رائحة أبى | محمد عباس على
محمد عباس على:
(1)
مشاعر متأججة غزت صدرى وأنا أراه هكذا على باب المحل ، محنياً على الطاولة الخشبية التى تسد الباب بوجهه ، ويداه مازالتا تقبضان على حذاء قديم كان يصلحه قبل أن يحدث ماحدث .
الطاولة الخشبية الصغيرة بخشبها الذى حال لونه الى سواد من أثر الصبغة والعمر الضارب فى القدم تسد باب المحل ، محملة بعِدد مختلفة لزوم إصلاح الأحذية ورتقها وتلميعها أيضا ، الجدران خلفه عليها مشاجب ، معلق عليها قوالب جلدية لتوسيع الأحذية الضيقة ، وأخرى عليها جلود جديدة لمن يرغب فى تصنيع حذاء جديد . وهناك أيضا أرفف عليها أنواع ورنيش وأنواع فرشاة التلميع ، أما على الأرض فتطأ قدماك ماتطأ من علب صغيرة أو مسامير أو أحذية تنتظر الإصلاح أو أى شىء من هذا ، عدا الأرض نفسها فلا يبدو لها أثر .
(2)
كثيرا ً ما طلبت منه أن يستريح ، يتركنى أحوّل نشاط المحل الى شىء آخر يجذب الزبائن ويجلب الرزق ، أو على الأقل يبيعه لمن يريدون ،
كانت حدقتاه البنيتان تلمعان بقدر ماوسعهما وهو يرنو اليّ ، أشياء كنت أدركها من نظراته تلك ولكنى أتغاضي عنها ، ربما لأننى لن أمتلك الرد الذى يريحه ويريحنى معه ، وربما لإنشغالى عن نظراته وعن البحث فى مدلولها بأشياء أخرى .
كنت أراه و العرق حبات متلألئة تقبلها أشعة الشمس بحنو على جبهته وهو يجلس أمام الطاولة الصغيرة ، يسد باب الحانوت بهيكله النحيل ، جالساً محنى القامة على حذاء بيده يعمل فيه بهمة لاتناسب صحته بالمرة ، فأحبه بقدر ماأغضب منه .
(3)
زبائن هذه الأيام قل توافدهم عليه ، هو يعرف هذا فى الوقت الذى يعرف جيدا ً أنه قل عدد من يفكر فى الإصلاح ، ربما لأن الثمن الذى سيدفعه لو زاد قليلاً لأشترى به حذاءً جديداً ، هذا فى الوقت الذى عرض البعض عليه مبلغاً لم يحلم به فى أكثر أحلامه إشراقاً لشراء المحل ، راغبين فى تحويل نشاطه بما يتناسب وحال الشارع حولنا ، فقد أصبحت المحال كلها تقريباً إما لبيع الهواتف الخلوية ، أو قطع غيار الكمبيوتر ، أو الملابس والأحذية المستوردة ، والتى تلسع نيران أسعارها القلوب قبل الأعين ، ولأن من يعرضون شراء المحل يعرفون إصراره على رفض البيع بأية حال فقد دارت أعينهم الى أن استقرت علىّ ، سألونى أن أقنعه بصفتى ولده ، خاصة أننى تخرجت من الجامعة وحتى الآن لم استقر فى عمل يليق ، أو حتى أتقبله وأرضى عن نفسى فيه ، واكتفى بالحضور اليه كلما تركت عملاً لأجلس الى جواره ، أمد يدين متكاسلتين الى حذاء ، أو أناقش زبوناً فى سعر ورنيش دهان ، أو أفلت من أسر عينيه الى المقهى المجاور حيث أسلى الوقت بلعب الدومينو ، وكنت من وقت لآخر أشير الى تعبه وجهده الذى قل وعينيه اللتين لم يعد لهما ذات الألق للعمل ، وقد صارحنى مرغماً أنه لم يعد يرى جيداً ، و أنه يجد صعوبة فى الرؤية مما يضطره الى ربط اللمبة الكهربية بحبل قوى لتكون أمام عينيه مباشرة ، ليرى على ضوئها ماتعجز عيناه عن رؤيته ، وناشدنى أن أشاركه العمل فهنا – كما قال – الأصل ، وحين اقترحت عليه الذهاب لعمل نظارة طبية تعلل بانشغاله – رغم قلة زبائنه – ثم رضخ مشترطاً أن يذهب وحده للطبيب وأبقى أنا بالمحل ولا أغلقه ، وتم له ماأراد ، وحينما عاد أخبرنى أن الطبيب نصحه بعدم إرهاق عينيه ، وجدتها فرصة فعدت المح الى البيع وماسوف نجنيه من فوائد نتيجة هذا ، وأهمها راحة عينيه وايضا راحتى !!
لمعت عيناه لحظتها بقدر ماوسعهما وهو يرنو الىّ ، ولم يأبه بالرد .
(4)
اليوم حينما رأيته منكفئاً بوجهه على الطاولة الخشبية هرولت اليه ، أفزعتنى مفاجأة رحيله ، لفحتنى مشاعر متضاربة وانا أحمل جسده النحيل بين يدىّ ، أرى المريلة – التى كانت بيضاء – على صدره جيوبها ممزقة الحواف ، أو مثقوبة ومرتقة بخيوط ذات الوان شتى ، سائلتنى نفسى هل كان رحمه الله متمسكاً بشىء لا جدوى منه ، هل كان غائباً عما يجرى حوله ولايرى الا محله هذا ، وهل توقفت حياته فعلا ً ولم تكن تمتلك القدرة على الحراك وسط بحر هائج لايستقر له موج ولايهدأ له ضجيج ؟
أدرت وجهى فى المحل الصغير باحثاً فى الأركان وعلى الجدران والأرض عن شىء لا أدرى ماهو ،، كانت رائحة أبى وصورته ماتزال تعبق المكان بقوة ، دفعت الطاولة الصغيرة بهدوء الى الداخل شعرت للحظة خاطفة برعدة وانا أفعل هذا ، أحسست أنه يرانى ، وسوف يزمجر فى وجهى صارخا ً : لاتغلق المحل
(5)
حبى له الزمنى الا أعارضه أو حتى أبدى له رفضى لرأيه فى حياته ، المحل بعد غيابه صار فى يدى ، البيع الآن بأمرى ، أمى لن ترفض ماأريد ، اتصل المشترون بى ، تنبهت لوجود مشترين آخرين ، وبدأت المناوشات نهاراً ، فى الليل رافقتنى صورة أبى وهو محني على الطاولة الخشبية التى تسد الباب بوجهه ، ويداه تقبضان على حذاء قديم كان يصلحه ، وعادت الرياح تهز جدران رأسى بعنف ..!!
(6)
صباح اليوم توجهت للمحل ، فتحته ووقفت أمامه ، كانت رائحة أبى ماتزال هناك وصورته وهو محني على الطاولة الخشبية التى تسد الباب بوجهه ، ويداه تقبضان على حذاء قديم كان يصلحه تملأ ناظرى ، أقبل المشترون ، الأموال بين أيديهم والبريق فى أحداقهم يتحدث عنهم والحروف اللينة المغسولة بالمكر تسيل من حواف أفواههم ، أنظر وأدقق ، وأعرف أن الظروف كلها مهيأة للبيع .
(7)
بدأ المزاد فوراً ، تنافست الألوف من الجنيهات فى حدة ، ووقف الشارع كله يتفرج ، النوافذ والأبواب والشرفات امتلأت بالأعين الراصدة ، المحال المجاورة توقفت عن البيع وأتت تأخذ حظها من النظر ، المارة شدهم الأمر فأرسلوا نظراتهم لترى ، انتفض أبى من رقدته فزعاً ، نظر الىّ عاتباً ، أحنيت رأسى خجلاً ، عدت أحدق فى المحل من جديد ، أراه بعين لم أره بها من قبل ، بدل اصلاح الأحذية الذى لم يعد لائقاً بالمكان تصنيع الأحذية وبيعها ، بيع أنواع الورنيش وأنواع فرشاة التلميع ايضا وكل مايختص بالأحذية ، مع قليل من الزينة يصبح مشابهاً للمحال المجاورة ، ويبقى المحل واسم أبى عليه .
واجهتهم جميعاً ً .
– لابيع
وأعطيتهم ظهرى لأتفرغ لما انتويت عليه !!
رائحة أبى محمد عباس على 2016-02-09