أجرى الحوار: أشرف الحساني
س- الباحث سعيد بوخليط ،صدر لك إلى حدود اليوم أكثر من عشر إصدارات حول فلسفة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. ترجمة وتنظيرا. لماذا هذا الاهتمام الكبير بفلسفة باشلار الأدبية والجمالية على حساب فلسفته العلمية؟
ج-أولا، بحكم تخصصي الجامعي، فانتمائي كطالب لقسم اللغة العربية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، سنوات التسعينات، لاسيما درس النقد العربي الحديث ضمن ماسمي آنذاك بوحدة البلاغة وتكامل المعارف، خلال مرحلة الدكتوراه، ألزمني طبعا كي ينصب تفكيري بخصوص مشروع الأطروحة، على موضوع يبقى أساسا ضمن ممكنات الدرس الأدبي. بالتالي، لم يكن من مجال ثان بعد أن اتجه تخميني أصلا نحو غاستون باشلار،سوى باشلار/الأدبي دون باشلار/ العلمي، المنتمي أساسا إلى أجواء شعبة الفلسفة وفضاءات كليات العلوم. بل وحتى إن أجازت لي حيثيات التخصص المؤسساتي الضيق، بالبحث في المألوف والمتداول أي باشلار/العلمي، فسيكون ذلك استمرارا لإجحاف كبير في حق متون باشلار/الأدبي. لأن باشلار صاحب النظريات العديدة تلميحيا والنوعية جدا، حول نصوص شعرية وأدبية تجتر تقريبا مختلف مراحل تاريخ الآداب الغربية، ورائدا مؤسسا لما سمي بالنقد الجديد، لكنها بقيت مهملة في ثقافتنا المغربية والعربية، ولم يلتفت إليها سوى لماما، مقارنة مع الاحتفاء الذي عرفه باشلار مؤرخ العلم وملهم نظرية إبستمولوجية اجتهدت كي تجد أجوبة جديدة تخرج العلم من أزماته المعرفية والمنهجية التي اصطدم بها، جراء التطورات الانقلابية إن صح التعبير للفيزياء والرياضيات، خلال بداية القرن العشرين. هكذا وبشكل سريع، يمكننا الوقوف فقط على ترجمات لما كتبه باشلار/الأدبي، دون الانتقال إلى تمحيص قيمتها، وهي معدودة عدد أصابع اليد الواحدة،مع وجود أكثر من ترجمة لعمل واحد :حدس اللحظة (ترجمة رضا عزوز وعبد السلام زمزم)، جدلية الزمن(ترجمة خليل أحمد خليل)، النار في التحليل النفسي(ترجمة نهاد خياطة)، النار : التحليل النفسي لأحلام اليقظة(ترجمة درويش الحلوحي)،التحليل النفسي للنار(ترجمة زينب الخضيري)، الماء والأحلام دراسة عن الخيال والمادة(ترجمة علي نجيب)،جمالية المكان(ترجمة غالب هلسا)، شاعرية أحلام اليقظة:علم شاعرية التأملات الشاردة(ترجمة جورج سعد)،شعلة قنديل(ترجمة خليل أحمد خليل)، لهيب شمعة(ترجمة مي عبد الكريم محمود)، لوتريامون(ترجمة حسن عجة). إذن بحذف العناوين المكررة، دون التحول كما أشرت سابقا، إلى تلمس مضامينها ومدى مستويات تحكم تلك الترجمات حقا بخيوط النص الأصلي، ذي الأسلوب البلاغي المنفرد والمتجاوز لذاته باستمرار،لأن باشلار لايكف عن الحلم، حين الكتابة. وهل فعلا أثارت لدى القارئ العربي، نهما لمزيد من القراءة أم عكرت صفوه وأبعدته عن سياق باشلار؟ فالترجمة كما يعلم الباحثون، قد تكون عملية مربحة تماما أو مفلسة كفاية. أقول،بعد عملية ترميم دقيقة، كم سيبدو لنا المشهد شحيحا وجافا مقارنة؟مع مؤلفات باشلار الخصبة ودراساته الغنية حول الشعر والشعراء والخيال والعناصر الكونية والأمزجة الأدبية، إلخ.
س-في نفس الطرح كيف جعل غاستون باشلار من عنصر الخيال نظرية علمية، تأسس بموجبها مشروعه الفكري والجمالي الداعي إلى عدم الفصل بين العلم والقصيدة، أي بين فلسفته الإبستيمية وفلسفته الجمالية؟
ج-مثلما أكدت من خلال أبحاثي السابقة عن باشلار، فقد تحددت جمالية مشروعه الأدبي وقبله العلمي، انطلاقا من سعيه إلى ملاحقة معطيات الخيال غاية لانهائيتها، متوخيا إعادة فهم هذه الملكة الإنسانية الملغزة والغامضة والمرعبة والفاتنة والملموسة والمجردة والمتناهية في اللا اكتمال. لذلك اتجه باشلار إلى استبطان مجموعة من المكونات الجمالية لنصوص نثرية وشعرية ومتون روائية ولوحات تشكيلية وأساطير ولاهوت وإتنوغرافيا كي يتمثل معطياتها الذاتية. وذلك للإجابة على سؤال رئيسي حكم مشروع باشلار،لم يفصح عنه بشكل جلي، لكننا نستشفه عبر الأطروحات، التي انطوت عليها كتاباته: كيف يشتغل الخيال البشري وينتج صورا فنية في علاقاته بالعناصر الكوسمولوجية الأربعة :الأرض، الهواء، الماء، والنار؟وقوف باشلار على نماذج أساسية لمجموعة صور مختلفة جذريا انطوت عليها نصوص مبدعين كبار، على شاكلة بودلير وإدغار آلا ن بو و مالارميه وفيكتور هيغو وهوفمان ورامبو وفيكتور هيغو و نوفاليس وشيلي ونيتشه…، مكنه من تبين الخصائص الأنطولوجية والاختلافات المعرفية بين مختلف الصور التي ينتجها الخيال حيال كل عنصر من العناصر الأربعة، لهذا سيتحدث عن أنماط مختلفة من الخيال. عموما، تطلع مشروع باشلار، سواء في اشتغالاته الشعرية أو العلمية، صوب تأسيس جمالية، من خلال بحثه في كيفيات تمثل الخيال الإنساني للوجود سواء بالقصيدة الشعرية أو النظرية العلمية، بحيث تأسست كتابات باشلار على محورين كبيرين قد يبدوان متعارضين حد التناقض هما: الإبستمولوجيا التاريخية وكذا الخيال الشعري. فالخيط الرابط بين مجالي التفكيريين، تمثل في اهتمام باشلار الكبير بهذه القدرة المبدعة الخلاقة عند الإنسان. لقد توخت جمالية باشلار تأسيس شاعرية للحلم،فعمل بكل ذلك على تنظيم حوار بين عقله وخياله مكرسا دراسات متوازية للعلم والنظرية الشعرية، بالتالي وجد إيقاعه على حد تعبير ميشيل مانسي.
س-يرى الباحث التونسي رضا عزوز في حديثه عن الترجمة في كونها :”إعادة كتابة للنص في أفق تمثل مجموعة من الأعمال تنتمي لثقافة أخرى اعتمادا على مؤسسات تستهدف ليس فقط استيعاب مؤلفات ثقافية أخرى ولكن تجديد لغة الترجمة”؟ في نظرك إلى أي حد توفق المترجمون العرب في ترجمة باشلار إلى العربية؟ ثم ما الجديد الذي أضافه فكر غاستون باشلار إلى الفلسفة العربية؟
ج-إبان أول سنوات اتصالي بالمتن الباشلار،رجعت إلى بعض من تلك الترجمات قصد الاستئناس بها بداية، لكنها بدت غير موحية بتاتا، لغتها خرساء يستحيل معها أن تشكل وساطة صادقة وأمينة، بين اللغة العربية وباشلار. إما جراء عدم الإلمام أو جعل الترجمة رهينة عملية تجارية ميركانتيلية،تسمح فقط بالاستسهال، فالنص الباشلاري مثل كل النصوص العميقة والكبرى، ليس سهلا بتاتا. ليس المهم اكتفاء المترجم بالمبنى والمعنى الشكليين وكفى، بل يحتاج سعيه إلى منظومة بأكملها من الطقوس اليومية المتواصلة، تتمثل في العشق والشغف والمتابعة والقراءة والكتابة والفهم والتأويل والترديد الصامت حتى يتحقق التآلف الحميمي بينه والنص، وهو بمثابة شرط مفصلي لإخراج نص يتكيف مع وضعه الجديد بكل أريحية. تكمن صعوبة ترجمة باشلار في :موسوعيته، لغته الشعرية الحالمة، مرجعياته الخاصة، نحته لمصطلحات جديدة. ترجمة نص بهذه الجدارة، وبالاستحقاق الذي يرتقي إلى مقامه، لايمكنه حتما سوى إثراء الفكر العربي وتغيير بنياته.
س-صدر لك هذه السنة عن دار مها للنشر والتوزيع والترجمة في مصر، كتاب”أمي الحبيبة من بودلير إلى سانت إيكزوبيري”، وهو عبارة عن ترجمة لمجموعة من الرسائل لكبار الفلاسفة والأدباء إلى أمهاتهم. إلى أي حد يمكن اعتبار الرسائل، هي الأخرى كتابة بمفهومها المطلق؟ ثم ماهي القيمة العلمية والفكرية والجمالية التي يمكن أن تضيفها هذا الرسائل إلى حقل الكتابة الأدبية؟
ج-يستهويني جدا، هذا النوع من الكتابات، وتمدني أثناء قراءتها بمتعة متفردة. لذلك أبادر إلى ترجمتها ولازالت مشاريع أخرى تنتظر في هذا الإطار، كي أتقاسم ثانية مع القارئ هذه المتعة.كأني أعيش مع هذا الكاتب أو ذاك تفاصيل حياته الخاصة. أضحينا أصدقاء باقتحام مني طبعا، لكنه لم يظهر أي امتعاض يذكر، بل رحب واستضافني ثم شرع يحدثني بين الفينة والثانية عن هواجس محض ذاتية يعيشها فقط مع نفسه،فأنصت إلى حكاياته الجوانية التي لايعرفها الآخرون، محاولا في ذات الوقت، استيعاب لبابها سواء لفهم المشكلات التي أعيشها ذاتيا، أو يضمرها مصيري الوجودي. أيوجد في الكون أجمل من الاستماع إلى أشخاص من صنف: بودلير، بروست، همنغواي، أنطوان دي سانت إيكزوبيري، فوكنر، كوكتو، هنري جيمس، أندريه جيد …، وكل عظماء البشرية، ذكرياتهم،حنينهم، رحلاتهم،حكاياتهم الوضاءة، لحظاتهم الحميمية، ساعات نومهم واستيقاظهم، مشاعر الغضب والفرح والحب….؟.
س-لاجدال في كونك، أحد الباحثين المتخصصين في الترجمة والتنظير في الفكر الباشلاري. هل للباحث سعيد بوخليط مفهومه الخاص للترجمة؟ث م كيف ترى وتقيم واقع الترجمة في العالم العربي؟
ج-الترجمة أفق كوني بالنسبة للشعوب والحضارات،وهي إحدى وصفات تحقيق النهضة والتطور، فلا تقوم لحضارة ما قائمة، بدون فتح مختبرات كبيرة تترجم وتكرس واقعيا جوهر ما ترجمته. بالتالي، الترجمة مشروع مجتمعي يتأسس بالتعدد. ورش وطني وقومي،يقتضي مخططات جادة وأهدافا وطنية بعيدة المدى تصب فيها لبنات وروافد عدة، تستحضر السياسي والثقافي والاقتصادي والأنتروبولوجي، ضمن هياكل ومؤسسات وميزانيات معتبرة، للكتابة والكتاب و والقراءة وهيآت ولوجستيك إلى آخره.هذا حال الترجمة بالنسبة إلى الدول المتقدمة،أما في المغرب وبجانبه باقي المجموعة العربية، فلا زلنا بعيدين تمام البعد عن سياق كهذا،ولاأظنه تطلع قد يتحقق آجلا وليس عاجلا في ظل حالة التلاشي العامة التي نحياها. لذلك ما علينا سوى أن يعتمد كل واحد على نفسه وإرادته الذاتية وبلورة الأفكار التي يؤمن بها في حدود مايقدر عليه،المهم أن تبادر.
س-نفس الطرح في مقالة متميزة لك ضمن مقالات كتابك “بين الفلسفة والأدب،دراسات وسير”(دار الحامد، الأردن،2015)، حول راهن الترجمة في العالم العربي،حيث قلت بأن ضحالة وضعف مؤسسات الترجمة عربيا، جاء نتيجة :”غياب الروافد الأصلية لمشروع علمي متكامل، في إطار الدولة التحديثية التي بمقدورها تكلم لغة العصر على جميع الواجهات”. كيف في نظرك، يمكن لهذه المؤسسات الخروج من بوتقة البؤس التخلف والانحدار الحضاري الذي تتخبط فيه إلى نهضة معرفية تنويرية وحداثية كونية؟
ج-أولا، يجب أن نمتلك حقا مؤسسات للترجمة بالمعنى الأكاديمي للكلمة، تسندها رؤى مستقبلية وتحظى باستقلالية معرفية تامة، متحررة من كل الالتزامات الضيقة التي تخدم مصالح ظرفية عابرة لهذه الجهة أو تلك، مسألة تبدو غير ممكنة في ظل انتفاء مجتمع الديمقراطية، مما يحيلنا باستمرار أولا وأخيرا، على المشروع المجتمعي الصميمي والتحولات الفكرية النوعية.
س-سيصدر لك قريبا عن دار فضاءات الأردنية، ترجمة لرحلة الروائي جوزيف كيسيل إلى سوريا سنوات العشرينات تحت عنوان : في سوريا. ماذا يمكنك القول بهذا الخصوص؟
ج-نعم هو عمل سردي، وثق من خلاله جوزيف كيسيل، مختلف الأحداث التي عاشها خلال رحلته إلى سوريا ولبنان سنوات العشرينات، لكن المدهش أنه سيعمل على تأويلها بكيفية جعلته يستشرف ضمنيا حسب حسه الإبداعي العميق والنافذ ما ستعيشه سوريا ابتداء من سنة 2011 لذلك كتبت في التقديم لهذه الترجمة بعضا مما يلي : “من يفسر لماذا نُقتل ومن يقتل؟. في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا”، هذه الجملة المكثفة والمركزة جدا، قدر استشرافها البعيد المدى، انطوت عليها إحدى فقرات كتاب جوزيف كيسيل، الذي يعود تاريخه إلى أواسط سنوات العشرينات. المفارقة المدهشة، رغم قدم المسافة بعقود طويلة، فبالتأكيد، عبارة لازالت تنطبق حتى اليوم، ربما تمام الانطباق، بدون مبالغة، على ماتعانيه سوريا: مجرد مطالب مشروعة، لشعب بحقه في دولة مؤسساتية مدنية، تنتسب إلى العالم المعاصر، غدت بجرة غفلة من الجميع، صراعا همجيا يلامس باستمرار أقصى درجات الضراوة. قدر أيضا، تبلور أعتى مستويات اللا-معقولية، التي يعجز أي ذهن بشري عن تمثلها. إذن :لما تعاني سوريا ما تكابده؟ لماذا يُقتل الناس هناك؟ من القاتل؟ ثم أساسا وقبل كل شيء ما دواعي ومبررات القتل؟حتما، العبقري كيسيل استبق غفلتنا جميعا…. “.