خالد العياشي
عاد المؤذنون الثلاثة من المئذنة، وقف الإمام على المنبر، ثم نظر بعينيه لآخر الصف. ثمة أفراد يتوافدون متأخرين. حمحم وضرب بقوة على المنبر بالعصا ثم انطلق خاطبا بلغة بليغة جميلة وصوت حسن، بدا كأن الكل قد لامسه الإمام في وجدانه، فعمّ الصمت، وحالة من الخشوع بين المصلين فكنتَ تراهم قد رفعوا رؤوسهم إقبالا وإجلالا…
بين الخطبتين، انتبه الإمام لرباعي الصفوف الأولى متحسرين بين إخباره بإشارة وبين الصبر على عدم اللغو، منهم من بدأ الابتسامة، ومنهم من اشتد غيظا، حاول الإمام التقاط إشارات عيون تنفتح وتنغلق تحدجه فلم يفلح. قام مرة أخرى، وضرب بقوة بعصا المنبر حتى قفز ضيف تسلل للمسجد، استقطبته النسائم الباردة المنبعثة من مكيفات المسجد، تقدم بسرعة فدخل ينتقل بين أزواج الأحذية فردةً فردةً باستمتاع، بعد أن وجد في الأمر لعبة وتسلية بخفة ودون حسٍّ، وانتهى به التنقل إلى الصفوف الأولى حيث الخزانة ورفوف الكتب.
تحرّك مُسَمِّعُ الإمام بارتياب، لكن احترام الإمام ألزمه مكانه، وظلّ متيقظا حتى أطل الضيف واقفا على طرفيه مختبئا لم يره غير الأربعة الأقربين للإمام ينظرُ إليهم وينظرون إليه، امتعضت وجوههم وأخذت تتلوَّن بخليط من الغضب والضحك المحرَّمِ، فيما لم يتحرك الفأر إلا بعد أن شعر بالملل في مراقبتهم بهدوء فلوى ذيله وصعد المنبر وتركهم على حرقتهم ينتظرون، من الأعلى سقط إلى درج المنبر من شدة ضرب الإمام للمنبر.
انتبه الإمام إلى أن أعناق المصلين تشرئب، وأعينهم تنفلت منه شيئا فشيئا، فكّر أن رؤوس المستمعين تنخفض تدريجيا كلما طال الخطاب، ثم قرّر إنهاء الخطبة. قامت الصلاة والناس في تهامس ووشوشة حول ما يقع.
-
الصبر على رؤية المنكر منكر
-
تبا له، الشيطان لا يتوانى حتى في تسخير أصغر الكائنات.
دخل الإمام الصلاة على غيظ المصلين بعد أن أمرهم بالتراص وحذو المناكب، لكن كيف سيلتزمون وهم على أعصابهم واقفون؟ الإهانة بلغت دفتي القداسة أمام أعينهم، زامِّين شفاههم على مضض وكره صابرين، راقبوا الضيف يفسد يتلف يعطب ما رتب من مدة، وأصبح الكل يفكر بخطة فيما سيفعله بعد السلام.
مع آخر سجدة للإمام شعر بشيء على القدم يقرض جوربه فسلم بسرعة لم يسمعها إلا القليل فصاح بقوة:
-
اللهم نجينا من رهطك…
ثم مد يديه بسرعة لبلغته التي كانت تحت سجاده وقبل أن ينهال عليه بها، سارع المُسَمِّعُ لعصا المنبر وحاصر الفأر داخل زاوية في المحراب وقال: هذا ما كنت أسعى لأخبرك بين الخطبتين، بينما التقط مصلٍّ آخر بجنبهم حجرا للتيمم كانت بجنب المنبر فأطلقها بقوة حتى تطايرت شذراتها، ابتسم الثلاثة حين أيقنوا أن الصخرة أصابت الفأر في مقتل، عندما أراد التأكد، ظهر الفأر يجري بين أقدامهم ودخل تحت الزرابي بسرعة، فصرخ ثلاثتهم إنه هنا… بل هنا… لا لا إنه هناك.
هاج الناس وتحركت أمواجهم مدججة بكل الأحذية، تتدافع فيما بينها وتهوى بالضرب عند كل ظهور واختفاء للفأر بين الأرجل، عمت حالة الفوضى ولم يخرج من المسجد إلا القليل، لا أحد يرفض الاستسلام فالفأر دنس حرمتهم والقصاص منه مطلوب. ساد الصمت وأعيد تقليب الأفرشة، وتفتيش المكتبة ورفوفها، لم ينتهوا حتى ظهر مجددا، لكن ملاحقته واختباءاته السريعة أرهقتهم، مل كثير من المصلين وتعب البعض من البحث فخرجوا، بقي القليل منهم فقط يتلاسن ويلقي مسؤولية الفوضى على الآخر.
-
لو لم يكن المسجد متسخا لما دخل الفأر.
-
أنت السبب، كان عليك التريث وعدم الصراخ عندما رأيت الفأر.
شعر الجميع بحجم فضيحة تورطهم في تخريب المسجد وكيف سيعاد ترتيبه وتنظيمه بعد الفشل في إمساكهم بالفأر الذي كان قد وقف على عتبة المسجد، رفع رأسه يحركها بهدوء صوب أصوات وصرخات وتنابزات المصلين، ثم خرج على آخر جملة لرجل وضع يده على كتاب قرض:
فأر حرر الكتب من قيد القيِّم على المسجد، على الأقل يستحق الاحترام.