيه؟ أَوَلَيْسَتِ الطُّرق الرئيسة والفرعية من لَعنة الاتّباع، وسيْر غريزيّ مُتكرّر خلف مَهْوُوسٍ مأخوذٍ بشهوة الابتداع؟ لكن ماذا عن بَركة ومنطق الأهداف الشريفة؟ هل يُعقل أن نَسلُك في سبُلٍ نهايتها خراب وسراب؟ أوليست كل الطرق في النهاية تؤدي إلى مصلحة.. مشفى.. وليمة.. جميعها في النهاية تُؤَدّي إلينا.. فما جدوى أن تَتْبَعَني أو أَتْبَعَـــكَ وكُلّنا الطريق والحق والحياة !
كَبَحَ الحكيم تواتُرَ خواطره عندما بدأ يقترب من دُور القرية. أصابِعُهُ تأهبّتْ على المِكبح إذ وافق مروره وقت ذهاب التلاميذ إلى المدرسة، بمحافظهم المتشابهة وزيّهم المُوحّد. تحت طائلة حواسّه تعــمّدَ أن يُبقيـهم.. تجـاوز المجــموعة الأولـى ثم الثــانية فالثـالثة قبل أن يأخذ آخر عطـفة تبـــدأ بعـقبــــة وتنتهي بمدخل المدرسة الكبير.. ترجّل الحـكيم مُحدّثا نفسـه: هنيئا لكـم أيها الأطفال بالـهِبة الحكومية.. هنيئا لكم بوزارة تمـلكُ الفـكرة السـديدة والرؤية الواضحة الرشيدة.. طوباكم بمشروع صيّركم مُتكافئين.. متشابهين.. مُوَحَّدين.. من دون شك أنتم كـــذلك لأنكـم سُقيتم من نبع واحد، وأنا على هذه الحـال عـلى دراجتي وكفى.. والسبب واحد.. نُشبهـــــه ويشبهنا حدّ التطابق والملل..
لاهِث الأنفاس وَصَلَ مُنتهى العقبة ففضّل الحكيم الترجّل حتى بلوغ المدرسة. وبينما هو سائر يدفع دراجته برفق ويلتقط أنفاسه؛ إذ بحقيبة مدرسية كبيرة تتمايل أمامه، مُعلّقة على جسد صغير، لا يظهر منه سوى ساقين نحيفتين وهامة نصف مخفية مُنحنية من وطأة الثقل. رثى الحكيم لِحال التلميذة وتأثّر لمظهرها أيّما تأثر، وتأسّف للوزرة المدرسية التي فشلت في ترقيع واقعها الاجتماعي.. واستمرّ يُوزّع ملاحظاته تارة على حـقيبتها المُكتـظة وتـارة على حذائها الباهـت اللون المُمَزّق، والصغيرة غير بعيدة عنه؛ تتقدّمُه بخـطى حـثيثـة وأنفاس متقطّعة وتقترب من بوابة المدرسة، بينما الحكيم كعادته؛ يطارد فراشاته وظلاله الهاربة عبثا، مع أن الفرصة كانت على بُعد خطوة منه ليجمعَ الحكمة من أطرافها ويرى بحقّ أبعد من أرنبة أنفه!
2017-03-07