ترجمة : سعيد بوخليط
تقديم : تصادف وصول اللساني اللامع والفيلسوف نعوم تشومسكي، إلى باريس، مع يوم إعلان انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. حدث شكّل فرصة، كي نجري معه هذا الحوار الاستثنائي. تشومسكي، هو أيضا ذاك الناقد الصارم، للبروباغندا الإعلامية والامبريالية الأمريكية. مستعيدا هنا، خيط مساره وكذا تراكمات مشروعه، ستتجلى لنا الطبيعة البشرية، بمثابة حافز له في إطار صراعه مع مختلف أنواع السلط.
عندما بادرت فتاة إلى مساءلة تشومسكي :”السيد تشومسكي : ماذا تفعل هنا والآن ؟ ”. لم يتردد في إجابتها كما يلي :”فلتركزوا على الأهم!”. إننا في المعهد ”فالوني – بروكسيل”، المتواجد بباريس، حيث تسلم اللساني ميدالية ذهبية من الجمعية العالمية للفيلولوجيا. كان مقررا إجراء مراسيم الحفل داخل مقر الجمعية الوطنية الفرنسية، لكن بسبب ضغوط خفية، تغير رأي الفريق الاشتراكي الذي كان من المفترض أن يستقبله. لذلك أعلنت مجلتنا-المجلة الفلسفية -التي كان عليها الالتقاء بالفيلسوف خلال الصبيحة ذاتها، نداء إلى الجمهور كي لا يخل بموعد التظاهرة.
تشومسكي لساني رفيع ومثقف ملتزم ، يقف وحيدا باستمرار في مواجهة الدعاية الإعلامية وكذا الامبريالية الأمريكية. والحال أن الصلة بين أفكار الفيلسوف حول اللغة ومواقفه السياسية ليست بديهية، إلى حد اعتقاد البعض بوجود نموذجين ل تشومسكي. مع ذلك، يظل نفس الشخص الذي حاورناه، بخصوص وجهة نظره في انتخاب دونالد ترامب، ثم مسار حياته الشخصية والعلمية. من خلال كل هذه السجلات، يقطع فكره مع عاداتنا الذهنية. فمنذ ليفي شترواس وفوكو وديريدا، نبحث عن دلالة الحرية من خلال قابلية التشكل الإنساني والتعدد الثقافي. تشومسكي ذاته، يدافع عن فكرة طبيعة إنسانية ثابتة وبنيات ذهنية فطرية، وعثر في ذلك على جوهر حريتنا. يجعلنا نستوعب، أنه إذا كنا حقا أصحاب طباع لينة، وكان لنا سند الطبيعة، فسنمتلك قوة المقاومة، والتركيز على الجوهري، حينما يتم توضيب كل شيء قصد إلهائنا.
1-س-هل يمثل انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، بداية عهد سياسي جديد؟
ج-لنعد إلى الوراء، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالضبط كي أكون دقيقا، يوم 6 غشت 1945، ابتدأ عهد جديد، إنه العصر النووي. فمع السلاح النووي، امتلكت البشرية وسائل كي تضع حدا لوجودها. انتشار هذا السلاح، جعلنا ضمن سياق حوادث عدة، على بعد دقائق من الكارثة. رغم ذلك، استبعدت منذئذ جميع الفرص، فيما يتعلق بتقليص أو استبعاد التهديد. ما نجهله بهذا الخصوص، أن سنة 1945، مثلت انطلاقة عصر جديد : الأنثروبوسين (عصر جيولوجي جديد)، تحدد بالأثر الصادم لتدمير البيئة من طرف البشر وكذا انقراض الأنواع الحيوانية. منذ أشهر، وخلال مؤتمر دولي للجيولوجيا، أكد أهل الاختصاص بأن سنة 1945، شكلت اللحظة الأولى للعهد الجيولوجي الجديد، الذي ابتدأ بالضبط خلال نفس العصر النووي ! هذان العهدان أوشكا على التلاقي غدا، حينما يقتضي نزوح الهجرات المناخية وكذا النزاعات حول الماء قوى نووية. إذن اعتبرت حقا نهاية الحرب العالمية الثانية بمثابة اللحظة التي تموقعت معها البشرية ضمن مسلك يقود صوب الكارثة. يوم 8 نوفمبر2016، أمدنا بخطوة إضافية.
2 –س-هل مثل انتخاب ترامب حدثا تاريخيا من ذات أهمية العصر الجيولوجي الجديد؟
ج-الحكم على ذلك، انطلاقا من الصدى الإعلامي، لن يكون مخالفا للصواب. تأملوا الغلاف الذي خصصته المجلة الألمانية ”دير شبيغل” للحدث: نرى انبثاق جياد نارية من رأس ترامب، وفمه مفتوحا يلتهم الأرض، إنه نفس النيزك الضخم الذي تسبب في القضاء على الديناصورات فترة الانقراض السابقة للأنواع. مع هذا العنوان :”نهاية العالم (كما نعرفه)”. مع ذلك، ما يجعل من تاريخ 8 نونبر يوما تاريخيا لا يعود إلى انتخاب ترامب، لكن بواقعة ثانية مرت بشكل غير ملحوظ في مدينة مراكش بالمغرب، بمناسبة تنظيم كوب22، حينما أصدرت ذلك اليوم المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، تقريرا يؤكد بأن السنوات الخمس الأخيرة، تعتبر الأكثر حرارة قياسا لكل ماسبق، مما أدى إلى ذوبان المناطق الجليدية على نحو فاق المتوقع مما يؤدي إلى ارتفاع مستوى المحيطات. افترض في مؤتمر مراكش تفعيل اتفاق المؤتمر السابق المنعقد منذ سنة في باريس بين مائتي دولة ضمنها أمريكا والصين. لكن ترامب أعلن عن نيته بعدم الالتزام بهذا الاتفاق. بالتالي حينما سقط فجأة على سماء مراكش خبر فوزه بالانتخابات، صارت جميع التطلعات بلا معنى. مشهد في غاية الإثارة: من جهة أبدت الصين الاستبدادية عن إرادتها كي تحافظ على الحضارة، بينما زعيم العالم الحر يتقدم طليعة القوى التي تبتغي تحطيم الكون. هذا ما يجعل 8 نونبر يوما غير مسبوق.
3-س-يتداول الحديث عن عهد يتسم بنهاية الحقيقة في السياسة؟
ج-هذا ليس جديدا. إذا ولدتم في الولايات المتحدة الأمريكية، سيحكون لكم بأن الثورة الأمريكية استندت على الرغبة في تحرير شعب بأكمله من الوصاية البريطانية. الحقيقة، أن أغلب قادتها كانوا ملاكا للعبيد وأنصارا لإبادة الهنود الحمر الذين انشقوا عن بريطانيا خلال اللحظة ذاتها التي توخت فيها الأخيرة التوقف عن هذه الممارسات. أيضا أبسط من هذا… استحضروا مثال الحرب في العراق سنة 2003 من طرف الأمريكيين التي بررتها الأكاذيب الوقحة لإدارة بوش. هل تم الإقرار بذلك كعدوان كاذب؟ هل حوكمت الجرائم المرتكبة؟ حظي أوباما بالتصفيق جراء اعترافه بأن ذلك كان “خطأ”. ليس كافيا، أليس كذلك؟
4-س-هل تأسست السياسة على البهتان؟
ج-لنقول بأنها تتضمن الكثير من ذلك ثم نادرا ما تنجح العقول الناقدة في العمل على دحض الأكاذيب الجماعية. لكنه أمر ينطبق كذلك على التاريخ الفكري. من كان بمقدوره تناول سمّ الشوكران؟ هو الشخص المتهم بإفساد شباب أثينا لأنه أفرط في طرح أسئلة. يتعلق الأمر بنا وتركيزنا على الرهانات الحقيقية وليس حول تغريدات ترامب. هذا يعود إلى طبيعة السجال الفكري وبوسعنا تغييرها : ينبغي تطوير سياسة للانتباه.
5-س-نتوخى استعادة مساركم. لقد ولدتم في فيلاديلفيا سنة 1928 من أبوين مهاجرين تركا روسيا هربا:
ج-ينحدر أبي من قرية أوكرانية صغيرة. غادر روسيا سنة 1913، فرارا من تجنيد أطفال يهود في صفوف الجيش، مما يعادل قرارا بالموت. أما والدتي فيعود أصلها إلى ما يسمى بيلوروسيا حاليا. لقد وصلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهي لازالت بعد طفلة. كانت عائلتها تبحث عن ملاذ يحميها من الاعتداءات على اليهود.
6-س-وأنتم طفل ولجتم مدرسة تقدمية مع تطوركم ضمن وسط المهاجرين اليهود. فكيف كانت أجواء تلك الحقبة؟
ج-شكلت اليديشية اللغة الأصلية لوالدي، لكن المفارقة العجيبة، أني لم أسمع قط داخل البيت كلمة واحدة منها. اتسمت الحقبة بصراع ثقافي بين أنصار اليديشية ثم العبرية من جهة أخرى. انحاز أبي وأمي إلى جانب العبرية، بل كان أبي مدرسا لها، تعلمتها بفضله منذ طفولتي، وكذلك بقراءة التوراة والأدب العبري الحديث. أيضا، اهتم بالأفكار الجديدة حول التربية، لذلك انتميت إلى فصول مدرسة تجريبية تستلهم أفكار جون ديوي، انعدم داخلها كل تقويم أو تنافس بين التلاميذ. حينما عدت ثانية إلى النظام الكلاسيكي، مع بلوغي سن الثانية عشر، أدركت أني كنت تلميذا نجيبا. فيما يتعلق بالحي، كنا العائلة اليهودية الوحيدة المحاطة بكاثوليكيين وإيرلنديين وألمان مناصرين للنازية. لا نتطرق لهذا الأمر في المنزل. لكن الغريب، أن الأطفال الذين يعودون من عند أساتذتهم بخطابات معادية علانية للسامية، سيتمردون عنهم بعد التقائنا آخر الأسبوع كي نلعب البيسبول.
7-س-لقد اتجه اهتمامكم باكرا جدا إلى السياسة. ففي سن الحادية عشر، كتبتم أول مقالة صحافية حول الحرب المدنية الإسبانية؟
ج-كان ذلك إبان سقوط برشلونة سنة 1939. عالجت المقالة التمدد الفاشي في أوروبا. سنوات بعد ذلك، وكنت لازلت متحمسا أكثر للحرب الأهلية الإسبانية، التي أظهرت الكيفية التي سحق وفقها الشيوعيون الفوضويين، قبل تمكن الفاشية من السيطرة على زمام الأمور. كنت أتابع صحافة اليسار، وأدعم حقيقة سريا، مسألة دعم فرانكو من لدن أحد أطراف القوى الغربية، الأمريكي طبعا. انطلاقا من سن الثانية عشر، قضيت وقتا كبيرا وسط فضاءات الفوضويين بمدينة نيويورك، داخل مكتبات يتردد عليها مهاجرون، والمساهمة في نقاشات جماعة من أسرتي تنتمي إلى الطبقة العاملة اليهودية الراديكالية. امتلك عمي كشكا لبيع الجرائد. كانت الحقبة أكثر سوءا مقارنة مع فترتنا الحالية: فقر أكبر ومعاناة. لكن، على المستوى النفسي، هي حقبة مفعمة بالتفاؤل والأمل. بحيث تمركزت جل الأنظار حول المستقبل، بينما تسود اليوم فكرة، العجز عن القيام بأي شيء.
8-س-هل لكونكم ترعرعتم ضمن سياق لغات عديدة صارت اللغة، أكبر هاجس في حياتكم؟
ج-بل مرده إلى مبرر أساسي استوعبته باكرا جدا: تتصف اللغة بخاصية جوهرية تتضح جليا ما إن تنكب على ظاهرة الكلام. فكل متكلم اندمجت عنده مجموعة محددة من القواعد، تمنحه إمكانية إنتاج عدد لانهائي من التعابير الدالة. إنه جوهر اللغة، وهو ما يشكل في الواقع سمة فريدة ونوعية للكائنات الإنسانية. هكذا نقف عند منبع كل إبداع. بعض الفلاسفة الكلاسيكيين -ديكارت ومدرسة بور رويال- تناولوا ذلك، لكنهم ظلوا أقلية. أواسط القرن العشرين، مع الثورة المعلوماتية، أضحت وسائل جديدة متوفرة وأتاحت إمكانية إعادة صياغة السؤال. حاولت إعادة تكييفها حسب القضية المركزية للغة والفكر.
9-س-عندما انطلق مشروعكم، كانت الهيمنة للبنيوية والسلوكية. بالنسبة إليهما، اللغة نظام اعتباطي للعلامات، تكمن وظيفته الأساسية في التواصل. اعترضتم على هذا المفهوم ودافعتم مقابل هذا عن بنية كلية لها وظيفة التعبير عن الأفكار؟
ج-ما الذي يجعلنا نقر بأن سلسلة كلمات في لغتنا تشكل جملة “سليمة”. لما بدأت الاشتغال على هذه الأسئلة، كان الثابت أن جملة ما هي نحوية، فقط إن دلت على شيء ما. والحال أنه تصور خاطئ كليا ! ها هما جملتان مجردتان من المعنى :”أفكار خضراء بدون لون تنام غاضبة”، “غاضبة تنام أفكار خضراء بدون لون”. الأولى صحيحة، بالرغم من أن دلالتها غامضة، بينما الثانية لا يعوزها المعنى فقط لكنها غير مقبولة. إن متكلما سينطق الجملة الأولى بنبرة عادية ومحاولا تقديم تأويل لها، بينما يتعثر بخصوص كل كلمة في الجملة الثانية. أيضا سيتذكر الأولى بشكل سهل أكثر. ما الذي يجعل الجملة الأولى مقبولة، بغض النظر عن المعنى؟ نتيجة تلاؤمها مع مجموع مبادئ وقواعد بناء جملة مثلما يمتلكها كل متكلم يتحدث بهذه اللغة.
10-كيف ننتقل من النحو الخاص بكل لغة إلى الفكرة الأكثر علمية حيث اللغة بمثابة بناء كلياني ينهل منه طبيعيا أي فكر إنساني؟
ج-لننطلق من الوظيفة الغريبة جدا للضمير في اللغة الفرنسية. عندما أقول : ”يعتقد جان بأنه ذكي”، “John croit qu il est intelligent”، فالضمير”il ”يحيل على جان وكذا شخص آخر. في المقابل، إذا قلت :”يظنه جان ذكيا” “John le croit intelligent “، سيدل الضمير ”il ”على شخص ثان غير جان. إن طفلا يتكلم الفرنسية، يفهم ذلك. لقد بينت التجارب، أنه ابتداء من عمر الثلاث سنوات، يستوعب الأطفال أن قواعد اللغة تابعة بنيويا يمتثل لها بغير تلقين. جميع المتكلمين بالفرنسية يعرفون هذا بصرف النظر عن التعلم والتجربة. هو متأصل فينا إذن، يجعلنا قادرين على أن نستوعب بأنفسنا هذه القواعد وندمجها.
11-س-هذا ما تدعونه بالنحو الكلي؟
ج-إنه مجموع المبادئ الثابتة لعقلنا التي تسمح لنا بتعلم اللغة وتكلمها. يتفرد هذا النحو إلى سلسلة من اللغات تبقى اختيارات خاصة ضمن هذا النحو الكلي. هكذا فاللغة الانجليزية والفرنسية، تبتعدان عن المركز ، بحيث يأتي العنصر المركزي في الموقع الأول، بينما اليابانية تندفع نحو المركز. لا تقول أبدا اللغة اليابانية “جان ضرب بيل”بل “جان بيل ضرب”. لكن خلف هذه التغيرات، فإننا مجبرين على افتراض ”بنية باطنية للغة” على حد تعبير فيلهلم فون همبولت (فيلسوف ولساني بروسي، 1767- 1835) قوة مستقلة عن التغيرات الشخصية والثقافية.
12-س-إذا كانت اللغة نسقا تركيبيا، هل يعني أن الحواسيب قد تتكلم يوما ما؟
ج-لا تقوم الحواسيب بأي شيء حرفيا، البرمجة من ينجز، نظام استفادة في الحاسوب. يلزم النظرية أن تتطور مثل كل النظريات. فلا يمكنها إنجاز أي شيء، انطلاقا من ذاتها.
13-س-ألا تطمح برامج الذكاء الاصطناعي إلى خلق حوار بين الإنسان والآلة؟
ج-يسود نوع من الالتباس حول هذه الأسئلة…لنأخذ مثال تواصل النحل، عبر رقصه. بوسعكم تهيئ ملايين الفيديوهات عن النحل الذي يرقص، ثم تحليل ذلك إحصائيا، والتكهن بسلوكه على هذا الأساس. لن يخول لكم الأمر منفذا إلى لغة النحل. لا يكمن رهان العلوم في تأسيس مقاربة للظواهر على قاعدة إحصائيات. كما لو قلتم :”لسنا في حاجة قط إلى الفيزياء، يكفينا تقليب ملايين فيديوهات الأجسام التي تسقط، وتحليلها إحصائيا، وقتها يمكننا التنبؤ بتحركها”. نتناول بجدية مقاربة إحصائية للغة الإنسانية، التي نرفضها بالنسبة للغة النحل أو حركة الأجسام !يعتبر غوغل- ترجمة ربما أداة مفيدة، لكنه لا ينهض قط على إنتاج لغوي سوى المقاربة الإحصائية حول رقص النحل. علميا، يمثل هذا ضياعا للوقت.
14-س-بحسبكم لات حدد اللغة أشياء بل معاني. هي قليلا ما، ضد الحدسي، أليس كذلك؟
ج-إحدى أولى الأسئلة المطروحة في الفلسفة، تعود إلى هيراقليطس :هل بوسعنا الاستحمام مرتين في نفس النهر؟ما الذي يجعله ذات النهر؟من زاوية اللغة، يقود السياق نحو الاستفسار بخصوص الذي يبلور إمكانية تحديد شيئين بذات اللفظة مع أنهما مختلفان فيزيائيا. بوسعكم تغيير تركيبته الكيميائية أو قلْب دلالته سيبقى النهر دائما ”نهرا”. في المقابل، إذا أقمتم على ضفتيه حواجز كي تعبر ناقلات بترول يصبح ”قناة”. ثم فيما بعد ستغيرون سطحه وتستغلون ذلك قصد الانتقال إلى مركز المدينة، فيصير لحظتها “طريقا سيارا”. باختصار، تحولات كبرى على أرض الواقع لاتمنع كي يبقى النهر نهرا، ثم تغيرات صغيرة لها القدرة قصد جعله يتبدل :النهر مفهوم، يعتبر تأسيسا فكريا، قبل أن يكون شيئا آخر. أشار أرسطو سلفا إلى ذلك. إن لغة الحيوانات، وبكيفية مثيرة، هي اللغة الوحيدة المحيلة مباشرة على الأشياء. لقد نفذوا نحو الرموز، لكنهم يوظفونها كإشارات. صوت قرد ما تصحبه حركات معينة، سيفهم بصيغة واحدة من طرف رفاقه على أنه إشارة تنبيه :تحيل العلامة هنا على الأشياء مباشرة. ولستم في حاجة لمعرفة ما يدور داخل ذهن القرد بهدف استيعاب كيفية اشتغال ذلك. خاصية، تنتفي بالنسبة للغة الإنسانية، جوهريا، ليست بالمرجعية.
15-س-ترفض فكرة أن اللغات تجزئ العالم حسب وظيفة ثراء معجمها. فما هو المصير الذي تتصورونه للاختلافات بين اللغات؟
ج-إذا تأملتم عن قرب، ستجدون بأن الاختلافات بين اللغات مسألة سطحية. اللغات التي لا تتوفر على كلمة تشير بها إلى اللون ”الأحمر” ستمتلك في المقابل تعبير ”مثل الدم”. كلمة نهر في اللغة اليابانية و السواحلية تشمل طيفا أكثر اتساعا مقارنة مع الانجليزية التي تميز بين نهر(river) و مجرى(brook) و سيل (stream). لكن نواة دلالة ”نهر”تظل ماثلة على نمط واحد بالنسبة لكل اللغات. ويلزم أن يكون كذلك نظرا للسبب البسيط التالي :لا يحتاج الأطفال إلى اختبار كل أشكال النهر أو إحاطتهم بمختلف الفوارق الدقيقة لمصطلح ”نهر”كي يستطيعوا إدراك دلالته. لأن ذلك يشكل جزءا طبيعيا من ذهنهم يتجلى وفق نمط واحد لدى مختلف الثقافات.
16-س-هل تعلمون بأنكم أحد آخر الفلاسفة المدافعين عن فكرة طبيعة إنسانية؟
ج-لا شك في ذلك : توجد طبيعة إنسانية. إننا لسنا بقردة ولا قطط ولا كراسي. إذن، هناك طبيعة إنسانية تميزنا. انعدامها، يعني عدم وجود فارق بيني وكرسي. وضع مثير للسخرية. إحدى مكوناتها الأساسية قدرتها اللغوية. سمة اكتسبها الكائن البشري خلال تطوره لكنها خاصة بالنوع أدركها الجميع :لا نعرف مجموعة بشرية تقل قدراتها اللغوية عن الآخرين. أما التغيرات الفردية، فتبقى هامشية. إذا أخذتم طفلا من قبيلة أمازونية لم يختبر قط أي اتصال مع باقي البشر خلال عشرين ألف سنة ، ووضعتموه في باريس، فسيتكلم الفرنسية سريعا جدا.
17-س-بخصوص امتلاك بنيات وقواعد لغوية فطرية، وضعتم اليد، بشكل مذهل، على دليل لصالح الحرية؟
ج-إنه تمفصل ضروري. فلا توجد إبداعية دون نظام من القواعد.
18-س-أريد العودة إلى سجال يؤرخ لسنة 1979 ، والتي حال منذئذ دون فهم حقيقي لعملكم في فرنسا. لقد وقعتم آنذاك عريضة مساندة لحق روبير فوريسون كي يعبر عن موقفه، حينما طرح السؤال مجددا بخصوص حقيقة غرف الغاز. ثم فيما بعد كتبتم مقالة تفسيرية، صدرت بلا علمكم، كتقديم لأحد كتب فوريسون؟
ج-هذه القضية الغريبة، تلاحقني باستمرار كلما قدمت إلى فرنسا. ولم تقبل أي جريدة فرنسية نشر أجوبتي المبرهن عليها بحجج. في العمق، يتعلق الأمر بصراع بين مفهومين لحرية التعبير. أحدهما يحيل على ستالين :إذا لم أقبل ما تقوله فلا تملك حق قوله بالتالي سألقي بك في السجن. أما وجهة النظر المخالفة لهذا التصور، فتقف عند فولتير والأنوار الفرنسية :الدفاع عن حرية التعبير يعني إذن الدفاع عن حرية التعبير بالنسبة للآراء التي تكرهها.
19-س-خلال تلك الحقبة لم يؤاخذ عليكم مساندتكم ل فوريسون كي يعبر عن رأيه بل لأنكم قدمتم كفالة أخلاقية وعلمية لمواقفه النافية، حينما وصفتم عمله بأنه”بحث عميق ورصين حول الهولوكوست…”؟
ج-ما صدمني هو طرد فوريسون من الجامعة ومتابعته قضائيا والحكم عليه بسبب كتاباته.
20-س-لقد أكدت حنا أرنت على أنه إذا حظيت الوقائع التاريخية مثل الهولوكوست بنفس وضعية الآراء، فلن يقوم تاريخ ولا عالم مشترك؟
ج-لا حاجة لاستحضار أرنت. يعتبر التمييز بين الوقائع والآراء، مسألة بديهية لدى الجميع. لكن هذا لا يمنحك سلطة ممارسة الرقابة واعتقال الذين يختلفون مع هذا التمييز.
21 –س-إذن لا تعتذرون عن أي شيء ؟
ج-لم أبادر للقيام بما قمت به، لو لم يتم إزعاج فوريسون في وظيفته ومحاكمته. حاليا في تركيا، يقتاد إلى المحاكم مثقفون وجامعيون وأكاديميون… لا ينبغي لحرية التعبير أن تعاني الاستثناء.
* هامش : Philosophie magazine numéro 107,mars 2017 ;pp8 -13.