الرئيسية |
حوار |
حسن نجمي: الشعر هبة حقيقية لمن يجد إِليه سبيلاً
حسن نجمي: الشعر هبة حقيقية لمن يجد إِليه سبيلاً
حاورته ديمة الشكر
يحوز الشاعر المغربي حسن نجمي رتبة عالية في المشهد الشعري العربي. وتبدو قصائده على الدوام كما لو أنها مشرّعة، ومفتوحة صوب حديقة سحرية وسرية، نظرًا إلى كثافة الشغل فيها، وتلك البراعة في إخفاء حواملها ومصادرها، التي تمتح من ثقافة واسعة، ومن شغف بكل ما يمت للشعر من صلة. قصيدة نجمي بؤرة موسيقية، ملء العواطف والدأب.
* أرى أن في قصيدتك نوعاً من المصالحة، إن جاز التعبير، بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، فأنت تكتب قصيدة نثرية رقيقة غير متذمرة غير صارخة ومشغولة إلى أقصى حد.
مصالحة؟ ما من مصالحة، إِذ ليس هناك أي توتر أَصلاً في أفقي وفي جسدي. أكتب قصيدة نثر أَتطلع إِلى أن أحقق فيها قدراً من الصفاء والهدوء والنبرة الخافتة، وإِنِ استطعت أن أصل إلى درجة من التكثيف والتركيب. وشأن عددٍ من شعراء قصيدة النثر العربية الجدد الجيدين، وأفكر في سركون بولص الذي حضرتني صورته الآن، لا أكتب قصيدة نثر كرد فعلٍ على قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية. بالنسبة لسركون، ليست قصيدة النثر العربية مجرد كتابة تسعى إِلى تحقيق شعريتها عبْر التخفف من أعباء العروض أو نظام التفعيلة. هي ليست نوعاً من التعارض الوزني بل هي تعبير شعري جمالي، مختلف تماماً، عن حالة عميقة من مواجهتنا الكاملة مع عصرنا.
والواقع أن خياري الجمالي واضح. أنا مع قصيدة النثر وبداخلها تماماً، لكنني أَتعلم من الأشكال الشعرية كلها، ومن التعبيرات الفنية والجمالية والإِبداعية كلها. وأؤمن بأن قصيدة النثر العربية تمثل حالة ثقافية بل واقعة سوسيوثقافية ممتدة في الزمن وفي المكان، في النفوس وفي المخيلة العربية الجديدة.
صحيح، يحدث أن نتأَثر بالتجارب التفعيلية المرجعية التي نقرؤها ونصاحبها يومياً مثلما تتأثر هذه المرجعيات الشعرية الكبرى بشعراء قصيدة النثر في الساحة العربية والراحل محمود درويش لم يكن يخفي تفاعله المتبادل مع الشعراء الشباب. إِن الشاعر الكبير الحقيقي، لا يمكنه أن ينأى بنفسه عن التطورات الهائلة التي أنجزتها الأجيال الشعرية الجديدة، وإِلا سيتحجر وينطفئ ويتوقف ماؤه عن الجريان.
* تعتني إلى حد كبير بجمال الأصوات وتناغم الحروف واستعمال المفردات بطريقة دقيقة (كدأب شعراء التفعيلة) ولعل الوزن يحتم ذلك عليهم. لكن، لا نجد ذلك في قصيدة النثر “تعالي المعي كدمعة” أو “شجر سامق يتعانق كالعشاق”.
ذلك لأَنني أكتب وأنا أسمع أذني أَصوات كلماتي. ثم إِنني أحب الغناء ولي شغف عميق بالموسيقات الكونية. لا أثق كثيراً في الكلمات الميتة الخامدة التي تملأ المعاجم العربية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وإِنما أجد نفسي في الكلمة البسيطة العادية التي يمكنها أن تغير شيئاً ما في داخلي، أو تخلق لدي حالة موسيقية. عموماً، أكتب جل قصائدي عبر امتداد شذري ومحاولات متفرقة من التشظي، وذلك في شكل صور وجمل صغيرة، وأحياناً كلمات وحيدة عزلاء تتحول لاحقاً – حين أجلس لأجمع الأَشلاء والشذرات والشظايا – إِلى أركان لا محيد عنها في البناء والتركيب. وعندما تبقى بعض هذه الكلمات خارج هذه القصيدة أو تلك، أَشعر بحزنها وعزلتها، وأظل محتفظاً بها في أوراقي إِلى أَن تجد لنفسها مخرجاً أو أفقاً. وأذكر أن أمراً كهذا تحدث عنه يانيس ريتسوس في قصيدته الشذرية الطويلة “فوق حبل”. كما كتب سركون بولص مرة: “أَكتب كلمة واحدة في دفتري، وأغلقه. حركة تكفي لكي تتغير الدنيا”.
بهذه الصيغة في الكتابة، أصبحت أكتب ببطء أكثر. لم أعد أملك القدرة التي كانت لدي – عندما كنت صحافياً في صحيفة يسارية متوترة المناخ والأفق واللغة والخيارات – على كتابة حثيثة السير. في تلك الأيام، كنت أذهب للبحث عن القصائد وعن السبل الممكنة لاختراع قصائدي. اليوم، أصبح أمري غريباً، إِذ أكتب القليل وأؤمن مع يان سكاسل بأن الشعراء لا يخترعون القصائد وإِنما هي في كل مكان، عليهم فحسب الكشف عنها. كأنه أصبح علي أن أرفع حجراً وأخرج النبتة المطمورة. وبعد ذلك، يبدأ العمل الحقيقي على تلك اللقيات في ورشة الكتابة الشخصية. أكتب وأعيد، أكتب وأعدل، أكتب وأمحو، أكتب وأغير مواقع الأسطر الشعرية والكلمات. وبالتالي، لتكتمل قصيدة تتحصل لدي خرائط ملونة من الكلمات والجمل والمقاطع والتشطيبات، كأنها خطاطات فنان تشكيلي يرسم ويصور لا شاعراً يكتب ويلعب في حدائق التلفظ السرية.
أصبحت أحب هذه الخطاطات، خصوصاً حين تنبثق عنها قصائد تبدو لي جيدة. كأنها استعارة عن حالة الشاعر (في إحدى قصائد أبولينير، إن لم تخني ذاكرتي) الذي يعود في المساء إلى البيت، فتتوزع أَطرافه على الغرف، ساق هنا وساق هناك، وذراع في هذه الغرفة وأخرى في غرفة مجاورة، والجذع والرأس وكل جارحة من جسده تتفرق، وفي الصباح تلتئم الأَطراف والجوارح من جديد فينهض الرجل ويمضي إلى عمله.
* أنت من الشعراء المغاربة الذين لهم اهتمام وعناية خاصان بالنساء في القصيدة، لكأنك ما يشبه نزار قباني المغربي، إذ ثمة غزل وقصائد حب وأيضاً ثمة قصائد على لسان المرأة.
عندما لا أستطيع استدعاء المرأة إِلى القصيدة بطريقة غيرية، لسبب تقني أو جمالي، يتماهى صوتانا معاً، صوتها وصوتي، فأتحدث باسمها وأدعها تمثلني. أحس في هذه الحالة كأنني أقلد صوت المرأة بدون أن أزيفها.
يصعب القول إِنني قريب من الأفق الواسع المتخصص الذي رسمه الشاعر العربي الكبير نزار قباني للمرأة العربية وهي تواجه داخل قصيدته، الحالة البطريركية السائبة التي سادت طويلاً ولعلها تنحسر الآن إِلى حد ما في بعض أقطارنا العربية. لكن الأَمر يتعلق في قصيدتي بحالة شعرية من قبيل “ما لا يؤَنث لا يعول عليه”، وهي حالة تأتي وتمضي حسب كيمياء وسياقات الكتابة والمزاج، وحسب تيمات النصوص أَيضاً.
أظن أن الشاعر، عندما تعوزه الحالة الغيرية التي توفرها الكتابة السردية للقاص والروائي والسينمائي والمسرحي، يبدأ مساراً من الدوران حول نفسه فيحتاج إِلى استعمال للأصوات الأخرى، وإِلى تقنية الأقنعة التي سادت لدى عدد وافر من الشعراء العرب مثل أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش مثلًا، وخصوصاً لدى شعراء جيل السبعينيات في القصيدة العربية المعاصرة في المغرب الذين استعملوا أقنعة الاحتجاج السياسي (المهدي بن بركة، عبد الكريم الخطابي، عمر بن جلون، وأنجيلا ديفيس، تشي غيفارا..
علي أن أضيف أيضاً بأن هناك دائماً امرأة ما تهمس في أذني لأحرر صوتها. وفي كل مرة، أحاول تدوين هذا الصوت المنفلت ولا أدركه، فأعاود الكرة من جديد دونما توقف. صوت المرأة لا يستنفد أَبداً. وقد سئل إِدواردو غاليانو، كاتب الأوروغواي الكبير الذي غادرنا مؤخراً، عما قالته عنه الروائية ساندرا سيسنيروس من أنه “يكتب كامرأة”، فقال إِنه حين قرأ ذلك، لم يضحك أو يبتسم أو ما إِلى ذلك بل اعتبر ذلك مديحاً.
إِنها شعرية الأَنا، وإِن شئتِ “الأنا الذكورية”، حين تشعر بنقصها الخاص فتتحرك في اتجاه شعرية الآخر، آخرها الناعم الأَنيق الجميل العميق المؤثر. وكما لاحظتِ ربما فإِن قصائد الحب هذه، خصوصاً في مجموعاتي الشعرية “المستحمات”، “على انفراد” و”أذىً كالحب” ليست قصائد غزل، بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي تجربة كتابة إِيروتيكية بالمعنى العميق للإيروتيكا، أي باعتبارها لعباً واحتفاء بالجسد الأنثوي في حالات عريه المندس في الظل، الإِيروتيكا بوصفها تعبيراً عن جرح عاطفي، عن توقف أو انقطاع في المجاسدة.
مؤخراً ترجمت عن الفرنسية كتاباً صغيراً للكاتب الفرنسي إِيمانويل هوكار “تأملات فوتوغرافية في فكرة العري البسيطة”، وازددت اقتناعاً بأَن العري لا يحيل بالضرورة على الحالة الجنسية أو البورنوغرافية (كما يمكن أن نلمس ذلك لدى نزار قباني مثلاً وهو ما يرفضه بعض نقاده)، وإِنما هو عري بَدَهي، لا يكاد يعلن عن نفسه، لا يقول شيئاً ولا ينْقَال بل ويبدو غريباً عن اللغة. عري عابر كغمامة أو كفراغ، لحظي بلا بداية ولا نهاية، تقريباً لازَمَني. عري لا موضوع له، ولا يندرج ضمن تاريخ ما، وهو من قبل ومن بعد عري مؤنث.
بهذا المعنى، فإِن هذا العري في القصيدة يبقى عرياً فوتوغرافياً يمنح نفسه للنظر فحسب، لا يلمس، لا يخترق جنسياً، وبالتالي لا يُسترخص معه الوضع الاعتباري للمرأة ولا كرامة المؤنث. من ثم، فإِن هذا العري، كما يؤكد هوكار، اختبار للعزلة، والانفعال الذي يوقظه أبدي. كما أَنه لا يحيل إِلا على نفسه، تماماً كما لا تحيل القصيدة إِلا على ذاتها.
بهذا المعنى أيضاً، فإِن قصيدتي عارية ونساؤها عاريات على الدوام. لكنهن لا يمنحن جسومهن لغرباء، لأن عريهن لا مرئي، ولأن نرسيس (وهنا عمق السؤال الذي طرحتِهِ) لكي يرى نفسه، كان في حاجة إِلى انعكاس صورة وجهه في الماء فأرجعه الماء إِليه.
* أنت أيضاً شاعر تستعمل باستمرار تقنية، هي وجود المخاطب، لدينا مخاطب؛ لكأنه قرين، شاعر، صورة أخرى، “ند”. أريد فهم هذه الحالة، ومنها أريد أن أعرف كيف تنظر أنت كشاعر إلى نفسك؟ لعلها أيضاً “التجربة التي تتحدث عن الذات فيما هي تتحدث عن الآخرين”.
بخصوص صيغة المخَاطَب في كتابتي الشعرية فهي في نظري متعددة الأبعاد والإِمكانيات. هناك طبعاً ما أَشَرْتِ إِليه من أنني أَتحدث عن الذات فيما أَتحدث عن الآخر الذي أخاطبه حين أعثر فيه على نفسي وأجد لديه ما يُمثِّلني. ولكنَّ هناك أبعاداً أخرى بالطبع، تشيرين إِلى بعضها في السؤال على كل حال، ولهذا، أريد أن أعرض حالاتي كاملة بهذا الخصوص، على الأَقل كما أَفهم الأمر.
هناك مخاطب غير حقيقي توظف القصيدة تقنية “الأنتَ الأسلوبي” (le tu stylistique) حيث أنتَ لا تعني أنتَ بالضرورة كما نجد أمثلة عن ذلك في الكثير من قصائد رونيه شار وفرنسيس بونج وهنري ميشو، وإنما (الأنت) هنا تتحدث عن الذات، الشاعر يخاطب نفسه ولا يخاطب أحداً آخر. هذه صيغة مطروقة وشائعة في الشعر العربي القديم وفي الشعر الإنساني. ثم هناك المخاطَب الذي يحضر في القصيدة عند اللحظة التي يرفض فيها الشاعر الذات، فيقوم بإِخراجها ليتحدث معها كآخر. كأنني أُخرج من داخلي الشخص الذي كنته وأصبحت أرفضه في سياق جديد مختلف، لأدخل معه في حوار فيما يشبه حواراً عبر المرآة المعلقة على الجدار في غرفة القصيدة. وفي ذلك ربما تعبير واضح عن نقد ذاتي لتجربتي السياسية المصابة بالعطب والمثقلة بالخيبات، نقد للانتساب الحزبي عندما يكون رديئا في الساحة العربية، وللخيارات المترددة التي خضتها بدون حسم أو بدون وعي نقدي كاف أو ما شابه ذلك. –
وهناك هذا الجانب الرائع في صيغة المخاطَب، غير المؤلمة إِن شئتِ، وهو إِمكانية التخفف من الرقابة الذاتية في نوع من الحصول على إِذْن شعري، جمالي ولغوي، لأتحدث في الآن نفسه بضمير مستتر أو بضمير المخاطب مستمتعاً بحالة عجيبة من التلذذ توفرها المسافة مع الذات أو توفرها مضاعفة الذات أَيضاً، بل وتوفرها حالة المحو أحياناً التي تطول الأَنا فلا تبقى إِلاَّ (الأَنْت Le Tu) وحدها كأنك تخرج (ها أنا أستعمل المخاطب تلقائياً، الآن) من جسدك وتدعه وحده فوق خشبة المسرح يواصل دوره.
للأسف، لا أتوفر دائماً على القدرة الخلاقة على محو نفسي تماماً لكي لا تبقى سوى الكتابة البيضاء وحدها التي تحدث عنها رولان بارت في “الدرجة الصفر”. يحتاج هذا المحو إِلى طاقة تحمل هائلة، إِلى خزان من العدم الباطني المحجوب الذي يتوفر عليه كل شاعر حقيقي. ينبغي أن نرتقي إِلى درجة عالية جداً من السمو والصفاء والتقلل من الذات مثل ذلك الذي حققه شعراء وكتاب كبار من أمثال صمويل بيكيتْ وريلكه، وبالأخص فرناندو بيسوا الشاعر الوحيد في العالم الذي لم يقم فقط بمحو ذاته متنازلاً لمخاطَب واحد يمثله في مقابلة المرآة، بل كان الشاعر الوحيد في العالم الذي لم يُوجد أبداً. أعني أنه تخلى عن وجوده، وحتى عن نصوصه لأشخاص آخرين اختلقهم، وشيد لهم هويات، ومنحهم أسماء (ألبرتو كاييرو، ريكاردو رييس، ألفادوري كامبوس)، وميزهم بصفات وميزات، وخص كل واحد منهم بأسلوب خاص به، ومنحه توقيعاً لا يشبه توقيع الشاعر ولا توقيعات الأنداد الآخرين. بمعنى، أن بيسوا تخطى مجرد التنازل لمخاطب أو مخاطبين بل وفر لنفسه حيوات متعددة، حيوات أخرى رآها ممكنة فعاشها متخليًا عن نفسه. ومن ثم خلق أسطورته وعاشها قبل أن يجعلنا نعيشها بعد انصرافه.
* قصيدتك قصيدة عين بالدرجة الأولى، أنت شغوف بالمشهد والمكان، حاسة البصر هي الأقوى في قصيدتك، قصيدتك بصرية.
هذه ملاحظة صحيحة، فقد دأبت دائماً على عد العين حاسة المعرفة الشعرية والجمالية بامتياز. قلت ذلك مراراً، وكتبته مراراً، ولي اقتناع جوهري بأهمية الاشتغال على العناصر البصرية والتقلل من اللغة ما أمكن، أَقصد أن على الشاعر، خصوصاً الشاعر الذي يكتب ما يسمى بقصيدة النثر – وهي تسمية قاصرة ورديئة -، أن يتخفف من ترهل اللغة وتورمها بالأحرى.
لقد نجح صمويل بيكيت مثلاً في تحقيق نتائج أدبية باهرة باختزال اللغة إلى أَبعد مدى ممكن، بل اعتمد الحد الأدنى الضروري من العناصر البصرية. مضى بعيداً وعميقاً إلى درجة أصبح معها يكتب بحبر سري نادر اسمه الصمت. بمعنى ما، هذا نموذج من نماذج كونية يمكننا تمثلها وتعلمها في كتابة القصيدة العربية الجديدة. أظن أن هناك شعراء عرباً حققوا قدْراً كبيراً من هذا الرهان الصعب، وأفكر هنا مثلاً في بعض الأعمال الشعرية لسركون بولص، ووديع سعادة، وصلاح فائق، وبسام حجار، وعقل العويط، وبول شاوول، وغيرهم الكثير على سبيل التمثيل فحسب لا الحصر. هنا إِذن، في هذا الغور البعيد، في هذا المرتَقَى من الصمت يمكن للقصيدة العربية ولقصيدة النثر العربية تحديداً أن تعثر على إيقاعها الخاص وموسيقيتها البديلة.
أهتم كثيراً بالمكان والمشهد الحضري والمنظر الطبيعي، وبالطبيعة الصامتة كما يسميها التشكيليون، أي بالفضاء على العموم، وإِن بدأ التقدم في السن يعيدني إلى سؤال الزمن وأفق الموت. وقد دافعت دائماً عن أهمية تخاطُب الشعري والتشكيلي، خصوصاً في التجربة الشعرية المغربية المعاصرة – ولست وحدي في ذلك على كل حال-. والرهان هنا على الصورة، وإِيقاع الصورة أَساساً: كيف يتخيل الشاعر صوره بصرياً، سواء من خلال ما يراه مباشرة أو يراه ممثلاً أَمامه أو يظن أنه يراه أو يحلم به أو يتذكره أو يُحكى له؟ كيف يمكن استثمار البعد البصري الذي يسبق كتابة القصيدة أو يكون متزامنًا معها (وهذه حالتي في عدد وافر من قصائدي. هل بكتابة الصورة البصرية عبر استرجاعها كحالة إيڤ بونفوا في الشعرية الفرنسية مثلاً؟ أو من خلال وصفها مباشرة مثل حالة الشاعر الفرنسي غيللفيك والكاتب الشاعر جورج بيريك مثلاً عبر التدوين الفوري للمشاهدات.
إِنها عملية مزدوجة تحدث عنها مطولاً إِيتالو كالڤينو في محاضرته الرابعة عن الرؤية ضمن كتاب محاضراته (الدروس الأمريكية: ست مقترحات للألفية المقبلة Lezioni Americane)، أي أن تنطلق من الكلمة للوصول إلى الصورة البصرية أو تأتي من الصورة البصرية إِلى التعبير بالكلمة. “سينما العقل”، كما سماها كالڤينو، التي توجد في داخلنا، وتحتاج بدورها إِلى كتابة وإِخراج ومونتاج
المصدر
حسن نجمي 2017-01-04