الرئيسية |
سرديات |
تقاعد: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي
تقاعد: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي
حنان الدرقاوي
“لم أتخيل التقاعد بهذا الشكل. تصورت أنني حين سأتقاعد سأكون حرة سأسافر وأمارس هواياتي التي لم يكن لي الوقت لممارستها. اشتغلت أربعين سنة ستة وستين ساعة في الأسبوع، كل ذلك وأنا أحلم بالتقاعد المريح، بالسفر، بالرقص وبمشاهدة الأفلام”.
هكذا بدأت رشيدة بوحها في حصة العلاج النفسي. أصيبت منذ ست سنوات بمرض نادر في العيون جعلها لا ترى غير ظلال الأشياء. عملت مع زوجها الذي كان يملك شركة لبيع السيارات. اعتنت بكل شؤونه الإدارية. ربت ابنتيها لمياء ورانيا. لمياء صارت أستاذة قانون في جامعة لاروشيل فيما تشتغل رانيا ببيع العقار. زوحها عبد القادر رجل طيب لكنه ضعف أمام مرض زوجته. أصيب بانهيار عصبي وصار حملا إضافيا تحمله رشيدة بالإضافة إلى العمى.
كنت قد التقيتها في الفسحة. حدثتني أنها تحتفظ بأدوية في حقيبتها وأنها مستعدة لإنهاء المأساة. على الأقل ستموت في المستشفىى. لا تريد أن تنتحر في البيت لأنها لا تريد أن يجدها زوجها ميتة. تخاف على مشاعره.
حزن عارم يسيطر عليها. تبكي طيلة الوقت. تمسك بيد من تحادثه. تحكي قصتها ألف مرة في اليوم، تحكي لكل من تقابله. لم تستطع تقبل المرض. لم تفهم لماذا تصاب بذلك المرض هي التي كانت ترى جيدا. تتأسف على زمن كانت تمارس فيه الخياطة. تخيط ملابسها وملابس زوجها وبناتها. كانت أيضا طباخة ماهرة تطهو من مطيخ العالم أجمع. كل ذلك صار ماضيا وهي تتقدم نحو السبعين من عمرها خالية من الأحلام، أي حلم صار ممكنا لا شيء غير الظلام يحيطها. لم تعد تريد أن تعيش. غادرتها إرادة الحياة ليحل النزوع إلى الموت محلها.
كان علي أن أخبر الطبيب بقضية الأدوية التي في الحقيبة. عليه أن يتصرف ويأخذ الأدوية. ترددت كثيرا في الأمر وفي الأخير لم أخبر الطبيب، كان من حق رشيدة أن تختار الرحيل في اللحظة المناسبة، من حقها أن تنهي حياة مظلمة. كان من الصعب أن أقنعها بغير ذلك. حين تقسو الحياة أكثر من اللازم يجب الإبقاء على الباب مواربا وترك إمكانية الرحيل مفتوحة.
مرت الأيام ولم تنتحر رشيدة. تحسنت أحوالها وقررت تعلم البرايل لكي تقرئ. كانت في سنين عملها تود قراءة أعمال كثيرة لكنها لم تكن تمتلك الوقت. أحست أن زمن التقاعد هو أنسب زمان لتحقيق رغبتها: قراءة روايات القرن التاسع عشر في انجلترا.
التقيتها صدفة في المدينة وحدثتني عن وليام بليك وعن الإخوة برونتي، عن البطل الرومانسي الغامض وعن انغلترا في عهد الملكة فيكتوريا وخيال الراوئيين. كانت تمسك برواية لجان اير مكتوبة بطريقة برايل. قالت أنها توقفت عن الأدوية وستسافر مع زوجها إلى اليونان. صحيح أنها لن ترى شيئا لكنها ستشتم الروائح وسترى بعيني زوجها المحب.
2016-11-04