منى مرعي (لبنان ):
اتجاه معاكس
وجهها مشوَّه.
الوشاح الأسود الشفّاف المنسدل على شعرها وعنقها لا يغطي تشاويه وجهها المحروق.
شفتاها منتفختان، ممسوختان.
تجلس متربّعةً على عربة خضار: هي، وبعض الخضروات، وطفلها الرضيع بين يديها.
رجل يمسك طرف العربة. يرفع كعب قدمه اليسرى ويلصق وسط خصره بالمقدمة. ترتفع يدا الرجل، فيميل الطفل.
درّاجة ناريّة تقبل مسرعة من بعيد. يصرخ سائقها “مالك يا وليّة” ثم يفرمل. ينظر إلى السائحة التي تسمّرتْ مكانها للتوّ.
ولدٌ يركض في الاتجاه المعاكس لسيّارة التاكسي.
ولدٌ آخر يمشي باندفاع في الاتجاه المعاكس نفسه. يمسك بيده حزامًا من الجلد.
تتحرّك سيّارة التاكسي ببطء، في وقتٍ يدخل فيه إلى مرأى شباكها الولدُ الثالث: يحمل حزامًا آخر من الجلد، يتبع قائده، ويمشي باندفاعته نفسها، وفي الاتجاه المعاكس عينه. كلاهما يرتدي زيّ المدرسة: قميصًا أزرق، وبنطالاً كحليّاً أعوج أكل نصف الطرف من القميص.
ينبئ اعوجاجُ البنطلون على هذا النحو بأنّ الحزام قد نُزع منذ ثوانٍ قليلة. ويطيب لي أن أتخيّل أنّ هناك فارقًا بسيطًا، لا يتعدّى الثانية ونصف الثانية، بين نزع الولدين الأول والثاني لحزاميْهما، وذلك لأمرين: الأول، لأنّ ذلك ينسجم مع تراتبيّة وصولهما إلى مرأى الشباك؛ والثاني لأنه يتناسب مع إيقاع ولاّعة سائق التاكسي التي نُقِرت مرتين لإشعال سيجارة أل. أم.
حزامان يلوحان ببطء.
“ودين أمّي لأضربو!”
يركض الولد الأول ملوِّحًا أكثر بحزامه، يليه الولدُ الثاني بفارق بسيط لا يتعدّى الثانية والنصف.
يمجّ سائقُ التاكسي سيجارته وينفث دخانًا يحْجب المشهدَ الأماميّ.
أدخلُ النفق مصطحبةً دخانَ السائق، وحزامين يلوحان ببطء، وأطرافَ مشهدٍ غير مرئيّ.
هناك لحنٌ ما يتأرجح في آخر النفق… وطيفُ منديل.
دعاة المدن
١٩٢٥: القاهرة أجمل مدينة في العالم
١٩٤٠: القاهرة أجمل مدينةٍ في العالم، تنافسها الإسكندريّة
١٩٥٠: باريس ولندن تنافسان القاهرة
١٩٦٠: القاهرة لم تعد أجمل مدينة في العالم. باريس أجمل مدينة في العالم
١٩٦٥: بيروت أجمل مدينة في العالم
١٩٧٠: سانت بيترسبورغ أجمل مدينة في العالم. لندن أجمل مدينة في العالم
١٩٨٠: فينسيا أجمل مدينة في العالم. نيويورك أجمل مدينة في العالم
١٩٩٠: طوكيو أجمل مدينة في العالم. كامبريدج أجمل مدينة في العالم. سيدني أجمل مدينة في العالم
٢٠٠٠: جزر القمر أجمل مدينة في العالم. مكسيكو أجمل مدينة في العالم. برشلونة أجمل مدينة في العالم
٢٠١٠: برشلونة…مكسيكو… جزر القمر… سيدني… كامبريدج… طوكيو… نيويورك… فينيسيا… لندن… سانت بيترسبورغ… بيروت… باريس… الإسكندريّة… لندن… باريس… القاهرة……
تلجني المدينة برفق
مدينة هرمة. تغازلني، فأفتحُ لها البابَ على مصراعيه
تلجني المدينة دون هوادة. مدينة هرمة، تلهث لإرضاء جسدٍ مثقلٍ بالصور
تلجنى المدينةُ بعنفٍ لا مثيل له. أصرخ. أشدّ بأصابعي، وأعضّ شفتي. أشدّ إيقاع كلّ الصور التي ارتكبتها وارتكبتني
لم أكن في طوكيو يومًا، ولم تطأ قدماي عتبة نيويورك
لم أولدْ في الستينيّات، ولا أعرف شيئًا عن تراتب السنوات وجماليّة المدن
أشدّ إيقاع كلّ الصور، وأعضّ على كلّ الكلمات التي قد تخرج من أفواه أحدهم
أمرّر أظافري وأخدش شموسَ كلّ المدن التي لم تطأها قدماي
هناك مدنٌ لم أزرها. هناك لحظات تأتي على هذا العالم كل يوم – لربما تأتي في التوقيت الكونيّ نفسه، حيث تتحول كلُّ مدن العالم إلى عاهرات- :
عاهرات يبعن أجساداً وخبز.
تعرِّج عابرًا على تفاصيل المدينة، وتلحظ بريق عينيها حين تقذف سائلها ورحيق ناسها في حديقتك.
إلاّ أنك لست سوى عابرٍ يحكّ جسده بفضاء يفقدك جانب الرجولة أو الأنوثة.
كلّ المدن إناث . كلّ مدينة على سطح هذه الأرض أنثى وعاهرة، ولها وحدها ملَكةُ التلقيح.
ما إنْ تلجك المدينةُ حتى تجرّدك من كل شيء، بما في ذلك عضوك الذكريّ أو ذلك الفرج الرطب القابع على حافة السرير، فتصبح كائنًا برحمٍ بلاستيكيّة تجمع لقاحات المدن.
ولن يكفيك اللقاح: فأنت الآن كائن ابتلع المدينة في رحمه واحتجزها هناك.
هي تجرّدك من كلّ شيء فيك: تنزع عنك اللون، ثم تعرّيك، وتضنيك، ولن يشفيك منها إلا الابتلاع.
ابتلعِ المدينةَ كي تشفى. ابتلعِ المدينةَ لتصبح شمشونَ المدن. دجّنْها بصورٍ لم تلتقطها يومًا.
ابتلعِ المدينة، وهذِّبْها بمواقف جاهزة وأفكارٍ لم تخرج إلى العلن يومًا.
ابتلع المدينة، وشذٍّب أطرافها بالأساطير.
تلك المدينة المبتلعة هجينةٌ ولن تكون بعاهرة: لن تلدها. سوف تحبل بها فقط، وتبقيها هناك لسنواتٍ وسنوات في موطن الدفء الأعمى.
المدينة المبتلعة تتحول من عاهرة إلى جنينٍ ينافس الأساطير، ويختنق إلى ما لا نهاية، من دون أن يلفظ النفس الأخير. وأنت قابع هناك برحمٍ بلاستيكيّة، تفتعل العفّة، وتَدنَس بأنانيتك الأرجوانية.
اتركْ للمدينة أن تكون. أعطِها فرصةً لولوجك برفق، بل أعط نفسَك فرصة الولوج هذه.
أعطِ نفسَك فرصة أن تمسَّك المدينةُ بعريها… مدينة تتعرّى لنفسها فقط .
مدينةٌ تدرك كيف تتدرج الظلالُ على جسدها، ثم تقْبل عليك بكلّ ما فيها من قبحٍ وجمال وحبٍّ ونشوة وسفر.
دعها تسافر فيك لتسافر في نفسها أكثر.
دعها تبْحر فيك لتبحر في نفسها أكثر.
دعها تُحابِب بأنفها كلّ إنشٍ فيك لتستعيد روائحها التي فقدتْها حين كانت تعهر لكلّ رجال الأرض فلم تعد تشتمّ إلا روائحَ سائلهم.
فلترَ الندبَ على كتفك اليسرى كي تذكر كمّ الجروح التي حوّلت فضاءها فضاءها إلى تعرّجاتٍ وتضاريس جميلة.
فلتذبْ ملحًا بين أصابع قدميك لتعود إلى نفسها عارية…عارية من كلّ شيء حتى من محاولات الإغراء.
أنت الذي جعلتها إلهةً لك.
أنت الذي أمليت عليها كيف تكون. أنت الذي أمليتَ عليها كلَّ شيء: كيف تفرح وكيف تحزن. وهذا ما يجعلها جميلةً أكثر…
ما يرضيها وما يتعبها..
ما هي الطرق التي يجب تجنبها كي لا يأكلها الذئب كما . أكل الذئب ليلى….كيف تتغذى وكيف تكبر ومتى تنتعش ومتى تحتضر وبأي طريقة يعاد إحياؤها.
أنت الذي حوّلتها إلى عاهرة حين لم تعد تر في جمالها سوى جمالٍ صُنع ليجعل عضوك الذكريّ أكثر انتصابًا، فلم تدرك أنّ في جمال المدن يقبع حزنٌ وفقرٌ وهدوءٌ غير مرغوبٍ فيه أو صخبٌ عارمٌ لا منأى عنه وأحاديث بالية بجملةٍ مفيدة واحدة فقط.
ابصق المدينة من رحمك؛ فأنت لست سوى عابر سبيل.
فلتجرّدْك تلك المدينة، التي اكتشفتْ نفسها للتوّ، من كلّ شيء.
فلتنزعْ عنك كلَّ عاداتك اليومية وأفكارك المعلَّقة… لا لشيء إلا لكي تجعلك تجول خفيفًا في شوارعها.
لا تملك المدن أنانية ناسها
ألا إنك لست سوى عابرٍ سبيل…لست سوى سائح في مدينة لن تكون لك يومًا.
مدينةٌ تتوه عن نفسك فيها لأيام، ثم تعود لتتوه في مدينةٍ أخرى.
عليك أن تتوه وتتوه في المدن، حتى تتوه عن نفسك تمامًا، ولن تجدها إلا حين تعود إلى مطار بيروت.
نسخة منقّحة عن نفسك تكشف عن ذاتها في اللحظة التي يسألك فيها ضابطُ الأمن عن جواز السفر. تقف مذهولاً أمامه ويطيب لك أن تستغيث به وتبوح له بجملة واحدة فقط:
“لا بد من وجود فِرقٍ لمكافحة دعارة المدن!”