عزالدين بوركة:
ظلّ الجسد شيء مقدس يُحرّم الاقتراب إليه وتعريته، وتناوله في الرسومات في العالم الشرقي، عكس ما كان عليه الحال في عالم ما بعد البحر المتوسط، إن جسد المرأة “يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف وجوده، جسد شكلته التقاليد وأخضعته القوانين وحاصرته الضغوط التاريخية والثقافية والمادية. أسير علاقات عائلية، يظل محبا ومختفياً، ولا يبرز إلاّ من خلال التمثلات الاجتماعية، ولا ينفجر إلاّ في الجدبة أو المرض العقلي (المتنفس الوحيد للرغبات المكبوتة..) موضوعا كان محرّما دائما ومهما محصورا ومختزلا في منطقتين أساسيتين هما الرحم والمهبل تتمحور حولهما كل المناطق الأخرى. لكنه إلى جانب ذلك، وفي الوقت ذاته، حولهما كل المناطق الأخرى. لكنه إلى جانب ذلك، وفي الوقت ذاته، موضوعا للرغبة لارتباطه بالجمال والإغراء والإثارة، ومن ثم كانت ضرورة محاصرته وإخفائه تحت ألف غشاء وغشاء، وسجنه بين أربعة جدران”[i].
بقيَ هذا الأمر لقرون خلت إلى حدود تلك “الفتوحات” الاستشراقية، وبداية الاستعمار في القرن التاسع عشر، ودخول “اللوحة المسندية”؛ التي يرجح الحداثيون أن مفهوم اللوحة ظهر معها؛ إلى بلاد العرب مع الفنانين (الرسامين) التشكيليين الغربيين الأوائل الذين اتخذوا من الطبيعة العربية والجسد (المرأة) موضوعا لأعمالهم (التشكيلية والتصويرية أيضا).. مما ترتب عليه بعد قرن من الزمن ونيّف، وظهور أوائل بِشارة الحركة التشكيلية العربية أوائل القرن العشرين، فقد تأثر الرواد بهذه التيمة (المرأة/الجسد)، وتمكن لهم كسر القواعد (=الطابوهات). فجسد المرأة شُكّل (من التشكيل) من قبل التشكيليين المغاربة من مختلف الزوايا ومختلف المقاربات، كفضاء للرغبة، وفضاء أنثوي خالص، وكتعبير رمزي لتخييل معدد. فقد اهتم التشكيليون المغاربة بجسد المرأة وبتعبيراته، وبرمزية أعضاءه وتعبيريته اللامنتهية، لهذا وظفوه كمركب أساس داخل أعمالهم.
فها هو فريد بلكاهية، أحد رموز الفن المغربي الحديث والمعاصر، الذي قدَّم الجسد، رمزيا ورامزا، ضمن تصويرية متقدمة من الوجهة التقنية ذات أمداء تعبيرية متصلة بكشف أعضاء الجسد..جسد المرأة في الغالب الذي يُصَوِّره الفنان ويُؤَسِّرُهُ وفق تكوينات تشكيلية يلتحم فيها الجلد والخشب والنحاس لتبدو مليئة بالرموز الإيروسية، وفيها ينصهر الموضوع (الجسد الأنثوي) مع الخلفية Fond، وتذوب الملامح مع بعضها البعض.. لا شيء يكشف عن هويتها غير الانحناءات والخطوط المتموِّجة التي اشتهر بلكاهية بتوقيعها على قماشاته، لاسيما منها المتضمِّنة أجساداً ليِّنة مندمجة داخل مساحات حرَّة، أو المشتملة على أطياف بشرية ترسم المجاز البلاغي للجسد في حدود عريه وفطريته، بمعنى من المعاني..[ii] تجربة الفنان فريد بلكاهية التي تظهر الأجساد في لوحاته في هيئة أشكال ملتوية ومتموجة وحرة عائمة في الفضاء متباعدة أحيانا.. متلاحمة أحيانا أخرى على طريقة الذكر والأنثى.
ثم هناك الراحل محمد القاسمي الذي تميز بإعطائه الجسد/الجسد المسلوخ أبعادا تشكيلية أخرى، تتجلى في تلك العلامات والرموز المتطايرة والمتلاشية التي تغطي فضاء اللوحة، قبل أن يعود إليه بقوة في مراحل صباغية موالية وبمعالجة تشكيلية أكثر إيروتيكية.[iii]
وتعدّ الأنثى من أكثر اهتمامات محمد الملحي التوظيفية/الجمالية داخل العمل لديه. فالتموج الملتهب (العمودي خاصة)، كما يقول الزميل بنيونس عميروش، ترميز لجسد المرأة كذلك، المرأة المشتعلة، حيث الانحناءات ترسيم مُؤسلِب للعنق والنّهد والخصر والرّدْف (شكل جسم الأنثى في وضعية وقوف جانبي profil)، من ثمة، يبعث التموج الخطي على البعد الشهواني، إذ تبقى المرأة من أهم الاهتمامات الجمالية عند الفنان، حيث تتآلف العناصر والتلاوين لصالح التكوينات التي تفسح انْسياب المنحنيات، وتُعقلِن ازدواجية الدوائر ليكشف الكلّ عن حدّة الإيحاء الأنثوي المضاعف عبر الأشكال العُضوية الواضحة والملتبسة في آن.
فتحضرُ المرأة مُنجِزاً (بكسر الجيم) ومنجَزاً على القماش/اللوحة والسند.. إن كان هذا الأخير –أي المنجَز- قد وظّفه مجموعة من الفنانين والرسامين في أعمالهم، بمختلف المدارس التشكيلية، الواقعية منها والانطباعية والسريالية كما هو الحال عند التجريدية وما بعدها من الحداثية.. (دافينتشي، أنجلو، بيكاسو، رافئيل، فان آيك.. فان غوغ، مونيه كلود اوسكا، رينواربيير اوجست… سلفادور دالي…)، كما داخل البلاد العربية كان لتيمة المرأة حظ وافر من حيث الاشتغال من قبل الفنانين التشكيليين “الرجال” (ضياء العزاوي، إسماعيل الترك (العراق)، أحرضان (المغرب)، حسين طلال، عبد الكريم الأزهر (عبر الوجوه المُبهمة/ السمولاكر)، عبد السلام أزدام (بشكل صوفي صرف)…) فقد اتخذ بالتالي-أي المنجَز- مُختلف الأشكال الإستيتيقية- على تعدد اشتغالات هؤلاء الفنانين. وبالتالي ليس بالضرورة أن تكون الفنانة امرأة (أنثى)، لتستطيع نقل تلك الهواجس الأنثوية التي تختلجها، وتخرجها بشكل فني فوق القماش، فاللون والتشكيل (كما الكتابة عند البعض) يحتاج لعميق فهم وحب بليغ وبحث ركيز في عوالم الصباغة[iv].
غير أنه يبقى الأمر الأمْيَز (من التميّز)، حينما نقف أمام ذلك التجسيد السِمولاكري ( =تلك النسخة المحرّفة كما يُسميها جيل دلوز، ويذهب إلى أن يفصح عن قوة ايجابية في الصورة الأصلية والنسخ معاً، كما تنفي النموذج الأصلي والاستنساخ؛ إنها كما يقول عبد السلام بنعبد العالي “نسخة بالمعنى الكامل والمناقض للكلمة”؛ بخلاف ما ذهب إليه أفلاطون ذلك الفيلسوف اليوناني للتنقيص من قيمة السِمولاكر..)، تجسيد لجسد المرأة.. عبر صورة (لون) مركبة تركيبا غير واضح المعالم (تشكيلي) وواضح الرسالة، وبليغ المعنى.. وإن كان عند البعض يهرب إلى واللامعنى والعبث، كمدرسة فنية جمالية.. إذ تحضر المرأة (الجسد) في مجموعة من أعمال الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الأزهر، عبر صورة جمالية من خلال سيمولاكر يكون له أن يصور المرأة عبر صور غير واضحة المعالم وواضحة الجنس، تجعل من الجسد تعبيرا لا غاية أو وسيلة.
من ثم يأتي الفنان الرسام عزيز السيد الذي لا يرسم من أجل أن يرسم فحسب، ولكنه يرسم لعطينا تراكيب فيزيقية أشبه بأشجار سائرة، إن لوحات عزيز قابلة للانفصال لأن ثمة ما يجمعها، إنه التنوع في التوحيد، ولأن عالمه مزخرف عن آخره بألوان أشبه بنمنمات، قريبة إلى حد ما من “نباتات” النمساوي “غوستاف كليمت” الذي اشتغل طول حياته على الجسد الأنثوي في بعده الجنسي والجمالي، فإن هناك نزعة شاعرية قريبة من الغنائية.[v]
وتأتي أعمال الصلادي، جاعلة من الجسد، الجسد الأنثوي، غارقا في الطابع السريالي والصوفي الطرقي، كما يجعله عاريا واضح المعالم ومحاطا بعوالم من الأشجار التي تصعد من الأرض وتلتحم والجسد لتكون وإياه وحدة عضوية داخل اللوحة، لونا وتركيبا ورسما. تعدد الفنانون الرجال المغاربة الذين تناولوا المرأة موضوعا وثيمة ورسما، منذ البدايات الأولى للفن الحديث مع بنعلي الرباطي بالمغرب.
الهوامش:
[i] طلال معلا: جسد-مقاربة الوهم والخيال والحلم بآليات فهم التعبير الجسدي. دار سندباد للنشر، أبريل 199 (ص108). وأيضا: جسد المرأة.. من سلطة الإنس إلى سلطة الجان، حياة الرايس سينا للنشر 1995. (عن الايقونة والجسد، ابرايهم الحيسن ص 71).
[ii] ملف فريد بلكاهية.. التشكيلي المروض للون والمادة الساحة التشكيلية المغربية تودع أحد أعلامها نشر في المساء يوم 01 – 10 – 2014، عن موقع http://www.maghress.com/almassae/216320
[iii] تجربة الجسد في الفن التشكيلي المغربي، القدس العربي، عدد 14 أبريل 2013
[iv] عزالدين بوركة، مقال المرأة والتشكيل: الأيقونة والمُنجَز، القدس العربي عدد 10 أبريل 2015.
[v] كأس حياتي، إدريس الخوري، ص 102.