ترجمة: سعيد بوخليط[1]
في مقابل النقد التماثلي والتأملي، كما الشأن مثلا مع “دي بوز”Du Bos، ريفييرRiviére ، ريمونRaymond ، الذي يوحد عفويا فكر الناقد المتأمِل،بالفكر المتَأَمَّل الذي يدرسه، سواء كان لشاعر أو روائي. سنميز، إذن نقدا ثانيا، يتعلق مثلا بكتابات موريس بلانشو، وأحيانا جان ستاروبنسكي، حيث يتحدد تأويلهم باعتباره وعيا بالمساحة الفاصلة بين الذات الناقدة ثم موضوع نقدها. غير،أن وعيا كهذا،غير ممكن إلا لكون الفكر النقدي لدى ستاروبنسكي وكذا بلانشو، ومن أجل التعبير عنه بشكل أفضل، سيتميز قدر ما يستطيع عن موضوعه.
يقبل، بل يشدد على الهوة الحتمية، القائمة بين الفكر وما يفكر فيه. بذلك، يبحث الذكاء النقدي على ملامسة مستوى من الوضوح، إلى درجة عجزه المطلق عن تقييم موضوعه، إلا مقتربا منه حد الامتزاج به.
مع ذلك، يتم الارتقاء أحيانا بهذا الإظهار للفعل النقدي، نحو درجة يختفي معها كليا وجود الذات المتأمِّلة، ولا يعود هناك من وجود إلا لموضوعها المتأمَّل،الذي يستمر.
يصبح النقد إذن،مرآة عامة حيث الموضوع- ولاشيء غيره – يتبدى في إطار تنظيمه وتركيبه وعلاقات مكوناته وكذا نظامه اللساني.هنا،تتجلى وجهة النظر- مع افتراض،أنها لازالت تتبلورهنا كوجهة نظر- التي يدعي النقد البنيوي اشتغاله بناء عليها.
فعوض، أن يتأكد الفكر كوعي بالنص، سيفرض على نفسه البقاء عند مرتبة مجرد فاحص .نتيجة تخليه، ستنسحب كل حياة ذاتية من هذا النص. لم يعد قط بمثابة الفكر الذي يمنح نفسه موضوعات، بل مجموع موضوعات تقوم فقط في إطار علاقاتها المتبادلة.باختصار،وفق هذا المنحى،سيمنع النقد عن نفسه كل وظيفة، إلاواحدة : إدراك الحقيقة الموضوعية،التي تشكل النص. يغدو النقد،محضر ضبط لكلام،وتدوين لحشد من العلامات.
لهذا السبب، لا يرتاح أبدا نقد من هذا القبيل، إلا حين انشغاله بعمل يوشك المعطى الذاتي،الاقتراب داخله كليا من الإلغاء، مقابل سعي الجزء الموضوعي قدر ما يمكنه الأمر، كي يصيغ بكيفة كلية، ما يتوخى التعبير عنه.
تقدم نصوص “آلا ن روب غرييه”Robbe -Grillet ، نماذج جيدة عن هذا الأدب الموضوعي، قصدا واستثنائيا، الذي يطبق عليه نقد، يمكن تسميته بالوضعاني، مادام يبحث فقط على إبراز كينونة الموضوع. أقصى درجات الموضوعية، مقابل أدنى تجليات الذاتية،أو حسب العبارة الشهيرة لرولان بارت، الدرجة الصفر للكتابة. فضاء ذهني بالكاد، تريد البنيوية البقاء ضمنه .لكن، ماذا ينبغي فهمه من هاته “الدرجة الصفر”؟ أليس الفعل، الذي يختزل معه الفكر تدخله إلى الصفر، من أجل فهم باطني للنص. يقدم الأخير ذاته، في صيغة تعددية لوظائف لسانية،تتشكل بناء على منظومة،وتؤسس بذلك بنية؟.
إجمالا، ما يسترعي الانتباه قبل كل شيء نحو النقد البنيوي، رغبته في عدم منح أي جانب فعال للوعي .لا شيء ، يوجد بالنسبة إليه، سوى حقيقة خارجية محض شفهية :تتحدث خطابا،حيث تتبنى شكله الخاص به ماديا أم روحيا، دون جوهره الضمني .
إذن ينطوي نقد بارت،على جانب سلبي من المهم إبرازه. فمثل قصيدة مالارميه Mallarmé، يسهل تحديده أكثر، بما أهمله قياسا لما تطرق إليه .ما يظهره خلال كل لحظة،بمثابة شيء مهيمن ، يشير إلى غياب وفقدان للوجود .يقول بارت بصدد رواية : “le voyeur ” لصاحبها “غرييه” : (( ليس هناك، أي وصف للتاريخ، فالأخير ينزع نحو الصفر)) .وأبعد قليلا من هنا،لكن دائما بين طيات نفس النص، تكلم بارت عن الحالة الصفر للحكاية الصغيرة، ويمكننا مضاعفة الأمثلة.
لقد أثنى،بارت على روب غرييه، لأنه بحث خاصة كي يعبر عن السلبية،يقول بهذا الخصوص : ((دقة النظرة، محض سلب، إنها لا تؤسس شيئا، أو بالأحرى، تخلق بالضبط هذا اللا-إنساني، الذي ينم عنه الموضوع)). لاشيء إنسانيا، بمثابة خلل في الحضور، يتجلى بإلغاء كل إشارة شعورية،يمكنها تشخيص الموضوع،ومنحه أقل مظهر ذاتي،وفق قصد صريح،يريد الاحتفاظ له بكماله الموضوعي. في كلمة واحدة،الدرجة الصفر للكتابة،اختزال للذاتية إلى العدم،بواسطة لغة تتعالى ما أمكنها ذلك،عن الإحساس والخيال.
من المثير ملاحظة ،أن مجهود بارت كي يسحب إلى اللاشيء والصفر،الجزء الذاتي من النشاط الأدبي، دفعه نحو تبني موقف لا يختلف عن تصور غاستون باشلار، خلال المرحلة التي سعى أثناءها أن يحلل نفسيا فكر رجل العلم. فقد حاول باشلار، تنظيف اللغة من جميع الصور التي ينكشف عبرها فعل الذاتية. لكننا لاحظنا، كيف وصلت هذه الإرادة الباشلارية، إلى موضوعية خالصة، تحولت صوب نقيضها، وكم كان ثأر الذاتية رائعا،ثم الوضع الذي احتلته نهائيا داخل نقده، بعد أن عاشت تجربة الإقصاء.
بالتالي، لا شيء أكثر إيجابية، من التجربة التي بواسطتها عمل أخيرا خيال المادة عند باشلار، على أرجحة الفكر نحو التأمل الشارد والشعور بالذات.
في المقابل، لايقوم لدى بارت-على الأقل حتى اللحظة-أي صنيع من هذا النوع. يستحيل، أن تعثر داخل كتاباته على أدنى شرارة لفعل يصدر عن الفكر، يتحول عبره الأخير عن موضوعاته، كي يتناولها في وضعها المركزي وبداهتها الداخلية.
بالفعل،ليس هناك عند بارت وعي بالذات، ولا كوجيطو. الفكرغير حاضر إلا بغيابه، إنه ذاك المنسي والمستبعد، والمنتقل خلف الصمت. من هنا، التماثل العجيب بين بعض نصوص بارت وبلانشو. من جهة وأخرى،لا يمكن للفكر أن يتكشف أمام الفكر،إلا سلبيا وفي صيغة فراغ.
في عمق البناء العام للكلام،سيتكشف مثل لا-بنية ولا-كلام. كلام، إذن يقتل ، وبنية غير مبنينة، موقع متروك إلى قعر مركز حيز، حيث لا يمكن لشيء ذاتي، أن يكون له مكانا،لاسيما الذات نفسها.هناك، حيث يكتسب كل شيء شكلا.تنزلق، كليانية عالمه الذهني، إلى اللا- شكل.هكذا، كتب بارت :((تعريفيا،يعتبر الكاتب، الوحيد من يفقد بنيته الخاصة وكذا بنية العالم،من خلال بنية الكلام)).
يترتب عن إلغاء الذات، تأسيس الموضوع باعتباره بؤرة حصرية للموضوعية داخل العمل الأدبي.ليس غير الموضوع، من يمكننا تأكيد وجوده، لقد تشكل كليا باللغة،بمعنى عناصره التركيبية فقط. مجموعة وظائف، تتهيكل بعلاقاتها ذاتها. إنه معنى، يتلفظ به، دون أن يكون مصدرهذا التلفظ ،ذات متكلمة.كل شيء يتم،كما لو أنه لكي يتجلى العمل الأدبي، ينبغي بل يكفي وجود صياغة مهيكلة لأقوال دالة، دون ضرورة،أن نأخذ في الاعتبار سواء، الموحي أو المدلول.
يجد، إذن العمل نفسه متوقفا ليس على وجود كاتب، ولا حتى الأشياء الواقعية،لكن فقط الفعل الذي من خلاله تتلفظ اللغة، فإنها تتكفل بنفسها. هكذا، يظهر مع البنيوية، طموح معادل لطموح مالارميه، يتعلق بتعويض الوجود الحقيقي للأشياء والذات،بوجود شفوي،ثم الحقيقة بالكلام.
لكن،إن كان الأدب كذلك بالنسبة للبنيوية، فما مفهوم النقد الأدبي لديها؟ سيكون كلاما على كلام، وبنية للبنية. ندرك، باستمرار مع الخطاب النقدي لرولان بارت، قصدية تأسيس فيما وراء اللغة- الموضوع، للغة ثانية ووسيط لساني. من هنا، ينمحي كل تعيين ملموس، وتتلاشى أي دلالة متعلقة بعالم خارجي، ثم تفرغ الموضوعية الشفهية من كل دلالة خارجية وطارئ، والاكتفاء بالتعبير عن ذاتها بذاتها، من خلال وظيفتها فقط. يصير،النشاط الأدبي،تركيبا لحركات لفظية.
عند هذا المستوى،المقابل لمحور الدرجة الصفر للكتابة،سيتبدى العمل، للناقد عبرغياب مطلق للفردية والذاتية بل والدلالة. لن يكون، من مبرر ثان لوجود الفعل النقدي،إلا بتوخيه إظهار أقصى درجات لا- ذاتية العمل، عبر تخفيف كثافة هاته الذات،وممارسة أقصى مستويات التجريد ثم هذا الانتفاء الغريب لمختلف أنواع الإحالة على عالم خارجي أو شخص، مما يحول العمل إلى حيوان “مديخ” بدلالات مختلفة، لكنها تترابط فيما بينها جميعا، وتنحو نحو مركزية تلفظية باطنية،مثل شعب مرجانية في عرض البحر،تشكل حائلا متواصلا من أجل تحريك لانهائي لمياهه، ومن جهة أخرى، تغمرها مياه البحيرات الشاطئية.
النقد هو إتمام لموضوعية اللغة، يستهلك تلاشيا للذاتي، وتعقيما نهائيا لكل ما أمكن قوله.أيضا، لايدهشنا في شيء ، أن نرى التزاما مثابرا جدا لنقد رولان بارت، بأقصى مستويات التجريد : حتما، ليس التجريد المقتصر على استبداله الأشياء الحسية، بالأفكار المطابقة لها (بارت ليس أفلاطونيا) ، لكنه تجريد آخر، يحجب عن الكلمات الحقائق التي تدل عليها،و يتوخى فقط أن يرى فيها مجرد لعبة لسانية. إنه محض،علم خطاب والذي حين تكلمه، ويتم الكلام به ،يتركب ،منتهيا بملامسة نوع من الانسجام الصوري، بحيث لا يمكن لأي شيء فيما وراءه، التفكير فيه أو تشكيله.
هكذا،نقد بارت، أقل ما يمكن من الذاتية،في سعيه نحو تحققه كعلم كوني للكلام،عبر إلغاء للذات.
إذا،كان طموح كهذا مؤكدا،فهل يجب القول أنه ليس أيضا ببعيد، عن جميع ما يميز النقد المباشر فيما سبق، ثم صار روحيا مع “ريفيير” أو “دي بوز” ،ونقد المماثلة والحضورمع “ريمون” أو “بيغان” ،ثم نقد فينومينولوجي أو قصدي مع باشلار وسارتر وبلينBlin أو بلانشو،فقد بدا وسيبدو حتما ،باعتباره تناولا للفعل الواعي الملازم للنص. نقد ذاتي،متضمن كليا بين طيات فعل بين-ذاتي.
من جهة أخرى،داخل النقد البنيوي أو البارتي، لا يوجد مكان لفعل وعي، أو على الأقل،فعل الوعي هذا،لا يمكن أبدا التصريح به، ولا الإبانة عنه .فالكلام، يشتغل في إطار صمت الفكر. إذن، هل علينا الامتثال لاعتقاد مفاده، أنه مع نقد كهذا وهو نقد اليوم، ثم ربما غدا،سيدوم بشكل لانهائي، صمت الوعي وكذا غياب الذات؟لا أظن ذلك أبدا.
تظهر لنا تجربة ثابتة، أنه على مستوى التاريخ الأدبي وكذا مجالات أخرى، لاتقوم أبدا وسيلة ، تمنع مطلقا عن الكلام الجزء الذاتي للكائن، ونتيجة لإبعاده أو إجباره على الصمت، سيظهر ثانية متجليا بكيفية مغايرة.
كل مساعي،وضعنة الأدب ستؤول في الأخير، إلى إعادة تشييد للذات في الأدب.هل تريدون،جعل الأدب كليا موضوعيا ؟ستنتهون حتما،كي تعاينوا انبثاقا ثانيا،في قلب الوضعانيات الظافرة،لذاتية سيبدو من العبث رفضها أو استبعادها،هكذا الأمر مع موضوعية غوته،وواقعية فلوبير،وعند حركة البرناسيةle parnasse وكذا الوضعانيين.
ستطردون الذاتية، لكنها سرعان ما تعود. حينذاك، ستبدو حتما مختلفة عن نفسها. الإبعاد والإنكار، لهما قيمة تطهيرية. بعد اختفاء الذاتية، ستتجلى ثانية متجردة عن كل خصائصها السهلة وعاطفتها وإفراط شخصيتها. روابط وهمية في الغالب،يظهر أنها تربطها ثانية خارج العمل،بوجود بشري ما وحقيقة بيوغرافية معينة.
تعاود الظهور، مرة أخرى ،ممحّصة ومترابطة، بطريقة مضبوطة أكثر مع بنية الخطاب.إنها، فكر يتكلم، ووعي يستدل على معناه،عبر موضوعاته التلفظية.
لكن،حتى الآن،لايتم مثل هذا التجلي، إلا بكيفية شبه خفية، بل أحيانا، ليس له من مقام إلا في صيغة،قالب مقعر.
باستمرار،تشعرنا أروع دراسات بارت،وكذا التي أنجزها جيرار جينيت ، أكثر تلامذته نباهة،عن حضور سلبي لكنه فعال لذاتية غير مسلم بها.إنها هنا، من خلال الفحولة القصدية للكتابة ،بيد أنها متنكرة تندرج في الهامش والبياض.
[1] –George poulet: la conscience critique ;troisiéme édition ;1986 ;pp267– 272.