حافّة النوم. حافّة التوتُّر | هشام البستاني
هشام البستاني (الأردن):
رجُلانِ يحملانِ نخلةً وينحدرانِ بها إلى أسفل الشّارع. إلى أين تذهبانِ بأُمِّكما أيّها العاقّان؟ أسفلَ الشّارع حاويةٌ للقمامة. الرجلانِ يعودانِ متجاورين. أحدهما يتحدّث في هاتفه الخلويّ، والثاني ينكش منخريه.
امرأةُ بجلبابٍ تمشي وطفلتين، إحداهما تُمسك بذيل الجلباب وتتعثّر باستمرار، لكنّها تظلُّ ممسكةً بالذّيل. الثانيةُ: ما إن تُلقي أمها علبة عصيرٍ فارغةٍ حتى تقفز عليها، وتظلُّ تقفز وتقفز. بينهما ثأرٌ قديم. العلبةُ صارت جزءاً من الشّارع، والبنتُ ما زالت تقفز، وامرأة الجلباب وتابعتها المتعثّرة اختفتا من المشهد.
سيّاراتٌ كثيرةٌ تعبر. بعضها تُسرع ما إن تجتاز المنحنى مثيرةً صوت العجلات وضجيج المحرّك. بعضها يتمهّل ولولا المشاهدةُ لما لاحظت مرورها.
شابٌّ أنيقٌ بنظّارةٍ شمسيّةٍ لامعةٍ يمشي بسرعةٍ مُلقياً نظرةً سريعةً على هاتفه الخلويّ كلّ ثلاث خطوات. لعلّه تأخّر على موعده معها.
إلّلي عندُه غسّالات، ثلاجات، كنبايات، طاولات، حنفيّات، بطّاريّات، حديد مواسير تنكات، للبيع. تمرُّ الشّاحنة الصغيرة التي يتعلّق على جانبها صبيٌّ يمسح بعينيه شبابيك البيوت. الصباحُ حارٌّ والهواءُ ثقيلٌ ولا حركة. لا أحد يريد أن يبيع أثاثه وخردته هذا اليوم.
مزيدٌ من النساء المجلببات والأطفال الصغار. سيلٌ هائلٌ من النساء المجلببات والأطفال الصّغار يصعد الشارع. أعلى الشّارع –بعيداً عن مرمى النظر- مركزُ زكاة الحيّ الملحق بالمسجد.
صوتُ ضحكاتٍ فاجرة. بناتُ ليلٍ في عزِّ الظُّهر ينزلن من سيّارةٍ بنمرةٍ سعوديّةٍ ويرتجُّ الشّارع بضربات كعوبهنّ العالية الحادّة.
آذانُ الصُّبح. آذانُ الصُّبح مرّةً ثانيةً مع اختلافٍ بسيط: “الصلاةُ خيرٌ من النّوم.” آذان الظُّهر. إقامة الصلاة. صلاةُ العيد كاملةً من الآذان إلى الختام.
شبابٌ فوق أحصنةٍ يجوبون الشّارع ذهاباً وإياباً. قطيعٌ من الأغنام يتهادى على إيقاع جرس الكبشِ وهِشْشْشْ… هِشْشْشْ… الرّاعي يَهُشُّهُم عن أشجار الأرصفة وحدائق البيوت، من لا يصلها صوته يصلها حجرٌ ينطلق من يده. أهذه مدينة؟
أهذه مدينة؟
هواءٌ خفيفٌ يدخلُ من الشُّباك والسّتارة تتحرّك قليلاً. من خلفها تظهر النساء المجلببات كأنّ مصنعاً أوّل الشّارع لا يتوقّف عن إنتاجهن. سيارةٌ تبيع البطيخ عالسِّكين، سيّارةٌ تبيع البطاطا والفليفلة والزّهرة، بائع شعر البنات يوزّع صفيرَ مزمارٍ بلاستيكيّ، بائع عرانيس الذُّرة المسلوقة ينادي “دُرَايِهْ” بعد أن يمطّها لتصل من أوّل الشارع إلى آخره. لن تسعها الصّفحة.
هناك نملٌ على طاولة المطبخ. نملٌ صغيرٌ أشقر. هناك عنكبوتٌ بنى بيته فوق زاوية الدّوش في الحمّام. صرصارٌ يظهر بين حين وآخر في البانيو ولا يعمّرُ طويلاً إذ يتلقّى ضرباتٍ من القشّاطة.
أحسُّ بنمنماتٍ على جسمي. أضربُ موقعها بعنفٍ علّني أقتل الحشرة التي تتمشّى هناك بين الشُّعيرات وتُحاول إيقاظي. لعلّها فقط نسمة الهواء القادمة من الشُّباك تلعب بالشُّعيرات. لعلّه دماغي يلعب. لكنّي أضرب رغم ذلك فتذهب النمنمة لتظهر بعد قليل في موقعٍ آخر. وأضرب.
أكزُّ على أسناني. أعرف أنني أفعل ذلك لأن أسناني توجعني فأُرخي فكّي. وأظلُّ هكذا: على حافّة الوعي، حافّة النوم، حافّة التوتّر.
الهواء لا يدخل من فتحات منخريّ. والأصواتُ تعلو وتتداخل وتصير ضجيجاً مشوّشاً. عشراتٌ من طابات البنج-بونج تتساقط بلا ترتيب وتطجُّ عن جدران جمجمتي. حان وقت الاستيقاظ.
أرى الساعة أولاً: 11:23am، ثم أراهم في الغرفة: النساء المجلببات، الأطفال، بائع عرانيس الذّرة، شاحنة شراء الأثاث المستعمل، الرَّجُلين حاملي النخلة قاتلي أمّهما، قطيع الغنم، النمل الصغير الأشقر، بناتُ الليل، السّيارات المسرعة وتلك المارّة بهدوء، المصلّين، والصّداع.
لماذا تنامُ إلى هذا الوقت؟ سألت امرأة اختفت خلف سواد أرديتها واستمرّت في طريقها دون أن تنتظر إجابة.
لماذا تنام عارياً؟ سأل الصبيّ المتشعلق بطرف شاحنة الأثاث المستعمل.
ما هذه اللصقة الغريبة على أنفك؟ سألت بنت الليل.
والنّمل يصعد السّرير بهدوء.
أغمض عينيّ وأسحبُ نَفَسَاً.. نَفَسَينِ، وحين أفتحهما مرّة أخرى أرى السّاعة أولاً: 12:09pm. يكونون قد ذهبوا كلّهم. كلّهم باستثناء الصُّداع. والضجيج القادم من النافذة لا يتوقّف.
آخذ حمّاماً سريعاً. أرتدي ملابسي. أربعُ رشّاتٍ من العطر. أُشغّل السيارة ومعها يخرج صوت Foo Fighters من السمّاعات. صُراخ ديف جروهل العالي: Who are you? وأَتحرّك.
صوت قيثاراتٍ وأكورديون تنضافُ إلى الكتلة الرخوة للضجيج القادم من الخارج. أرفع رأسي فأشاهد سيّارتي تمرُّ ببطءٍ وأنا خلف مِقْوَدِها مرتدياً نظّاراتي الشمسية هازّاً رأسي مع الإيقاعِ وأختفي خلف زاوية الشّارع.
Wind me up and watch me spin
Watch me spin
Watch me spin
مزيدٌ من النساء المجلببات. مزيدٌ من السيارات. ولا صوتَ عُصفورٍ واحد.
السّاعة؟ السّاعة 1:16pm. أُغمض عينيّ. أرى رجلينِ يحملانِ نخلةً وينحدران بها إلى أسفل الشّارع.
إلى أين تذهبانِ بأُمّكما أيها العاقّان؟
حافّة النوم. حافّة التوتُّر راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية هشام البستاني هشام البستاني (الأردن ) 2016-01-21