ذراع خشبية لا تنزف دمًا | أحمد عبد اللطيف
أحمد عبد اللطيف (مصر):
في الصباح، كل صباح، يسقط مني ذراع. وفي الظهيرة، منتصف الظهيرة، أستعير ذراعًا خشبية. وفي المساء، كل مساء، أعتاد الذراع الخشبية. وفي الصباح، كل صباح، أشعر أن الذراع التي تسقط مني الآن، الآن تحديدًا، ذراع طبيعية.
في الصباح، كل صباح، أستيقظ بذراعين. مثل الناس، كل الناس، أستيقظ بذراعين. أطل من النافذة، من نافذة تطل على شارع مزدحم، بذراعين. ألوح بذراع، ذراع يسرى، إلى المارة. ألوح بذراع، ذراع يسرى، ليعلموا أن لدي ذراعًا تتحرك. يحدث ذلك، ذلك كله، في وقت مبكر. تكاد الشمس، شمس الصباح، أن تشق الليل. مع ذلك، ذلك كله، هناك زحام. مع ذلك، ذلك كله، أطل من النافذة. أطل من النافذة، نافذة كبيرة، وألوح بذراع. ألوح إلى المارة، كل المارة، وإلى لا أحد. تطير تحيتي، تحيتي المحتجبة، وتسقط فوق لا أحد. المارة، وكلهم مارة، لا ينظرون نحوي. يسيرون، بخطوات سريعة يسيرون، صوب هدف غامض. الهدف الغامض، الغامض لي، واضح عندهم. بينما أنا، أنا وحدي، أتطلع إليهم. بينما أنا، أنا وحدي، أعرف أنني موجود هنا.
أمام المرآة، المرآة المستطيلة، أسحق بثوري. أضغط بإصبعين، السبابة والإبهام، على بثوري. بثور وجهي، وجهي المستطيل، تجأر من قسوتي. بثور وجهي، الصغيرة والكثيرة، تنتقم مني بالألم. أثناء ذلك، ذلك كله، أسمع صوت المنبه. أثناء ذلك، ذلك كله، أنتبه أن الموعد حان. أخرج من البيت، البيت الصغير، في اتجاه الشارع الترابي. أخرج من البيت، البيت الصغير، دون أن أعرف وجهتي. اليوم، مثل كل يوم، أخرج دون أن أعرف وجهتي. أسير، وحدي أسير، بذراعين تتوازيان. أسير، وحدي أسير، رغم أن الشارع مكتظ بالمارة. المارة، والراكبون كذلك، لا ينتبهون لي. وفجأة، رغم أنه حدث متكرر، تسقط مني ذراعي.
في الظهيرة، في منتصف الظهيرة، أضع ذراعًا خشبية. لا يحسبها المارة، ولا الجالسون، ذراعًا خشبية. لا يحسبونها، وأعلم أنهم لا يحسبونها، لأنهم لا ينتبهون لي. مع ذلك، ذلك كله، أحرص على امتلاكها. أمدها، إن لزم الأمر، ليد أحد. أهدهدها، كعادة ثابتة، لتشعر بالونس. أحرّكها، أكثر من الأخرى، لتمتليء بالثقة. وأسير، وحدي أسير، لقبلة مجهولة. أعتلي، بتلقائية طفل، تبة عالية. أنظر، بعين مندهشة، إلى السائرين بعيدًا. سائرون، على العكس مني، لقبلة يعرفونها. يصطحبون، بعضهم يصطحب، كلبًا. يصطحبون، بعضهم يصطحب، قطة. يستبدلون، بعضهم يستبدل، الحيوانات بالعائلة. لكن أحيانًا، لأكون منصفًا، أرى جدًا بصحبة حفيد.
وفي المساء، كل مساء، تؤنسني الذراع. بمرور الوقت، الطويل أو القصير، أعتاد عليها. بمرور الوقت، أعتقد القصير، تصبح أليفة. أتحدث، ناظرًا إليها، فتبتسم. أبتسم، ناظرًا إليها، فتضحك. أألفها، دون وعي، أكثر من الطبيعية. لا تشعر، ولا أنا كذلك، بأي غربة. تتشابه، عن يقين أقول، مع ذراعي الأخرى. تتشابه، عن يقين أقول، مع الذراع المفقودة. تتشابه، عن يقين أقول، لكنها ليست هي. لا تحمل، على سبيل المثال، ذكريات. ينقصها، كنتيجة طبيعية لحداثتها، لخطوط الكف. من خلالها، يعرف ذلك العرافون، لا يمكن قراءة المستقبل. لا المستقبل، وبالطبع، لا الماضي. تتشابه، نعم، غير أنها مستقيمة. أقصد، لأكون منصفًا، لا تعرف المرونة. ينقصها، دون أن يكون ذلك نقيصة، حمل بصمتي. مع ذلك، ذلك كله، أعتاد عليها. تصبح، كما أصبح لها، جزءًا مني.
قبل النوم، كطفلة، أحكي لها حواديت. لا أقصد، وربما أقصد، أن أصنع لها ذاكرة. وأظن، كرجل متفائل، أن يجري فيها الدم. وأظن، دون إثم، أن بها دماء. لا أعرف، وربما أعرف، أنها كانت لآخر. وأصدق، وأحيانًا لا أصدق، أن لها ذكريات. المؤكد، رغم أنه غير مؤكد، أنها تسمعني. وفي الليل، منتصف الليل، تعانقني بقوة. وأحيانًا، أحيانًا كثيرة، تتحسس وجهي. كعضو دخيل، ورغم ذلك، تشعرني بالرفقة. جزء من شخص، شخص لا أعرفه، يصطحبني أينما تجولت. جزء يشبه، مع فارق التشبيه، حفيد الجد. جزء يشبه، مع فارق التشبيه، كلب السيدة. جزء يشبه، مع فارق التشبيه، قطة الفتاة. عضو، بوصف دقيق، مكمّل. ليس مكمّلًا، لأكون واضحًا، لأعضائي. بل مكمل، لأكون واضحًا، لوجودي. عضو يشبه، من بين ما يشبه، المعنى للعبارة. عضو يشغل، من بين ما يشغل، مكان الدلالة. ذراعي الخشبية، بحسب فهمي، ليست مزيفة. ذراعي الخشبية، بحسب فهمي، مختلفة المادة. لكن الاختلاف، كما أعرف، لا يعني التزييف. ذراعي الخشبية، على عكس الطبيعية، لا تؤلمني. ذراعي الخشبية، على عكس المفقودة، لا تنزف دمًا. ذراعي الخشبية، دون ضجيج، تمنحني الكمال.
وفي الصباح، كل صباح، ألوّح بها للمارة. من النافذة، النافذة الكبيرة، ألوّح بها للمارة. الوّح بها، كعادتي، للا أحد. وأصدق، وحدي أصدق، أنها طبيعية. أحركها، من دقيقة لأخرى، لأنها طبيعية. أهدهدها، من دقيقة لأخرى، لأنها طبيعية. وأسير في الشارع، أسير وحدي، بيقين أنها الطبيعية. وفي الصباح، كل صباح، تسقط مني ذراعي. وفي الصباح، كل صباح، أشعر بأن الذراع التي تسقط مني الآن، الآن تحديدًا، ذراع طبيعية.
أحمد عبد اللطيف ذراع خشبية لا تنزف دمًا راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية 2016-02-02