أجرى الحوار: عبد الله المتقي
النقد سلوك ثقافي ومن الضروري أن يكون محايدا
عبد الرزاق هيضراني، ناقد مغربي حاصل على شهادة الماجستير في النقد الثقافي وعلى شهادة التبريز، عضو مؤسس- سابقا- لجمعية سومر للإبداع والثقافة، – شارك في ملتقيات وندوات داخل المغرب ، من إصداراته الأخيرة ” “بنعيسىبوحمالة.. تآويل العين والروح” إشراف وتنسيق وتقديم (عن دار الأمان بالرباط 2017)، وله – قيد الطبع كتاب “الكتابة والهامش- دراسات في الشعر المغربي الحديث” وكتاب ” ظواهر مجتمعية أم نصوص ثقافية .”
بمناسبة حصوله مؤخرا على جائزة الشارقة في مجال النقد- المركز الأول عن كتاب ” جداول الكتابة وأوفاقها الثقافية في القصة ق العربية المعاصرة” ، كان لنا معه هذا الحوار :
1
اشتغلت على قراءة واستشكال نماذج قصصية عربية ؛ لمن توجه جداولك وأوفاقك الثقافية. . هل للكاتب المبدع ام للقارئ بشكل عام ؟
لسؤال تلقي النص النقدي أهميته. أولا الكتابة، في نظري، نوع من التحرر السامي سواء أكانت إبداعا أو توسطا نقديا. للكاتب والمبدع وظيفة ثقافية. هذه الوظيفة هي التي تقود إلى تبني مشروع ثقافي ما. فقد يكتب كاتب عشرات الكتب وهو يقرأ وضعا ما أو يدافع عن قضية. كلاهما يهدفان إلى التحرر الذاتي والمجتمعي وإن آختلفت طرق، آليات، مرجعيات الكتابة. بهذا الوعي أمارس النقد على قدر طاقتي. ففي كتابي “جداول الكتابة وأوفاقها الثقافية” حاولت أن أقرأ عينة من النصوص. قرأتها بمعنى أنني أبديت رأيي فيها. ومثلما يكتب المبدع ليقرأ يكتب الناقد كذلك ليقرأ. ليس هناك كاتب، في رأيي، يكتب للتسلية واللعب. يكتب الكاتب، دائما، وهو مهموم بقضايا. هنا بالذات يبرز دور الناقد. يلفت آنتباه القارئ والكاتب معا إلى نص مقروء وإلى قضاياه. أكثر من ذلك يهدف إلى أن يثير الاِنتباه إلى جزئيات قد لا تخطر على بال كاتبها. لا ننسى أن الكاتب والقارئ معا ينتميان لمجتمع وأن مسافة الكاتب لا تغني عن رأي التلقي. ذلك أن علاقة الكاتب بعمله كعلاقة الأب بآبنه كما يقول الجاحظ. لكن في جميع الأحوال لم يعد الناقد موجها. لقد آنتهى دور التوجيه مع القدامى كما انتهت مشروعية الحديث عن طبقات الفحول كما نظر لها أصحابها. هناك كتاب محترمون فضلوا العيش بعيدا عن كل التقديرات النقدية المغرضة. لكن هل الكاتب في كل الأحوال يكتب وهو يبعد المتلقي عن ذهنه. هذا أمر مستبعد. وهذا ما يوجه قراءات التوسط الثقافي Culturally Mediated عموما. فالناقد يكتب عن العمل ويترك الأمور تأخذ مجراها.
2
ما هي الرهانات الابستيمية التي تتحكم في هذه المصطلحات ..جداول. . اوفاق. .استحواذ. . قبحيات. . التجريب. .؟
هذه المصطلحات وظفتها في إطار نظري متلازم وبمرجعية محددة. لكن دعني أشير، بداية، إلى مسألة أساسية وهي أن المفهوم يتحرك في دائرة تراعي خلفيته النظرية، وتفاديا للتكرار وربما للاِلتباس، إن أراد باحث أن يوظفه في سياقات أخرى وبمعنى مغاير عليه أن يكون على علم بمختلف دلالات هذا المفهوم. المفهوم عموما عندما يصبح قابلا للتوظيف في سياقات تواصلية أو توسطات نقدية مختلفة يكتسي فاعلية. أوضح ذلك بالقول إن للمصطلح شروطه الخاصة وسياقه التاريخي والنقدي. لنأخذ مثالا على ذلك “النسق” فهل يمكن أن يقرأ ناقد ثقافي عملا ما وهو يوظف هذا المفهوم بالمعنى الذي وظفه به البنيويون أو البلاغيون؟قصدي من ذلك أن للمفهوم سياقه وشروطه، وإذا أخذنا بعين الاِعتبار شرط التراكم والتجاوز العلمي ونحن نقارب مفاهيم محددة كالنسق تبين لنا أن النظريات الأدبية والبلاغية والنقدية لها أعمارها إن آستنفدت إمكانياتها تجاوزتها الذائقة، وبكثير من الاِحتراز، أقول آحترقت. لكن لا يتعلق الأمر هنا بقطيعة مطلقة. النسق هو النظام في أساس البلاغة للزمخشري، وهو كذلك في تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري، وهو كذلك في الكثير من المعاجم العربية. ويرجع البحث المبكر في النسق الأدبي إلى الشكلانيين الروس وخاصة تينيانوفYuri Tynyanov، وهكذا أصبح يدل النسق في البنيوية على مجموعة من العناصر المنتظمة والمتفاعلة فيما بينها والتي تجعل منها وحدة متكاملة. لكن لم يتوقف توظيف النسق عند هذه الحدود بل آنتقل إلى أنشطة تعبيرية أخرى؛فقد أصبحنا نتحدث عن نسق التشكيل (الرسم) ونسق الرقص ( الحركة) ونسق الموسيقى (الصوت).. وبهذا المعنى فقد أصبحت للنسق دلالات آجتماعية متعددة تأخذ معناها في كل حقل تنتقل إليه وتبيأ فيه آستنادا إلى ممكنات الانتقال وشروط تحققه العلمية. في النقد الثقافي سيصبح للنسق وجودا وظيفيا وليس وجودا مجردا يكتفي بالنظام الجمالي.
أعود إلى المصطلحات التي تفضلت بذكرها. إذا تأملناها نجد أن الجداول ذات حمولة بنيوية. في حين أن “قبحيات” و”آستحواذ” مثلا تستند إلى إطار النقد الثقافي. كان هدفي في الكتاب أن أؤكد أن التجاوز في الإنسانيات لا يجب أن يعني القطيعة. من ثمة لا يمكن أن نقول إن النقد الأدبي قد مات واندثر.هذا حكم قاس. النقد الأدبي آستنفد الكثير من إمكانياته لكننا في الوقت ذاته لا يمكن أن نتصور نقدا ثقافيا دائم التشكل بعيدا عن بعض مفاهيم ومقاربات النقد الأدبي. هذا رأيي. وهذا ما حاولت أن أعطيه لمصطلح الأوفاق الذي يحيل في ثقافتنا العربية إلى علم يهتم بالغيبيات وفي جزء كبير منه بالشعوذة آعتمادا على أدوات وجداول سيميائية وآيات قرآنية، بحيث تظهر ممكنات الوفق لإعادة التوازن لحياة الفرد. وظفنا الوفق نقديا من خلال معنين اثنين، الأول نربط من خلاله الأوفاق بالكتابة؛ ونقصد به استثمار ممكنات الكتابة التجريبية المؤسسة على توظيف آليات جديدة على مستوى الشكل والموضوع. أما المعنى الثاني فيرتبط بالأول ونقصد به أوفاق المجتمع وهي أوفاق/ سلوكيات تغريبية تتأسس على التحكم والتوجيه الثقافي الذي يستثمره الأفراد في الحكم على الظواهر أو في تعاملهم مع القضايا العربية والإنسانية الكونية. وفي هذا السياق بالذات يتخذ الوفق معنيين مختلفين؛ الأول يتعلق بالتجريب باعتباره ممارسة والثاني يرتبط بالتغريب باعتباره سلوكا. وهذا ما استثمرناه في قراءتنا لمجموعة “كناري”، مثلا، لأحمد الخميسي.
3
تتحدثون عن المفهوم الجديد للكتابة ؛ في تقنيات السرد القصصي؛ فما هي الملامح المعرفية لهذا المفهوم؟
في كتابنا “جداول الكتابة وأوفاقها الثقافية” تقدمنا بافتراض أساس وهو أن الكتابة القصصية العربية المعاصرة، وبالنظر إلى ما حققته من تراكم، لم تعد تشتغل على جاذبية الموضوع/ الحدث فحسب، وإنما اخترقت عوالم التجريب، الذي أصبح ضرورة فنية وثقافية، واستثمرته في كتابتها وفي بنية صياغتها للقضايا المجتمعية المعقدة والمركبة. وبمعنى آخر فإن التراكم القصصي قد أصبح في أغلب نماذجه، يطرح سؤال الكتابة بإلحاح؛ إذ إن الكثير منها آكتسب وعيا إبداعيا متجاوزا/ مغايرا للقص التقليدي، مسائلا فعل الكتابة من داخل الكتابة ومستثمرا أوفاقا جمالية وثقافية تثير الكثير من القلق والكثير من التساؤلات. لقد دشنت بعض الكتابات القصصية العربية الحديثة والمعاصرة هذا التوجه التجريبي الجديد، متجاوزة، بذلك، ممكنات القصة التقليدية وما تميزت به من خطية ساهمت، أو كادت، في تجذير القراءة الاستهلاكية السريعة الهضم. ولهذا فالتجريب في الكتابة القصصية العربية المعاصرة شكل إمكانية قرائية جديدة أدخلت القارئ في قلق مضاعف ودفعت به إلى توظيف مجمل قراءاته وما تتطلبه من تقابلات/ تقاطعات بهدف فك جداول قصة تعتمد أوفاق التجريب أداة من أدواتها. ولقد أصبح من المتاح، ونحن نقرأ نصوصا قصصية تجريبية معاصرة أن نتحدث بكل تأكيد عن كتابة أوفاقية مفخخة وملغزة تستثمر الشعر والفلسفة والتصوف وأحيانا الاقتصاد والمعادلات الرياضية كما هو الحال، على سبيل التمثيل لا الحصر، في تجربة الكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق في مجموعتها (نقط)، وذلك بهدف خلخلة وثوقيات القراءة وإدخالها، بالتالي، في دوامة اللامعتادواللامرئي.
إن هذا المنزع البديع والشاق الذي يميز الكتابة الأوفاقية/ التجريبية ليجعل من القراءة نشاطا ذهنيا معقدا للتفكير والتأمل، وليس للتزجية وتبديد الملل. فهي كتابة بقدر ما دشنت لتجربة جديدة تقوم على فعل قرائي ممتع ولكن أيضا شاق يماثل، أو يكاد، متعة الكتابة، شقاءها وقلقها اللامحدود، فإنها قد شيدت جدرانا عازلة بينها وبين قراء سلبيين وقراءات نمطية خطية تجرد الكتابة من آفاقها و أوفاقها الثقافية. ويرجع ذلك إلى أن الكثير من النصوص القصصية المعاصرة بقدر ما تتميز به من فنية وإمتاع جمالي، تضمر حمولة ثقافية تغرس خناجرها في جمجمة القارئ على حد تعبير كافكا، بل أكثر من ذلك تتميز بتحريضها على فعل القراءة المركبة والهادئة والمنصتة في آن. لذلك فالكتابة الأوفاقية بحاجة لقراءة هادئة تنصت للنص القصصي ولشعريته الباذخة. إنها القراءة التي تعيد تدويرRecycling الكتابة؛ أي إنها سفر/ رحلة لاكتشاف أراض مجهولة وتسجيلها في خريطة على حد تعبير ميلان كونديرا.
ويمكن أن نذكر بعضا من ملامح التجديد في الكتابة القصصية العربية المعاصرة فيما يلي:
-
القصة الحالة: لم تعد الكتابة القصصية متمركزة حول الحدث، وإنما وسعت إمكانياتها، بحيث أصبحنا نتحدث عن القصة الحالة أساسا، إذ لم يعد الحدث مع القصة الحالة يتشكل عبر أحداث ممركزة، وإنما من خلال حالات إنسانية معيشة/ ممتدة تتيح إمكانيات التأويل المفتوح والمتعدد، وتبني أسسها على إعادة بناء المفاهيم والسلوكيات. فإذا كان الحدث يتمحور حول زمن وشخصية ومكان وعلاقة، فإن الحالة مفتوحة على الأزمنة والأمكنة والشخصيات. إنها تأسيس لمفاهيم قرائية جديدة ينتفي بموجبها، أو يكاد، مقوم القص التقليدي الذي ينبني عما يسمى بالحكاية حيث البداية المؤسسة على التشويق والوسط المعقد ونهاية الانفراج. لذا فالحالة لم تعد شخصية وحسب، بل قد تكون لوحة متحركة، شجرة، كتاب، ذكرى، جماد.. وما إلى ذلك.
-
الفيض المجازي: لقد صار فن القصة مع التجريب أكثر صعوبة، بحيث لم تعد قالبا جاهزا وإنما فضاء لإعادة النظر، إلى كتابة قصة لا يمكن أن تحاكى أو يعاد إنتاجها إلا من باب الارتداد عن مكتسبات التجريب الجديدة والرجوع إلى مقومات القص التقليدي. لذا فالكتابة القصصية التجريبية/ الأوفاقية تشكلت عبر آستثمار المجاز والشعر وخلخلة السائد الثقافي Mainstream Culture على مستوى الكتابة والقراءة على حد سواء.
-
التشظي: التشظي لا نقصد به التفكك على مستوى البناء السردي، وإنما يقصد به في الكتابة القصصية المعاصرة آستنادها إلى أدوات تجريبية متعددة كاللقطة المشهدية، الرسالة، التشذير.. لكي تعكس بنية ثقافية تشي بالتوتر والتفكك.
4
كثرت في الآونة الأخيرة كتابة القصة ق جدا ..فماذا عن الإضافات التي يشكلها هذا الصنف من الإبداع والكتابة ؟
تواجه القصة ق ج تحديات كبيرة. أكيد أن هناك تراكما مهما. لكن المتتبع يرى أن هذا الجنس يعاني من أحكام قاسية تتأسس على وعي قرائي مقارن لكنه مغرض في الوقت ذاته. لقد اقترب جنس ق ق ج من القارئ وحرضه على التفكير والتلقي الواعي، بقدر ما أتاح له إمكانية التحرر والتأويل المفتوح. اليوم يقال إن الرواية أجهزت على باقي الأجناس ومنها القصة ق ج. ويسوغ أصحاب هذا الرأي بربط الرواية بتحولات تكنلوجية وسياسية. إذا أخذنا بزمام هذا الرأي القاسي وحاولنا أن نقول إن القصة هي التي تستجيب لهذه التحولات لا سيما أن الحياة أصبحت سريعة جدا فأي جنس يكتسي مشروعيته والحالة هذه؟! لست متفقا مع الآراء القطعية، ذلك أن لكل جنس خصوصياته وأهميته. أما القصة والقصة ق ج فهي ذات حمولة شعرية وثقافية قل نظيرها. فقلما تجد مجموعة لا تقرأ الواقع السياسي والمجتمعي. ومن ثمة فالقصة و ق ق ج ساهمتا في إعادة طرح سؤال التلقي. مع ق ق ج لم تعد القراءة تسلية بل أصبحت آلية للتفكير والتأمل.
5
أستاذ عبدا لرازق هيضراني..ما هو تصورك للممارسة النقدية، وكيف تمارس النقد ؟
القراءة النقدية هي أولا وقبل كل شيء مقاربة، وهي مقاربة تروم استجلاء خصوصيات العمل. غير أن القراءة النقدية ليس هدفها دائما مدح النص الإبداعي والإعلاء من شأنه. فالنص المتميز له قوته ومشروعيته. ولا أرى مانعا من تأكيد مسألة أساسية وهي ألا يتحول إلى مجرد تأويلات آنطباعية أو إلى عتاد يستعمله الناقد للحط من قيمة عمل أو الإعلاء من قيمة آخر. النقد كما الإبداع سلوك ثقافي، ومن الضروري أن يكون محايدا.
إضافة إلى ما سبق لا بد للناقد أن يستند إلى إطار نظري. عليه أن يشتغل وفق مشروع نقدي وإلا كانت قراءاته ضربا من التسلية. أحيانا تقرأ نصوصا نقدية تهتم بالمضمون في غياب تام للشكل. والعكس صحيح. قد تقرأ نصا نقديا ولا تجد فيه مصطلحا واحدا جديرا بالاِهتمام. في هذه الحالة لا يمكننا أن نتحدث عن النص النقدي. النقد ليس تعليقا فحسب. من وجهة نظري النقد نحت دائم للمصطلح وتشكل متجدد للمفهوم. نحن اليوم نقرأ نصوصا إبداعية في إطار مشروع نقدي يستند إلى النقد الثقافي. أحاول ما أمكن والحالة هذه أن أقرأ نصوصا نقدية إنجليزية لأستفيد ما أمكن منها. وهدفي من ذلك أن أشتغل على نصوص ثقافية متعددة. لا يمكن أن أطمئن إلى النص الإبداعي، فقط، وأشتغل في دائرته.وهذا ما أدافع عنه في كتاب نقدي سيصدر لي مستقبلا. فقد انفتحت على نصوص وظواهر مجتمعية. أعتبر أن الإعاقة نص ثقافي مثلما مثل أي نص إبداعي. وأن الإعلام نص وتسريحة الشعر والإقامة في المجمعات السكنية وموسيقى الراب والهيب هوب.. هذه كلها نصوص ثقافية ولكثرة ما انغلق النقد الأدبي على النص الإبداعي أصبحت مواضيع صحفية وليست موضوعا للنقد والقراءات الجادة. دوري يتحدد في الاِنفتاح على هذه النصوص ووظيفتي أن أقرأها على ضوء المتغير المجتمعي والسياسي والثقافي. أنا لا أرى أهمية أن أقرأ قراءة نقدية في ملتقى مدارها الجمالي. العالم مليء بالقبحيات ويبدو أننا لم ننته إلى نتيجة، منذ القديم، ونحن نجرد النصوص من أنساقها ونحتفي تبعا لذلك ببلاغتها. ولكثرة الداعين إلى التخصص تحولت النصوص الثقافية الأخرى التي ذكرت بعضا منها إلى مجرد أحداث يومية لا يتذكرها الإعلام والتلقي، على حد سواء، إلا في يومها العالمي.
6
إلى متى سيظل الناقد العربي هالة على مناهج النقد الغربي؛ ومتى سنرى نقدا عربيا أصيلا مراعيا لادبياته وتراثه؟
لن يتغير الوضع إن لم يتغير وعينا بأهمية المؤسسة. الكل اليوم يشتغل بحسب ممكناته وكل يبحر في جزيرته. النقد اليوم نتيجة لمجهود فردي ولا دخل للمؤسسات فيه. وإذا لم تتأسس مؤسسات تهتم بالخطاب النقدي وتعتبر النقد مشروعا ثقافيا، يهدف إلى بناء الهوية وتقوية أسسها سيبقى الأمر على ما هو عليه. هذه إرادة المثقفين الغائبة. أو ننتظر المسؤول السياسي ليعبر عن أهمية الثقافي؟ مركز بيرمنغهام أسسه المثقفون. ولقوة تأثيره أثار إليه انتباه المتلقي والسياسي على حد سواء. هنا تتحدد أهمية الاِشتغال في المؤسسة. اليوم لدينا مراكز تهتم بالترجمة هل بادر إلى ترجمة كتاب ليتش في النقد الثقافي والنظرية النقدية؟! النقاد الثقافي اليوم يقرأ بحسب إمكانياته ولا أفق إلا الذي بشر به الغذامي في إطار مجهود شخصي. المشكل المطروح إضافة إلى غياب المؤسسة هو غياب المشروع ذاته. لا نعرف ما الذي نريده: أن نكون كائنات لها تراث أم كائنات تراثية. أن ننتج نقدا عربيا أصيلا مراعيا لتراثه لا يعني أننا لا يجب أن نهتم بالنظرية الغربية. على العكس وجب أن ننفتح على المستقبل مثلما وجب علينا أن ننفتح على الماضي. أختصر المسألة في غياب المؤسسة فلو كنا نشتغل في إطار مؤسساتي منظم لعرفنا ما الذي نريده.
7
على صعيد النقد .. يرى الناقد الأردني أحمد الغماز أنه ” لم يعد النقد تابعا للمبدع، بل صار حالة إبداعية مستقلة لها حالتها الخاصة” ماتعليقك!
لا أعرف سياق هذا القول. ومن ثمة لا أعرف إن كان الأستاذ الغماز يصف به وضعا وتحولا أم إنه ينتقده ويختلف معه. لكن على العموم إن كان الأمر لا يخرج عن كونه تأكيدا لأهمية النقد الذي تحول إلى حالة إبداعية خاصة، فإن هذا الرأي سبق وأن طرح في سياق مختلف؛ إذ نجده مرتبطا بالنقد البنيوي وبتجربة رولان بارط خصوصا. غير أننا بحاجة للحديث عن هذا الرأي من زاويتين. الأولى وهي أنه لا بد من التمييز بين عمل المبدع، المنظر والمؤرخ والناقد. إذا ما عرفنا حدود آشتغال كل منهم سهل علينا قياس هذا الرأي الذي ينظر إلى النقد بآعتباره حالة إبداعية مستقلة. ثانيا إذا كان المقصود بالإبداع أن نكتب على غير مثال سابق فإن مجالات وحقول كثيرة تشترك في هذه الخاصية وليس النقد فقط. ومن ثمة فالإبداع في النقد أمر محمود ومطلوب في أيما ممارسة تهدف إلى خلق المتعة بجانب الفائدة. أنا لا أتفق مع الرأي إن كان يقصد به أن النقد يجب أن يكون حالة إبداعية مستقلة. فوظيفة النقد تتحدد أساسا في كونه قراءة لنص ومن ثمة هو ممارسة توسطية بين المبدع والقارئ وبين النص والعالم.
السلام والرحمة لروحه ولكم ولذويه واصدقائه في عالم الثقافة والأدب جميل الصبر والعزاء وليكن ذكره مؤبدا