حصان أسود | عائد خصباك
عائد خصباك (العراق):
دفع أحدهم باب الكافتريا ودخل، تفـحص الجالسين قـبل أن يتفحصني. في حقيقة الأمر، أتنــاول فطوري هنا قبل الذهاب الى عملي، عادة ما تخليت عنها منــذ أكثر من سنة وخـلال هذه الفترة ما سبق لي رؤية هذا الذي دخل الى الكافتيريا وتقدم ناحيتي وما ظل بيني وبينه غيـر الصحون التي على المنضدة، وبدل أن أسمع منه شيئا أسرع بتـوجيه ضربة مباشرة الى فمي ما أستطـعت تفاديها، شعـرت أن شخصا ما أطاح برأسي، كان مذاق الدم بين أسناني وقد سقطت أرضا. ساعدني بعض الحاضرين على استعادة توازني والرجوع الى طاولتي مجددا، بينما البعض الآخر مسح الدم عن فمي وجبهتي، أخبرنـي بعـض عمـال الكافتيــريا أنهم حاولوا الإمساك بمن اعتدى عليّ لكنه اختفى، قال أحدهـم: ألا تعرفـه؟ هززت رأسي نافيا فقـال: اذن، هـو يعـرفك. طلبت أن يتركوني وحالي ففعلوا، لكن أحدهم قـدم لي كوبأ من القهوة ذاكرا -في محاولة لإرضائـي- انه على حساب المحل فارتشفتها على مهل وأنا أستعيد ما جرى، لماذا اختارني دون غيري يسـدد اليه قبضته؟
ما زلت أشعر بطعم الدم في فمي وبمقدمة أسناني تؤلمني لدرجة أني كلما اضغط عليها بأصابعي يزداد الألم. أنا في الحقيقة لا مشاكل عندي، لكني حذر جدا، أستطيع القول إني أستشعر المشكلة فأحلها قبل أن تقع، وبالنسبة لما حصل، فقد كانت سرعة الرجل وهو يسدد قبضته فاقت حذري، المؤلم بالنسبة لي أيضا ليس الضربة فهذه يمكن الشفاء منها مع الوقت، لكن قناعتـي بأن الحـذر لا يؤدي دائما إلى نتائج مضمـونة. خرجت من الكافيتريا ومذاق الدم في فمي.
بدل أن أذهب إلى عملي ذهبت إلى مستشفى الأسنان التخصصي، أعرف طالبا في كلية طب الأسنان يتدرب هناك لعله يساعدني، بحثت عنه وأنا أقطع داخل المستشفى ممرات طويلة، سائلا عن المكان الذي يتدرب فيه طلاب سنة التخرج من دون أن أشرح لأحد ما أعانيه في مقدمة أسناني، فشلت وما وصلت لمن أعرفه، لكني وصلت إلى إحدى غرف الفحص وقد توقف نزف الدم، سألتني الممرضة الجالسة وراء مكتب عند باب الغرفة عما أشكو ففتحت فمي أريها موطن الألم، وأوضحت لها معاناتي من دون الدخول في تفاصيل ما حدث، سجلت الممرضة اسمي وعمري ونوع عملي على ورقة أعطتني إياها، وسجلت المعلومات نفسها في سجل أمامها قبل أن تشير لي بالجلوس على أحد الكراسي قربها، وأن أنتظر دوري، قلت: هل هناك أحد قبلي سيدخل غرفة الفحص؟ قالت: لا، ما أن تخرج المريضة أدخل أنت. غادرت الممرضة مكانها وتركتني وحدي. كان باب غرفة الفحص نصف مفتوح مما أتاح لي رؤية طبيبة الأسنان منشغلة في معاينة فم الفتاة وقد استسلمت لها تحت النور المسلط على فمها المفتوح، جلست الطبيبة على مقعد دائري مرتفع قليلا دافعة خلفها بصدريتها المفتوحة ونصف جسمها العلوي ملتفا في وضع جعلها تسيطر على ما هي منشغلة به، كان شعرها المنسدل يغطي خدها الأيسر فلم ألمح وجهها جيدا، فجعلني ذلك أفكر بوجه الطبيبة وأضع إضافات على ما خفي عني، لكن الصرخة التي علت قطعت تفكيري، واندفعت إلى داخل الغرفة وما استأذنت أحدا، كانت الفتاة التي على كرسي الفحص شاحبة الوجه منكمشة خوفا مما تراه أمامها، وقد أوقفت الطبيبة يدها التي ترفع إبرة التخدير، بدا واضحا أن ما أوقفها بهذا الشكل هو الصرخة المفاجئة، عندما أصبحت في وسط الغرفة أدارت الفتاة وجهها المتشنج نحوي وطلبت مني يائسة مساعدتها، فوجدت نفسي واقفا بين الطبيبة وبينها، وضعت الطبيبة الإبرة جانبا وانسحبت بحركة واحدة إلى حيث يقع مكتبها، جلست مرهقة وهي تنظر لي وللفتاة التي كانت تتشبث بي، وربما لأن الطبيبة وجدتني حائرا لا أدري ماذا أفعل، نادت على احد ثم طلبت مني مغادرة الغرفة، قالت الفتاة: لا تذهب، أنا معك. وتشبثت بذراعي. أحسست بها ترتعـش، وقد رفعت بنصـف جسمـها فوق كرسي الفحص، قلـت لأطمئنها : كل شيء على ما يرام، لا تخـافي، أنت معـي وأنا معـك ونحـن سوية. بدت الطبـيبة منـزعجة فاعتذرت لها وقلت للفتاة : لنخرج من هنا.
خرجنا معا، أما الموضوع الذي قدمت من أجله فقد نسيته.
استعادت الفتاة هدوءها خارج المستشفى، كانت تتقدمني مما أتاح لي ذلك فرصة النظر إلى شعرها القصير ورقبتها ورشاقة جسمها، والنظر إلى كتبها ودفاترها في حقيبة الجلد المفتوحة التي تحملها، سارت بجواري بعد ذلك، قالت وهي تلتقط أنفاسها : لا أدري كيف يكون مصيري لولاك، لقد أنقذت حياتي. وأمسكت كفها بذراعي مجددا، لم أسألها أين نمضي معا لأنني متأكد، عندما خرجنا من المستشفى أننا سوف لا نفترق. كنت مزهوا بفكرة أنني أنقذت حياتها، على الأقل سيكون هذا الشعور لكلينا بداية جيدة، قالت : كنت ذاهبة إلى الكلية صباحا وما دار بخلدي أبدا أنني سأدخل المستشفى الاختصاصي، فهذا بعيد عن مخططي، ما عانيت من ألم في أسناني ولا تسوس ولا أي شيء آخر، لكن الباص الذي أقلني توقف بشكل مفاجئ فاندفع وجهي إلى مسند المقعد الذي أمامي فضربته بمقدمة أسناني. وفتحت فمها لأرى مقدمة أسنانها. قلت لها : لم يكن ذلك سيئا لأنه سبب في وجودنا معا.قالت : هل تعتقد ذلك ؟ قلت : هذا مؤكد.
ابتعدنا عن المستشـفى ونحن نسير باتجاه منطقة الميدان، ما فكرت بالذهاب إلى هناك لكن ما دامت معي تقبلت ذلك، فكرت أن نجلس في مكان هادئ، ولعلها توافق على الفكرة مادامت في حالة تشجعها على البقاء معي، غير أن ما رأيته ونحن نطل على الميدان غيّر من رأيي، كان الناس يسدون منافذ الدخول إليه، وبينهم رأيت المراسلين الأجانب وكامـيرات التلفـزيون المحمولة، آنذاك طرأت لي فكرة أن أصحب الفتاة وندخل بين الناس في الميدان لنكون قريبين من الحدث، لا شك أنه سيعجبها وما عارضت. علت أصوات المزامير وخشخشة صناجــات من أماكن متفرقة ، وعلت دقات الطبـول فابتسمت، قلت : سأريك الأعلام الخفاقة ومن تنكر بأزياء المحاربين. فتتشبث بذراعي أكثر، تقدمنا إلى وسط الميدان، فالتصقت بي عندما أحاط الحشـد بنا وأصبحت دائـرة واسعة حولنا. وغير بعيد رأيت كراسـي في صفوف بعضها وراء بعض، شغل الناس فورا معظمها ونظروا أمامهم كما لو أنهم ينظرون إلى خشبة مسرح. توقفت الموسيقى فجأة، وسارع أحدهم يبعد بعض من كاد يلاصقنا، وبعدما اطمأن إلى ذلك مدّ يده صافحني وصافح الفتاة، وبسبب الضجة قرّب فمه من أذني وقال أنه انتظرنا طويلا، قلت للفتاة إنها دعوة للمشاركة في الاحتفال. ما حسبت الفتاة لهذا الأمر حسابا، قلت لها : مـتى ما أردت المغـادرة نغادر معا.و لأني متـأكد من ثقتها بي، ما انتظرت جـوابا على ما قلته،سار الرجل يفسح لنا الطريق إلى كرسيينا في المقدمة، وسألنا : هل كل شيء على ما يرام ؟ هززت رأسي بالإيجاب، أصبح بالإمكان رؤية ما يجري أمامنا جيدا الآن، كنت سعيدا برؤية أحدهم يمتطي ظهر حصان أحمر وفي الوقت نفسه يمسك بلجام حصان أسود بجانبه، انتبهت إلى أنه ينظر نحوي طيلة الوقت. ارتفع صوت الموسيقى فبدأ الحصان الأحمر يؤدي بعض الحركات مستجيبا لما سمعه، حرك أطرافه الأمامية بالتناوب ورفع رأسه عاليا وأنزله إلى أسفل، والرجل فوق الحصان ما ابعد نظراته عني، ومع أنه أشاح بوجهه مرغما عندما استدار الحصان إلى هذه الجهة أو تلك، ولكن سرعان ما عاد إلى وضعه السابق من دون أن يتخلى عن لجام الحصان الثاني، كانت صيحات الحشد تشجعه، والفتاة بجانبي تراقبه، وعندما توقفت الموسيقى سكنت حركات الحصان، صفق الحـشد وصاح بعضهم : أحسنت، أحسنت. طلب الرجل الذي يركـب الحصان مني أن أجرب حظي بالصعـود فوق ظهر الحصان الأسود، في البداية ارتبكت، وقلت : أنا أركب فوق ظـهر الحصـان ! قال أسرع، تعال. فما توانيت ولا ترددت، أشار الرجـل بيـده وصاح : تعال. وربمـا أعطى إشـارة معينة إلى من يعرفهم فارتفعت الموسيقى بالإيقاع السابق نفسه، لمـحتـه يلكز بركبتـه وحـذائه لكزات معيـنة اسـتجاـب لها الحصان، هكذا سارت الأمور . أسرع الرجل الذي كان في استقبالي بمد يد العون وأنا أضع قدمي اليسرى في الركاب، وعندما اطمأن إلى وضعي فوق ظهر الحصان سلمني الحبل وأمسكت باللجام، وما أن لامس حذائي بطنه حتى وجدت نفسي مدفوعا في الهواء قبل أن يخطو خطوتين، وقعت على الأرض وانقلبت مستلقيا على ظهري، تشوش بصري وأنا أتطلع للسماء فوجدتها داكنة. تحلّق حولي كثيرون، كانت الموسيقى عالية والأصوات شجعتني على تجربة حظي من جديد، لاح لي وجه من هو فوق الحصان الأحمر، وعندما التقت نظراتنا سألني عما حدث، رفعت أعلى جسمي وأسندت ثقلي على مرفقي فتراجع بعضهم إلى الوراء، آنذاك لمحت الحصان الأسود يتحرك بعيدا وسمعته حمحمته المتقطعة عندما هز رقبته للأعلى والأسفل هزات متتالية، كان من دون سرج .
قلت : أرخى أحدهم السرج فوقعت.
قال : كان عليك فحصه بنفسك قبل أن تصعد.
و هز الحبل هزة خفيفة قبل انصرافه .
عانيت من ألم الرضوض وشعرت بحرقة شديدة عند مرفقي، وقد تمزق قميصي عنده وبان الخدش، تذكرت الفتاة، انتزعت نفسي وسعيت لاستعادة توازني، رأيت الفتاة تغادر من دون أن توجه نظرة إليّ، من دون أن يعنيها ما حدث، ناديتها فما استجابت، ما أصدقت أنها واصلت سيرها دون أن تترك لي فرصة للحاق بها، لكني أسرعت، كنت دائما أجد لي طريقا وسط الحشد رغم ما فعلونه بي، شتمني أحدهم ورجّني آخر وداس شخص على قدمي ، كان الخروج من الحشد عملا شاقا، كدت أسقط مرهقا لولا أني لحقت بها فقلت : لقد خطط احدهم لذلك فسقطت من فوق ظهر الحصان.
أدارت نحوي نصف وجهها وما توقفت عن المسير، ما وضّحت لي شيئا فأخذت بساعدها وأنا أقول: تعالي. قالت : اتركني فما عدت أنفعك . أمسكت بيدها فقالت :
أترك يدي.
و بكت كما لو كانت هي من سقط من فوق ذلك الحصان الأسود.
أسلمت ساقيها للريح وغابت في الزحام، أما أنا فقد وصلت إلى طرف الميدان الأقصى عند شارع الجمهورية، رأيت رجال الشرطة وقد أعدوا العدة لتطويق المكان.
حصان أسود راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية عائد خصباك 2016-02-02