عمل للفنان التشكيلي المغربي عبد السلام أزدام (2016)
رأسٌ بثلاث عيون | جلال نسطاح
جلال نسطاح
هذه الرؤية بدأت تُسَمِّم سريرتها وجسدها، وهي تُدرك ذلك جيدا، لكنها لا تدري لماذا غالبا تستلذها كلما تمددت وحيدة في غرفتها، كجثمان مخفي ينتظر الدفن…
انفرجت ساقاها، وتذكرته في انسداحها له، كطريدة غريزة أسقط صيادها آخر سلاح لها، فبصقت كأنها تبصق بلغم ذكرى… انفرجت الساقان، وضغطت على نفسها بقوة، فأسقطت وليدا يطش في ثقب الكنيف. أنينها وصراخه يمازجان دمع الذعر والغضب مُخضِّلا رموشها، لكنها تراه بوضوح نصف غارق، هاجسة أن ملامحه الصغيرة سوف تنمو لتشبه ملامح ذلك الرجل، الذي قال لها يوما، بنغمة مضبوطة ساحرة، وهو يضم يديها بحب:
ـ لستِ إلا أنا. كيف أترك نفسي إذن؟ !
اجتاحها شيء من الصفاء، وتنهدت:
ـ هاهو في قبضتي. هاهو حي في ذاك المطعم. هاهو ميت في هذا المرحاض !
جلسا إلى المائدة، وكلما جلسا هكذا متقابلين، كانت تغمرها صورة جميلة: في صمتهما تصنع ساعة أخرى كأرجوحة، يمتطي عقربيها عاشقان يسخران من سطوة الزمان، وتسر إلى نفسها: أكيد أن هذا الجنين سيملك عينا لي وعينا لكَ لرؤية واحدة. لقد حلمت، وحلمت كثيرا وهو حاضر، وهو غائب، تراه ولا تراه، لكنها سعيدة؛ فكلما طلبته جاءها بابتسامة ممطوطة بالبراءة، لاحظت أنها في ذبول، لتستحيل ابتسامة مذنب، لكن لا بأس، على الرغم من صوته المتغير النغمة، كأنه ساحر متعب من تكرار مهارته، قد تُزهر ابتسامته حينما يرى الوليد يشبهه دليلا على أنه من دمه، ورسمة العينين والحاجبين والفم تكفي دليلا على أني لا أعرف سواكَ. هكذا ترتضي متناسية نظرته الراكدة، وهو يدق شوكة الطعام برتابة على صحنه، ثم يسألها:
ـ كم عمره الآن؟
ـ ثلاثة أشهر.
ثم يطلب الفاتورة ويقول:
ـ لم أعرفك إلا منذ شهرين يا فاطمة.
ـ لا ، منذ ثلاثة أشهر عزيزي.
يدفع الحساب ، وتحاول أن تصد غما تعلم أنه سيهدم أساس حبها، لكنه يفاجئها :
ـ أكيد أنه ابني عزيزتي.
ويمسك بقوة بذراعها ، فتشعر بمسكته وهرولته بأنها مقودة إلى سجن…
عقارب الساعة تُتكتك بعنف، كما لو أنها تدق مسمار اللعنة في أعماقها، وما استطاعت النهوض عن سريرها، فتلطم بطنها، ولا تئن.
يستوقف سيارة الأجرة، وفي داخلها يبوس يدها بلطف، ثم يُمَسِّد بطنها ناظرا إليها كأنه يحلم، ويهمس:
ـ إنه ابني يا فاطمة، اذهبي وارتاحي، وغدا نلتقي ونتعشى في ذاك المطعم.
بصوت راعش تقول:
ـ سوف يشبهك…
اتصلت به، ولا يرد…
اتصلت غير مرة برقمها وبرقم غيرها، ولا يرد، فتلطم بطنها، ولاتئن.
وهي تستر بطنها بحقيبتها، طلبته عند أصدقائه وزملائه، محاولة أن تمسح عن وجها علامات اليأس، وانتظرت مجيئه كغبية عنيدة، وانتظرت كثيرا وهي جالسة إلى مائدة صمتهما وحديثهما اللذيذين تشرب المرارة، والجنين يركل في أحشائها كأنه يقول:
ـ ما هذا الغباء يا أمي؟ ! أفي أنفك عطب حتى لم تُمَيِّزي رائحته؟ ! لماذا فَرَّجتِ الساقين للكنيف ولذاك الرجل؟ !
أرسلت له رسالة هاتفية كاذبة، لعله يجيئها بتلك الابتسامة أو دونها:
ـ لقد ولدت. طفلنا له عيناك الجميلتان حبيبي.
انتظرت رده، والزمن يمر أكثر عنفا حتى أرسل ردا باردا:
ـ إنه لا يشبهني.
في غرفتها وحيدة تنتظر، وتنتظر أكثر، وتحلم، تحلم أكثر بالأرجوحة والمائدة والابتسامة، ولا ينمو في رأسها غير ثلاث عيون جاحظة بالذعر والغدر والثأر، فتلطم البطن وتئن… تجهش ببكاء مديد، ثم تكفكف دموعا مخزونة حارة، تنهض بجهد عن السرير، تتأوه، تتوجه دائخة إلى المرحاض كمغلولة ترسف إلى خلاص ما…
2016-12-17