دينو بوزاتي: البذلة المسحور(قصة قصيرة) / ترجمة: محمد فـري
رغم إعجابي بأناقة اللباس، فإنني عادة لم أكن أعير أدنى اهتمام للجودة الكبيرة أو الصغيرة التي فصلت بها بذل الناس،
ومع ذلك تعرفت ذات مساء في حفل أقيم بمنزل ب ” ميلانو “، على شخص في الأربعين، يتألق بسبب الروعة التناسبية الخالصة والمطلقة للباسه.
لم أكن أعرفه، التقيته للمرة الأولى عن طريق التقديم كما يحدث عادة، وكان من المستحيل علي معرفة اسمه، لكن في لحظة معينة من السهرة، وجدت نفسي قريبا منه، فبدأنا نتجاذب أطراف الحديث.
كان يظهر رجلا مهذبا وجد مؤنس، ومع ذلك تشوبه مسحة من الحزن، وبألفة ربما مبالغ فيها – تمنيت لو جنبني الله إياها – أثنيت على أناقته، بل تجرأت فسألته من يكون خياطه الخاص. افتر ثغره عن ابتسامة صغيرة فضولية، وكأنه كان يتوقع هذا السؤال، رد قائلا:” لا أحد يعرفه تقريبا، ومع ذلك هو خياط ماهر كبير، لكنه لا يشتغل إلا عندما يروق له ذلك، ولزبائن محدودين فقط.”
– من أمثالي….؟
– أوه ! يمكنك أن تحاول، يمكنك دائما، اسمه كورتشيلا، ألفونسو كورتشيلا. 17 شارع فيرارا.
– أتخيل أثمانه باهظة.
– أعتقد، نعم، لكن الحق يقال، لا أعرف شيئا. لقد خاط لي هذه البذلة منذ ثلاث سنوات، ولم يبعث لي بأتعابه بعد.
– قلتَ كورتيتشيلا؟ 17 شارع فيرارا؟
– ” تماما ”
أجاب الغريب، ثم تركني ليختلط بجماعة أخرى.
بالرقم 17 من شارع ” فيرارا “، وجدت منزلا لا يختلف عن غيره، وكان محل ” ألفونسو كورتشيلا ” شبيها بمحلات الخياطين الآخرين، فتح لي الباب بنفسه. كان شيخا قصير القامة، ذا شعر أسود مصبوغ دون شك. ولدهشتي الكبيرة لم أجد معه أية صعوبة، بل ظهر على النقيض راغبا في أن يراني زبونا له، شرحت له كيف حصلت على عنوانه، وأظهرت إعجابي بتفصيلة ثوبه، وطلبت أن يخيط لي منها بذلة، اخترنا ثوبا صوفيا ناعما، ثم أخذ مقاساتي وعرض علي أن يكمل القياس عندي بالمنزل. سألته عن الثمن، فأجابني بأن الأمر ليس مستعجلا، وأننا سنتفق دائما. في البداية قلت مع نفسي ياله من رجل لطيف، لكنني بعد ذلك، شعرت عند عودتي إلى البيت، أن العجوز القصير قد ترك لدي نوعا من الضيق والانزعاج ( لعله بسبب ابتساماته الملحة والمبالغ في عذوبتها )، على العموم لم تكن لدي رغبة في رؤيته من جديد، لكن البذلة قد تم طلبها منذ الآن، وستصبح جاهزة بعد حوالي عشرين يوما.
وعندما تم تسليمها لي، قستها لبضع ثوان أمام المرآة، كانت عبارة عن تحفة، لكنني لم أكن أعرف سبب عدم رغبتي في ارتدائها، ربما كان ذلك بسبب تذكري للعجوز الكريه. ومرت عدة أسابيع قبل أن أتعود على الأمر. ظل ذلك اليوم راسخا بذاكرتي، كان يوم ثلاثاء من شهر أبريل، وكان الجو ممطرا، وعندما ارتديت البذلة – السروال والصدرية والسترة – أدركت بمتعة أنها لا تضايقني مثلما يحدث مع الألبسة الجديدة، وعلى كل حال، فقد كانت في غاية الإتقان.
عادة لا أضع شيئا في الجيب الأيمن لسترتي، بل أضع أوراقي في الجيب الأيسر، وهذا ما يفسر إدراكي لوجود ورقة بالداخل عند إدخالي يدي لجيبي بعد ساعتين في مكتبي، لعلها ورقة حساب الخياط؟ لا، كانت ورقة مالية من فئة عشرة آلاف ليرة.
ظللت مشدوها، لم أكن أنا طبعا من وضعها هناك، من جهة أخرى كان من العبث التفكير في مزحة قام بها الخياط “كورتشيلا ” ، أو في هدية من طرف الخادمة، وهي الوحيدة التي سنحت لها فرصة الاقتراب من البذلة بعد الخياط، هل هي ورقة بنكية مزيفة؟ عكستها على الضوء وقارنتها مع غيرها فوجدتها صحيحة، ويستحيل أن تكون غير ذلك. قد يكون التفسير الوحيد هو عدم انتباه من ” كورتشيلا “، فلربما قد منحه زبون عربونا، فوضعه في جيب سترتي التي كانت معلقة، وهذه أشياء ممكنة الوقوع. قرعت الجرس مناديا السكرتيرة، كنت عازما على إرسال كلمة ” لكورتشيلا ” لأعيد له ماله الذي ليس من حقي. لكنني في هذه اللحظة بالذات، ولا أعرف لماذا، أدخلت يدي إلى جيبي من جديد.
” ما بك سيدي؟ هل تشعر بوعكة؟ ”
سألتني السكرتيرة التي دخلت توا.كنت شاحبا كالميت، فقد لامست أصابعي بجيبي أطراف ورقة لم تكن موجودة قبل لحظات. قلت:
-” لا، لا، لاشيء، دوخة خفيفة، يحدث لي ذلك منذ مدة، هو تعب دون شك، يمكنك أن تنصرفي يا صغيرتي، كنت سأملي عليك رسالة، لكننا سنفعل ذلك فيما بعد ”
ولم تكد السكرتيرة تنصرف حتى أخرجت الورقة من جيبي، كانت ورقة مالية أخرى من فئة عشرة آلاف ليرة، بعدها قمت بمحاولة ثالثة، وأخرجت ورقة ثالثة.
بدأ قلبي يخفق بشدة، أحسست أنني منجذب ، لأسباب خفية، داخل دائرة حكاية خرافية شبيهة بتلك التي نحكيها للأطفال ولا يصدقها أحد. وبحجة شعوري بالتعب، غادرت مكتبي وتوجهت إلى منزلي، كنت بحاجة إلى أن أكون وحيدا.
من حسن الحظ كانت الخادمة قد غادرت البيت. أقفلت الأبواب وأسدلت الستائر، وبدأت في استخراج الأوراق المالية بكل ما أملك من سرعة، الواحدة تلو الأخرى، من الجيب الذي يبدو لا ينضب.
كنت أقوم بذلك بتوتر وتشنج عصبي خوفا من انتهاء المعجزة بين لحظة وأخرى، تمنيت أن استمر العشية كلها، والليل بأكمله إلى أن أجمع الملايير، لكنني في لحظة معينة أحسست بقواي تنهار. كانت أمامي كومة مثيرة من الأوراق المالية، وكان المهم الآن أن أخفيها، حتى لا يراها أحد. أفرغت صندوقا قديما كان مليئا بالزرابي، وفي قعره وضعت حزم الأوراق المالية التي كنت أحصيها بالتتابع، والتي تجاوزت الخمسين مليونا.
عندما استيقظت صباح الغد، كانت الخادمة واقفة مندهشة لرؤيتي بكامل بذلتي في الفراش، تكلفت ضحكة وأنا أشرح لها بأني بالغت في الشرب الليلة السابقة، وأن النوم غلبني دون أن أشعر.أحسست بقلق جديد عندما اقترحت علي الخادمة مساعدتي على خلع سترتي، كي تمرر عليها الفرشاة على الأقل. أجبت بأن علي أن أخرج بسرعة، وليس لدي وقت لتغيير بذلتي. ثم أسرعت متوجها نحو محل لبيع الملابس الجاهزة لشراء بذلة أخرى تشبه بذلتي في كل شيء، وسأترك البذلة الجديدة للخادمة، أما بذلتي، تلك التي جعلت مني في بضعة أيام أحد أقوى الأشخاص في العالم، فسأخفيها في مكان آمن.
لا أدري إن كنت أعيش حلما، أو كنت سعيدا، أو كنت على النقيض أختنق تحت ثقل مصير كبير وعنيف. في الطريق، ومن خلال معطفي الواقي، كنت أتحسس باستمرار مكان الجيب السحري، وفي كل مرة أتنهد بارتياح، فقد كان صوت الورقة المالية يجيبني باستمرار.
غير أن مصادفة أخرى أثلجت حمى فرحي، ففي جرائد الصباح عناوين كبيرة: الإعلان عن سرقة حدثت بالمساء يغطي كل الصفحة الأولى تقريبا، سيارة بنكية مصفحة جمعت رصيد النهار، وتوجهت إلى البنك المركزي، فتم إيقافها وسرقتها من طرف أربعة لصوص بشارع ” بالمانوفا “، وعندما سارع الناس إليهم، أطلق أحدهم النار ليؤمن هروبه، فأصابت رصاصة أحد المارة وأردته قتيلا. لكن ما أثارني فعلا هو المبلغ المسروق: فقد كان خمسين مليونا بالتمام والكمال ( نفس المقدار الذي بحوزتي ).
هل يمكن وجود علاقة بين ثروتي المفاجئة وبين حدث السرقة الذي وقع في نفس الوقت؟ يبدو التفكير في ذلك مضحكا، وأنا لست متشائما، ومع ذلك فقد تركني الأمر في حيرة.
كلما ازدادت ملكيتنا كلما رغبنا فيما هو أكثر. كنت فعلا غنيا مقارنة مع حياتي المتواضعة، لكن سراب حياة أكثر رفاهية كان يغريني، وفي المساء نفسه، استأنفت العمل، كنت أمارسه الآن بثقة أكثر، وبأعصاب أكثر استرخاء، فتنضاف مئة وخمسة وثلاثون مليونا إلى الثروة السابقة.
لم أستطع إغماض عيني تلك الليلة، هل هو إحساس بالخطر؟ أو تأنيب ضمير رجل يقتني ثروة غير مشروعة؟ أو إحساس غامض بالذنب؟ وفي الساعات الأولى من الفجر، قفزت من فراشي، وارتديت ملابسي ثم أسرعت باحثا عن الجريدة، أحسست بالاختناق في أثناء القراءة: حريق مروع بسبب انفجار خزان بترول هدم عمارة بشارع ” سان كلورو” في وسط المدينة، وبالمقابل حطم خزائن وكالة عقارية كبرى تلاشى بداخلها أكثر من مئة وثلاثين مليونا نقدا، وقتل شخصين من رجال المطافيء عند محاربة الحريق.
هل علي أن أعد جرائمي الواحدة تلو الأخرى؟ نعم، فانطلاقا من هذه اللحظة أدركت أن المال الذي تمنحه لي السترة مصدره الجريمة، الدم، اليأس، الموت، مصدره الجحيم. لكن، وبطريقة ماكرة، رفض عقلي مستهزئا الاعتراف بأية مسؤولية من طرفي، وهكذا عادت الإثارة، وعادت يدي – وما أسهل الأمر – تندس في جيبي لتعانق أصابعي بتلذذ مفاجيء زوايا ورقة مالية جديدة دائما، المال، المال الرباني.
ودون أن أرحل من منزلي القديم ( كي لا أثير الشكوك )، اشتريت في وقت سريع قصرا فخما، وامتلكت مجموعة من اللوحات النادرة، وركبت سيارة فاخرة، بعد أن غادرت عملي” لأسباب صحية “. سافرت وتجولت في أرجاء العالم رفقة نساء حسناوات.
كنت أعلم كلما جلبت مالا من سترتي، أن شيئا كريها ومؤلما يحدث في العالم ، لكن هذا التزامن كان مبهما، لم يكن يستند إلى حجج منطقية، وعند كل تحصيل كان ضميري يتضاءل، ويتصف بالنذالة أكثر فأكثر.
والخياط؟ هاتفته لأسأله عن ثمن البذلة، فلم يجبني أحد. وبشارع ” فيرارا ” أخبروني أنه هاجر ورحل إلى الخارج، ولا يعرف أحد أين. كل الأشياء تحالفت فيما بينها لتؤكد لي دون أن أعرف أنني تحالفت مع الشيطان.
استمر الأمر على هذه الحال إلى اليوم الذي تم فيه اكتشاف جثة امرأة عجوز في الستين من عمرها بالعمارة التي أقطنها منذ سنوات طويلة ، كانت قد انتحرت اختناقا بالغاز لأنها فقدت ثلاثين ألف ليرة، هي حصيلة معاشها الذي توصلت به ذلك اليوم..( وانتهى بين يدي ).
كفى ! كفى ! يجب أن أتخلص من سترتي حتى لاأسقط أكثر في هذه الهوة، لكن دون أن أتخلى عنها لشخص آخر، لأن العار سيستمر( فمن يقدر على مقاومة كل هذا الإغراء؟ )، علي إذن أن أحطمها.
وصلت بسيارتي إلى وادي مهجور بمنطقة ” الألب “، تركت سيارتي على أرض معشوشبة، وتوجهت نحو الغابة، كان المكان مقفرا، وعندما تجاوزت البلدة وصلت إلى منطقة حجرية، وهناك بين صخرتين ضخمتين، أخرجت البذلة الكريهة من الكيس، بللتها بالبنزين ثم أشعلت فيها النار، وبعد ثوان لم يتبق منها سوى الرماد.
لكن، وعند آخر شعلة من اللهب، سمعت خلفي – على بعد مترين أو ثلاثة – صوتا بشريا يصيح:” تأخرت، تأخرت “، وبفزع التفت بعنف كأن أفعى لدغتني، لكنني لم أجد أحدا، بحثت في جميع الجهات، من صخرة إلى أخرى لأكشف عن اللعين الذي يلعب معي هذه اللعبة، فلم أجد أحدا،لم تكن هناك غير الصخور.
ورغم الفزع الذي استشعرته، نزلت إلى الوادي وإحساس بالارتياح يغمرني، ها أنا قد تحررت أخيرا، وأملك ثروة طائلة.
لكن عند المنحدر، لم أجد السيارة، وعندما رجعت إلى المدينة وجدت القصر قد اختفى، وبمكانه أرض مهملة بها لافتة تعلن عن أرض للبيع. وحساباتي بالبنك، لم أفهم كيف انقرضت بسرعة، وأسهمي الكثيرة اختفت من خزائني الحديدية العديدة، ولم أجد إلا الغبار داخل الصندوق القديم.
منذ ذلك الوقت استأنفت عملي منهكا، والغريب أن لا أحد فوجيء بإفلاسي السريع.
وأعلم أن الأمر لم ينته بعد، أعلم أنه في يوم ما، سيدق جرس الباب، وسأفتحه لأجد أمامي هذا الخياط الشقي بابتسامته الماكرة، يطلب مني تسديد دين البذلة.
دينو بوزاتي
Dino Buzzati. ( Le Veston ensorcel
ترجمة دينو بوزاتي محمد فـري 2017-01-05