حاطب حُبّ | ياسين عدنان
ياسين عدنان (المغرب):
لا يمكن لإنسان أن يحتمل الوحدة مهما بلغت درجة يأسه وحنقه على العالم. دائما نحتاج إلى حسٍّ نستجير به من عنف الصمت، حتى لو كان مجرد نباح كلب في خلاء. ربما أنا الشخص الأنسب لهجاء الصمت والعزلة والبرد. فأنا أعيش وحيداً بهذه المدينة القارسة المنزوية عند قدم الجبل منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. كل مشاريعي هنا آلت إلى الفشل. فشلت في الزواج من نجوى بنت السيد مشكور مدير مكتب البريد. أبوها رفض بشدة أن يعطي ابنته لشخص لم يسبق أن صادفه في المسجد وكأنهُ من جنسٍ آخر، دخولُ المساجد محرَّمٌ عليهم. فشلت في مشروع المكتبة التي فتحتها لمدة عشرة أشهر لم أبع خلالها ولو كتاباً واحدا. اكتشفت ألا أحد يقرأ في هذه المدينة وأن المجنون وحده من يفكر في أن يبيع أهلها كتباً. وفشلت أيضاً في الانتخابات البلدية التي لم أحصل فيها ولو على صوت واحد بما في ذلك صوتي. لأنّ فترة الحملة الانتخابية كانت كافية لإقناعي بقذارة اللعبة ولا جدواها. وهكذا تخليت عن الحلم الذي من أجله ولجت غمار هذه المعمعة: أن أغرس بضعة أشجار في شارع المدينة الوحيد دون أن أحتاج رخصة من أحد. تخليتُ عن هذا الحلم بيني وبين نفسي في اليوم الثاني للحملة وقاطعت الانتخابات بضمير مرتاح. كل مشاريعي بهذه المدينة باءت بالفشل. والشيء الوحيد الذي أفلحت فيه هو أن أكرههم جميعاً. كرهت المدينة وأهلها ابتداءً من محمّاد البقال الذي نادراً ما أجد عنده الخبز في منتصف النهار، وعوض أن يخجل من نفسه يصر على أن يحكي لي قصصاً سخيفة لا تنتهي. وكما لو أنه يتعمد إغاظتي، يختار بعناية المواضيع الذي تقرفني تماماً. دائما لديه فيها الجديد. ودائما ينجح في حقني بالمزيد من محلول الملل. في هذه المدينة كنت أحس دائما بالبرد. اقترحت عليَّ أمينة أن أسكن الحي القديم. فالبيوت الطينية هناك أكثر دفئا. أجبتها أنني طبعاً لا أطيق البرد، لكنني أكره الصراصير أكثر. قالت أمينة إن الصراصير الحقيقية موجودة في رأسي وهي لا تفهم كيف يمكن لشخص مثلي أن يبدو طبيعيا ومتوازنا وهو يكره العالم بهذا الشكل.
ولكنني لا أكره العالم يا أمينة؟ كيف سأشرح لك ذلك؟ إنني أحب الله وملائكته والرسل واليوغورت المنكَّه بالموز والنبيذ الأحمر في الليالي الباردة كهذه. أنتِ أيضا أحبك في الشتاء حينما يتحول جسدك إلى حطب طري. وفي الصيف، حينما ترتدين قميصك المشجّر ذا اللونين البرتقالي والأزرق السماوي والتنّورة البيضاء القصيرة. وأحبك صدقيني في ملابس أخرى، لكنني لا أقولها لك. أكون مستغرِقاً في حبك يا أمينة ولهذا لا أقول شيئاً. الحب كصلاة الظهيرة يا عزيزتي، يجب أن نحتفي به في السر. لكنني طبعاً لا أحب 24 على 24. لست ماكينة أحاسيس. وأنت تخطئين حينما تطلبين مني المستحيل. المستحيل هو أن أحبّك صباح مساء.. وأن أكرّر ذلك على مشاعرك صباح مساء. هكذا بدون مناسبة ومن دون نبيذ. مشكلة أمينة الحقيقية هي أنها تريد مني أن أحبها ولا تطالب نفسها بأي شيء بالمقابل.
وأنت يا أمينة أحبيني قليلا أنت الأخرى؟
ولكنني آتي إلى بيتك مرتين في الأسبوع وأنام معك ورفضت أن أتزوج بمحسن المعلم من أجلك، ماذا تريدني أن أفعل أكثر؟
ماذا ستفعلين؟ أحيانا أشعر أن المرأة فعلاً من جنس آخر. تصير غبية تماماً في اللحظة التي تطالبها فقط ببعض التركيز، وحين تكون أنت قد تعبت تسترجعُ صفاء ذهنها ولياقتها كاملةً وتشرع في التنكيل بك. أمينة مثلا لم تفهم أشياء كثيرة رغم أنها تتردد على شقتي منذ ثلاث سنوات. أنا مثلاً شخص طيب وبسيط. يكفيني عشاءٌ خفيف وكأسُ نبيذ وامرأة إلى جانبي في هذا البرد لأحس بأنني ملك. لكن أمينة لا تعرف كيف تلعب دور زوجة الملك. ومع ذلك أحبها. حينما التقينا أول مرة في كشك الجرائد المجاور لبيتي كانت تسأل عن مجلة للطبخ. لم أجدها جميلة ولم يثرني فيها أي شيء: جسد كالماء العذب، بلا طعم ولا لون ولا رائحة، تغيب تفاصيله خلف جلابة رمادية، شعر لا هو بالأسود ولا بالأشقر مشدود إلى الخلف بصرامة، وابتسامة فاترة كأنها لممرضة بقسم المستعجلات. لا شيء فيها يثير في الواقع. لكنني بحُكم العادة فقط بدأت أحكي معها عن الطبخ وأصنافه. تحدثنا عن الكسكس والبيدزا، عن اللحم بالبرقوق وطاجين الدجاج بالليمون. ثم صعدت معي إلى الشقة. ولأنه لم يكن في بيتي تلفزيون نتسلى بالتفرج على برامجه مارسنا الجنس. وهكذا بحكم العادة صارت أمينة تتردد على شقتي وتقول لي: أحبك. ولأنني لطيف بطبعي ومُجامِل أقول لها: وأنا أيضاً. لكن بالتدريج ونحن في السرير بدأ جسدها الجني يخرج من قمقمه. كان شيئاً مبهراً. قبل أن أتعرف على هذه البنت كانت تتردد على سريري فتيات جميلات يرتدين تبابين مطرّزة بألوان مثيرة. لكن مع أمينة اكتشفت أن هؤلاء البنات الثرثارات اللواتي يتنقلن بين أسرَّة موظفي المدينة كنَّ بدون خبرة في الغالب. البنات اللواتي يمارسن الجنس كثيراً ويدخِّن سجائرهن من علب الآخرين دون أن يتقيدن بصنف بعينه لسن جديات. ولهذا يبقين بدون خبرة مهما تقاذفتهن الأسرّة. أمينة كانت فتاة محرومة. ربما لم يجاملها أحد قبلي بحديث عن الطبخ وأطباقه. لم يدعها أحد قبلي إلى شاي بالبيت. لكن جسدها بالفطرة فقط، بالفطرة والحرمان وبعض التفاني، كان يفعل بي الأفاعيل. والغريب أنها لم تطالبني قط بالزواج. لم تكن تطلب أي شيء. كانت فقط تريد أن تأتي من حين لآخر وأن تنام معي قليلا ثم تتمدد إلى جانبي لساعات تحدثني خلالها عن محسن المعلم وأبيها المتقاعد وأختها المتزوجة بمراكش وأخيها الذي سيتخرج بعد سنتين طبيب أسنان. ولم يكن لدي مانع من الاستماع لهذه الحكايات. لكن أن تطلب مني من حين لآخر أن أعترف لها بالحب بدون مناسبة ولا نبيذ فهذا أمر لا يُحتمل. صحيح أن المدينة صغيرة ودرجة الانخراط في ممارسة الجنس التي وجدتها عند أمينة غير متوفرة لدى المراهقات المكلِّفات والمُتَكلفات اللواتي كن يتردّدن على سريري قبل صدفة الكشك ومجلة الطبخ. صحيح أن المدينة باردة وأمينة حطب ضروري في فصل الشتاء، لكنني أكره أن يطلب مني أحد أن أعترف له بشيء. قلت لأمينة مداعباً: لست مجرماً لأعترف لك بجريمتي. لكنها لم تضحك. قلت لها، دعيني أقتلك أولا وبعدها سأعترف للمحققين بحبي لك. ومرة أخرى لم تضحك. مشكلة أمينة هي أنها جدية أكثر من اللازم. صحيح أن جديتها وتفانيها يشعلان النيران في جسدي ونحن في الفراش ويُنسياني البرد الذي في الخارج، لكن مع ذلك من حق الواحد منا أن يمزح مع حبيبته، أقصد مع الفتاة التي تتردد على بيته من حين لآخر وتعتبر نفسها حبيبتَه.
لكن يا أمينة، أخبريني لماذا علي دائما أن أعترف؟ لم لا تكتشفين بنفسك إلى أيّ حدّ أحبك فقط من نظرتي، من تهدج صوتي على الهاتف حينما يشتد البرد وتكونين بعيدة؟ لماذا علي أنا أن أقول كل شيء؟
في هذه المدينة عليك أن تثرثر كمذياع دون أن تفعل شيئاً أو تفعل عكس ما تقوله بالضبط. محمّاد البقال يحكي دائماً عن حذقه بالتجارة وحينما انقطع التيار الكهربائي بالحي قبل أسبوعين ولجأت إليه لم أجد عنده ولو شمعة واحدة. مشكور مدير مكتب البريد الذي أعطاني دروسا في الأخلاق والاستقامة قبل أن يطردني من بيته زفَّ درّته المصونة في حفل بهيج لحميد النكودي صاحب حانة “الكثبان السبعة”.
آه يا أمينة لستُ مثلهم، فأنا لا أريد شيئاً من أحد. حتى جسدك الذي يدفئني في هذا البرد خذيه إلى سرير آخر واتركيني أخلو إلى نبيذي أقارع به البرد. أفضل البقاء وحدي على أن أخضع لابتزازك السخيف. أرفض أن ينتزع مني أي كان اعترافات تحت الضغط. لا أريد أن أعترف بشيء. فما رأيك؟ دعيني وشأني أرجوك..
لكنَّ أمينة التي كنت أظن في البداية أنها لا تعرف كيف تلعب دور الملكة، زوجة الملك، ضمتني إلى صدرها بحنان وهي تشهق:
آه يا حبيبي، نم في حضني ودعني أحتويك. كانت تحضنني إلى صدرها، تدفن رأسي بين نهديها، تقبلني في كل مكان من جسدي وهي تشهق وتبكي وأنا كالمصعوق مستسلم بالكامل ولا أفهم ما الذي حصل بالضبط. كانت أمينة مستغرقة مندمجة في الدور وهي تتمرّغ على صدري ودموعها تسقي عشب جسدي. ثم سمعتها تنشج باكية من فرط التأثر ووجهها مدفون بين فخذي:
آه يا روحي، لم أكن أظن أنك تحبني إلى هذا الحد…
أصوات القصة العربية الجديدة: الأرخبيل المتشظي حطاب حب راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية ياسين عدنان 2016-01-21