أجرى الحوار: عبدالله المتقي
الكتابة هي أنا،.. هي أنْ أحقّق ذاتي، فأكتبها،.. أحكيها،..
==
بسمة النميري : تشكيلية وروائية وقاصة أردنية متفرغة للكتابة والرسم، في جبتها السردية سبع مجموعات قصصية.
القصة القصيرة عشقها ولهفتها الطفولية، والرواية بيتها التي تحط فيها الرحال كي تنصب خيامها، بمناسبة صدور روايتها الأخيرة المنشدة كان لنا معها هذا اللقاء
حول عوالمها السردية:
1
من أيّ ورشةٍ جئت القصّة القصيرة ، وكيف التقيتِ بها ؟
القصّة القصيرة عشقي منذ طفولتي، وأذكر أنّني كنتُ لاهفةً لاهثةً أبحث عنها في المجلّات منذ صغري، بالذات في مجلّة (العربي) الكويتيّة التي كان والدي يواظب على شرائها كلّ شهر، وفي مجلّة (حواء) المصريّة التي كانتْ والدتي تحرص على متابعتها أسبوعيّاً،.. أقرأها بشغفٍ كبيرٍ، أغيب معها وأحيا تفاصيلها كاملةً. وحين حملتُ القلم وشرعتُ أخطّ ذاتي، وأترجم بالكلمات روحي، وجدتُني، دون قرارٍ سابقٍ، أطرق باب القصّة القصيرة وألج عالمها الرحب الفسيح لأجد فيه سعادتي واكتفائي، وإحساسي بأنّها تلبّي كلّ رغباتي التي أتوق من خلال الكتابة أن أحكيها وأكونها.
2
يقول الشيطان لـــ”فاوست” :” انتبه … إن أخطر ما صنع الإنسان هو الكلمات” ، ما مدى صحة هذه المقولة ، ولتكن البداية من روايتك “المنشده ” التي صدرتْ مؤخّراً ؟
” انتبه … إنّ أخطر ما صنع الإنسان هو الكلمات “،.. مقولةٌ صادقةٌ بالتأكيد، فالكلمة في أصلها فكرة،.. فكرةٌ نبتتْ في العقل المفكّر المدبّر وانبثقتْ منه، فهي إذاً ترجمة لحقيقته وجوهره. خطورة الكلمة تأتي من أنّها صانعة التغيير، فالفكرة التي تحملها هي التي تضع حجر الأساس في بناء صرح التغيير الذي يطمح الإنسان من خلالة إلى تحسين وتطوير واقعه وحياته. وعن روايتي، المنشده، فهي تحكي المقولة تماماً وتطبّقها إلى أبعد الحدود، إذْ لم تأتِ الكلمة في المنشده عبثاً، بل جاءَتْ لتحمل في معناها العميق الفكرة وتبشّر بها، عن طريق اجتراح إجاباتٍ مختلفةٍ عن السائد والعام لأسئلةٍ محيّرةٍ تدور في خلد بطلة الرواية،.. أسئلةٍ عالقةٍ بائتةٍ تصل بها إلى نقطةٍ على مفترق الطريق لا رجوع منها، فإمّا البحث عن الإجابات الشافية والعثور عليها كي تستمر في حياتها، وإمّا الإنتحار بمعناه العميق،.. أي التوقّف عن ممارسة الحياة والإكتفاء بعيش أيّامها فقط،.. في المنشده رؤىً جديدةٌ وأخرى متجدّدةٌ عن الله،.. عن الخلق وغايته،.. الحياة،.. الموت،.. ما بعد الحياة،.. الخير،.. الشر،.. القدر،.. وهناك تصوّر آخر لماهيّة الحياة الآن.. وهنا، يتلخّص في فكرة الحيوات الموازية لحياتنا على الأرض والتي تجري أحداثها في أبعاد أخرى قد لا نعيها، تحياها الروح الواحدة غير المتجزّأة في أجسادها المختلفة، وهي فكرةٌ جديدةٌ لا أظنّ أنّ روايةً قبل المنشده قد تطرّقتْ إليها.
3
“منعطفات خطرة “، “رجل حقيقي “، حجرة مظلمة “، “أقرب كثيرممّا تتصور”، ثم ثلاثيّة القصص القصيرة جداً، “سفر الرؤى”، “كذلك على الأرض”، “وما لا يُرى”، لنصل أخيراً إلى “المنشده “، ماحكاية هذا التحوّل من القصّة القصيرة إلى الرواية ؟
الرواية أخيراً، والمنشده تحديداً، هي البيت الرحب الفسيح الذي أحطّ فيه رحالي بعد رحلةٍ طويلةٍ شاقّةٍ عبرتُ خلالها بلاد القصّة القصيرة بكلّ ما فيها من ترميزٍ وتكثيفٍ وتحميلٍ لفضاء النصّ بأكثر ممّا يحتمل النصّ ذاته من المعاني والأفكار والإشارات، ليزداد الدرب وعورةً في أثناء خوض عوالم القصّة القصيرة جداً بعد ذلك، إذْ يزداد العبء على الكاتب لقصرها، فتغدو الكلمة الواحدة عالماً قائماً بذاته قد يهدّها أو يعلّي بنيانها، ويصل فيها التكثيف والترميز إلى غايته القصوى، وتحميل فضاء النص بالمعاني التي تتوارى ولا يبوح بها النص بصريح العبارة ليصير فضاؤها هذا هو القصّة الحقيقيّة التي تُقرأ بإعمال الفكر وبإيقاد شعلة التخيّل والقدرة على رسم الصور، لا بملاحقة الكلمة المقروءّة وفهم المعنى المباشر الذي تحمله فقط. في نهاية هذه المسيرة جاءّتْ رواية المنشده في وقتها الموعود، دون قرارٍ سابقٍ، وكنتيجةٍ منطقيّةٍ حتميّةٍ لمجرى الأحداث ولتسلسلها، لتنطلق فيها الكلمة، تمتدّ وتتوسّع، تأخذ مداها الأقصى، تحكي الحدث فيها دون أنْ تلقي بالاً لكلّ المحظورات السابقةً، بحيث تلقي الضوء الساطع على الفكرة التي يتضمّنها الحدث وتنيرها.
4
من أين تأتين بهذه المفارقة، وهذه العجائبيّة التي تسكن وتقيم في عوالمك القصصية؟
الحياة،.. الحياة وما تحمله من الأحداث التي يختبئ المعنى في ثناياها هي التي تزوّدني بكلّ ما ذكرتَ وأكثر،.. وفي الأصل هي النظرة التي تصوّبها نحو الحياة، والتي من خلالها تحدّد رؤيتك لها ورؤاك حولها،.. نظرة أوّليّة إلى ما تحمله لنا الحياة وتلقي به علينا، نراه، نحاول فهمه، ثم إدراكه بعقلنا وصولاً إلى أنْ نعيه بالروح،.. هي الدرجات الصاعدة إذاً، والتي تحملنا عبر ارتقائها إلى المزيد من الكشف ومن استشفاف المعنى العميق وراء الأشياء التي تبدو بسيطةً مباشرةً في ظاهرها، لنصل إلى الغرائبيّة أو العجائبيّة والمفارقة التي تحدّثتَ عنها، والتي تغدو بالنسبة للكاتب المتمحّص أمراً عاديّا مفهوماً ومباشراً في جعبة الحياة المحمّلة بالكثير ممّا لم نسبر أغواره ونكتشفه بعد.
5
في كتابها “فن القصّة لدى بسمة النمري” نقرأ للناقدة ليديا راشد “اشتـُهرتْ بسمة النمري بكونها فنّانـة تشكيـليّة إلى جانب كتابة القصّة، فانعكستْ ألوان فرشاتها على أدبـها القصصي، وتأثّــرتْ الأســاليب السرديّة لديـها بعــالم التشكيل”. / ماتعليقكِ ؟
الباحثة والناقدة الفذّة، ليديا، إبنة الشاعر المبدع راشد عيسى، استطاعت برؤيةٍ ثاقبةٍ أن تلضم حبّات عقد القصّة القصيرة، وأن تطعّمه بالروح التي تهيمن على لوحاتي التشكيليّة، للتوصّل في نهاية المطاف إلى فكرة أنّ القصّة واللّوحة ما هي إلا تجلّيات للروح الواحدة غير المتجزأة التي تقف خلف هذا المنجز بشقّيه المختلفين ظاهريّاً والمتماثلين في عمقهما، وأن القصّة في نهاية الأمر هي لوحة تشكيليّة ترسمها الكلمات، واللّوحة ما هي غير قصّةٍ يحكيها اللّون على طريقته ليشكّل بها عناصرها.
6
هل يمكن الحديث عن قصّةٍ أردنيّةٍ نسائيّةٍ تميّزها عن القصّة النسائيّة في االوطن العربي؟
قد يكون من الصعب عليّ إجابة هذا السؤال وإيفاؤه حقّه، حيث أنّني لم أطّلع على ما يكفي من المجموعات القصصيّة التي صدرتْ لقاصّات عربيّات من خارج الأردن، لذا أجدني غير مؤهّلةٍ لعقد مثل هذه المقارنة بين المنجزين للخروج بقرارٍ أكيدٍ يقطع بتميّز القصّة الأردنيّة النسائيّة عن غيرها، لكنّي أستطيع أنْ أؤكّد أنّ القصّة القصيرة الأردنيّة، وبالذات، التي أنجزتْها بعض القاصّات هنا، لها نكهةٌ خاصّةٌ تتميّز بها من حيث متانة بنائها،.. صدقها،.. عفويّتها،.. تدفّقها،.. بعدها عن الصنعة والتكلّف، وأيضاً هناك الجرأة المحبّبة، والصراحة الجميلة في طرح بعض القضايا التي يحاول المجتمع القمعي تمويهها وتغطيتها وتغميمها، فتميط اللّثام عنها وتعرّيها بقصد التوعية بحقيقتها، معالجتها لتفادي تأثيرها الضار على المجتمع.
7
أنتِ قاصّةٌ ماطرةٌ وفنّانةٌ تشكيليّةٌ أردنيّةٌ متفرّغةٌ للكتابة والرسم والنحت،.. فأين تجدينك؟
أجدني فيّي،.. في المنجز الذي تسكنه روحي وترتاح إليه فتطلبه لحظة اشتعالها،.. لحظة أنْ يفور الإحساس ويتكثّف، ويغدو فوق طاقتي على احتماله، تصرخ الروح حينذاك تطلب الوسيلة للخلاص من نيرانه المستعرة في الأعماق، وتقرّر وتختار مادّة انعتاقها من حريقها المشبوب، فإمّا اللّوحة، بسطحها الأبيض الناصع ينادي اللّون وسكّين الرسم ليجسّد الخلاص، أو الورقة البيضاء لاهفةً تنادي القلم ليسيل حبره، الأسود تحديداً، ويحكي ما لا قدرة للروح على حفظه دفيناً في الأعماق فتبوح به،.. ويبقى الطين آخر الخيارات وأجملها، يتشكّل بين الأصابع أجساداً تكاد تدبّ فيها الحياة التي تسري من روحي إليها.
8
وما قصة هذا التشابك بين المرأة والرجل.. الاغتراب وأسئلة الوجود والحياة والموت؟
يتربّع الإنسان على قمّة الخلق، والإنسان امرأةٌ ورجلٌ يمارسان فعل الحياة، وتأتي الكتابة والعمل الفنّي، أو المنجز الإبداعي بمجمله ليكون المرآة التي تعكس حقيقة هذا الفعل، يحكي قصّتهما، ويرصد من خلالها مشاعرهما،.. تفاعلهما معاً، ومع المحيط حولهما،.. ردود أفعالهما تجاه المواقف التي تواجههما،.. باختصارٍ، يحكي الحياة بكلّ المتناقضات التي فيها، وبمجمل الأسئلة الوجوديّة التي تعرّي جوهر الإنسان المخبوء وتعلن عجزه عن الصمود في وجه هواجسه، اغترابه، عزلته، وحدته، وخوفه من كلّ ما لا يستطيع عقله البشريّ المحدود استيعابه كاملاً من حقائق الكون الخالدة، مثل فكرة الخلق،.. الحياة،.. الموت،.. ما بعد الموت، فيتحايل عليها، كردّ فعلٍ طبيعيٍّ، بإجاباتٍ يحاول جلّ جهده أن ترقى إلى مستوىً يرضي معها عقله، ويقتنع بها، ليستطيع من خلال ذلك أنْ يتعايش مع تلك الأسئلة الصعبة التي تتحدّى فكره بنهمها الذي لا يشبع لإجاباتٍ شافيةٍ، والتي لا تفتأ تشرع الباب على وسعه، بحثاً عن حلولٍ وافيةٍ لمعضلات الكون التي تؤرّقنا.
9
رسم محمود درويش جغرافية فلسطين بالكلمة ،.. هل طمحتِ إلى شيء من هذا، وأنتِ ترسمين جغرافيا وطنكِ الذي يعني لك الأردن ؟
الأردن وطني وملاذي وحبّي الباقي إلى حين رجوعي،.. لكنّني، من خلال منجزي، سواء في الكتابة أو في الرسم والنحت، لم أوجّه خطابي مرّةً إلى وطني بالتحديد، ما يعنيني هو الإنسان، بطل قصصي وروايتي وموضوع كلّ لوحاتي،.. هو الذي أقدّم له، وعنه، خطابي، ومن الإنسان بالذات أنطلق إلى عقله بتدرّجاته، من العقل الغريزي صعوداً إلى العقل الروحي فيه، ومروراً بالعقل الواعي، لأصل في نهاية المطاف إلى الروح الإنسانيّة الأرقى، والأسمى، والتي هي فعلاً نفحةٌ من روح الله، موجد هذا الكون العظيم الذي يضمّنا ويرعانا ويحتضن تجربتنا الحياتيّة الإنسانيّة، حتى نصل في آخر سعينا إليه، ربّنا الأوحد، تلك هي قضيتي التي تولّيتها وأعلنتها في كتبي ولوحاتي، لكنّني بالطبع آمل أنْ يلقى منجزي الكتابي والتشكيلي التقدير الكافي الذي يستحقّه ليكون اسمي مصدر فخرٍ لوطني الحبيب ككاتبة وفنّانة تشكيليّة أردنيّة.
10
قبل الختام، ماذا تعني لكِ الكتابة،… هذا القدر الوجودي، في اللّحظة الراهنة؟
في اللّحظة الراهنة، والتي هي بالنسبة لي كلّ اللّحظات، إذْ اعتدتُ أن أمدّ اللّحظة لتطول وتغدو العمر بأكمله، وأن أحيا في مفهوم (الآن هنا)، حيث جميع الأوقات هي الآن، وجميع الأمكنة هي هنا. لذا، ومن هذه الزاوية أنظر إلى الكتابة،.. إلى كتابتي أنا،.. وأسألني.. هل هي قدري؟.. فأقول أنّني بمفهومي الخاص الذي يتجلّى في عبارة “أنتَ تصنع قدركَ”، أرى أنّ الكتابة هي اختياري الحرّ الكامل،.. وهي فعل الإرادة الذي أمارسه وأنا في كامل وعيي، لتكون الكتابة بذلك قدري الذي أصنعه، وأحبّه، وأغرق فيه حتى أصيره ويصيرني. حين أبحث عن كلمةٍ تلخّص معنى الكتابة بالنسبة لي لا أجد غير (أنا)،.. نعم الكتابة هي أنا،.. هي أنْ أحقّق ذاتي، فأكتبها،.. أحكيها،.. أفكّ كلّ القيود الخانقة الظالمة وأنعتق من أسرها، فأتحرّر، وتسيل الحروف أنهراً من الكلمات على صفحتي، تفيض ويعلو هديرها، فتغسلني وتطهّرني، لأشفّ معها وأرقّ وأغدو روحاً عفيّةً نقيّةً يحملها وعيها الجديد عبر الكتابة نحو الأعلى.