رقصة الغربان | نور الدين خروب
نور الدين خروب
مرت سنوات طوال قبل أن تعودي إلى ضيعة الوالد،علقتِ ديبلوم الهندسة على جــــــدار غرفة البيت المطل على حقل الذرة،تعوّدت ألا تفارقي والدتك ،تضمينها ،تقبلينها طويلاً قبل أن تعودي لتضمينها من جديد وتضحكين، و بين تقبيلة وأخرى،كنت تخرجين في نزهة وسط الحقول القريبة دون أن تتجاوز قدماك أشجار العرعار العالية التي اصطفت لتحرس الحظيرة كــــــي لا تسقط على وجهها في الوادي، فتختمين جولتك بجولة خفيفة في حديقة البيت .
لم يكن “حمــــــــــــــيد “غريباً عن البلدة، بدأ حياته في الضيعة،كبر وفيّا لخدمتـــها ، فمنحه والدك حرّية التصرف، يشتغل أكثر مما ينبغي له أن يشتغل، ينهض قبل أن تطل الشمس على حقل التّــوت،فينعشه سحر الكون وقد اختلط برائحة الأزهار القريبة من بيته. تخرج الأبقار والأغنام إلى المرعى ،فيما ينقّ الدجاج في أرجاء الضيعة ،تكادين أن تطئين على صيصانها عند كل خطوة ، يروق لك اللعب ويستهويك، تركضين خلفها وهي تحاول الإبتعاد عنك مستنجدة بأجنحتها دون أن تطير، يتشتت شمل الفراخ ويدخل الجميع الحقل القريب من البيت ،وبعد المرح تعودين بدجاجة ويندهش الكل بما تعلمت من فن الطبخ ، تدخلين الى الغرفة، تستلقين على الفراش تحت ضوء خفيف وفي أعماقك ارتياح.
بدأت ترافقينه ، تركبان معا الجواد الرمادي ليعبر بكما الحقول ، فتجدان التلال والخضرة قد امتدت أمامكما وأنتما تأكلان حبات النبق تحت شجرة على الهضبةِ المطلة على واد بهت من الجهة القريبة من السماء، دون أن يخرج حديثكما عن الضيعة …. ، تشكرينه بعد العودة من دون أن تفارقك الإبتسامة ،فيعود بالجواد، هو السائس اللطيف لمربطه،سعيداً بالوقت الذي قضاه يحرسك وسط أشجار الخروع والدفلى على ضفتيْ الوادي. تعلمت منه حبّ الضيعة، أصبحت تعانقين المجرفة لوقت طويل، تحلبين ،وتقتفين الخرفان إلى أن تتجاوز الباب الكبير الذي يفضي إلى حيث أرض الله الواسعة، تهتمين بكل شئ وتتظاهرين بعدم الإكتراث. فيما يوجّه “حميد” الخدم كالعادة.
دعوته للرقص فرحاً بمحاصيل الموسم الجديد فانخرط ،انشرحت أساريره و بدا له وجهك ذهبيا تحت ألسنة النار المتقدّة. دبّت في عروقه دبدبات الفرح ، ضمك إلى صدره الهمام قبل أن يعاود النظر إلى عينيك ويطبع قبلة حارّة على فمك، فانطلقت تشتمينه بأقبح الشتائم التي تعلمت،أوشكت أن تفسدي الحفل لولا ارتفاع الزغاريد، فانتدبت مكانا بعيداً. جلست فوق جذع شجرة يابسة مهملة قرب الزريبة، تمسحين الوجوه الفرحة بنظرات سريعة بحثا عنه ،دون أن ينكــتشف أمرك، ما فعله حميد ، سيفتح أبواباً ليتحرش أحدهم بك،هذا ما ظل يتحرك في رأسك طوال تلك الليلة، وفي الصباح تسمّرت قبالة باب غرفته الذي لم ينفتح ، بدأ يكتظ بمشاعر سيئة ممّا جعلك تلومين نفسك و تركبين صهوة الجواد وتصعديــن المرتفعات القريبة،أذهلتك رقصات الغربان الحائمة على الشجرة التي ألفت الجلوس في ظلها على الهضبة المطلة على واد بهت من الجهة القريبة من السماء، تركت صهوة الجواد، فسقطت على ركبتيك تجهشين بالبكاء و “حميد”معلق بمنديلك الرمادي وقد نهشت الغرابين عينيه.
رقصة الغربان نور الدين خروب 2017-09-30