ابتسام عازم
كيف يمكن أن تروي جزءاً من تاريخ مدينة، على مدار أربعمئة سنة، وتشرح رمزيتها العالمية عن طريق الأعمال الفنية والأثرية؟ هذا ما يحاول إنجازه معرض حول القدس يحتضنه متحف المتروبولتان العريق في نيويورك. والمعرض الذي يستمر حتى 8 من يناير/ كانون الثاني 2017، بعنوان “القدس 1000 – 1400: كل شعب تحت السماء”. يعرض فيه حوالي 200 عمل فني وأثري تغطي الفترة ما بين القرن العاشر ميلادي إلى القرن الرابع عشر ميلادي (1000 – 1400). واستعار المتحف الأعمال من أكثر من 60 دولة.
في السلم كما في الحرب، كانت القدس على مر تلك السنوات موطن ثقافات ولغات وديانات كثيرة : الإسلام والمسيحية واليهودية. كما لعبت دورًا ثقافيًا مهمًا، ليس لمكانتها لدى الديانات التوحيدية ورمزيتها الدينية فحسب، بل كذلك بسبب أهميتها التجارية والرمزية وتمكنها من احتواء خليط ضخم من الثقافات والبشر، على الرغم من صغر حجمها، لتشكل مصدر إلهام للمبدعين والعلماء وقطبا يجتذب المريدين.
200 عمل تتنوع بين الرسومات الفنية والكتب والتحف والآثار والقطع النقدية والخرائط والمنحوتات وغيرها الكثير. ولم تأتِ الأعمال من مدينة القدس فقط، سواء ما خزّنته من كنوز أثرية أو أعمال لم تغادر جدران معابد الطوائف الدينية المختلفة إلا لتكون في حضرة المعرض، بل كذلك من أعمال متنوعة من أكثر من ستين دولة حول العالم لعبت القدس دورًا مهمًا بالنسبة لها. وعند التجوال بين تلك الأعمال، لا يمكن إلا أن يلاحظ الزائر إغراء المدينة المرغوبة من الحكام والسياح والزوار والحجاج، وكل يعبر عنها على طريقته. يقسم القائمون على المعرض المعروضات إلى ستة مجالات، تعكس شأن المدينة، والدور الذي لعبته في تلك المجالات. وهي: السياحة والتجارة، وتنوع الناس، والقدسية الدينية، الحروب المقدسة، وكرم حكامها، ووعد الجنة.
في بداية المعرض كومة من الدنانيير الذهبية يعود تاريخ بعضها إلى القرن التاسع الميلادي واكتشفت على سواحل عسقلان، في فلسطين المحتلة عام 1948، قبل حوالي العام. ليست قيمة تلك الدنانير، التي يقدر أنها صكت في القرن التاسع الميلادي، باهظة تاريخيًا وماديًا فحسب، بل ثقافيًا أيضاً. وبحسب القائمين على المعرض، فإن الذهب استخرج من غانا وسوق في المغرب وصقل في صقلية (إيطاليا) وتونس والقاهرة، عاصمة الفاطميين الذين حكموا القدس كذلك إلى أن احتلها الأوروبيون خلال الحملات الصليبية (عام 1099) وحكموا المدينة إلى أن استعادها صلاح الدين الأيوبي عام 1187 وحكمها المماليك من بعدها. وكما عرفت القدس البناء والإعمار والازدهار، عرفت كذلك الخراب والقتل والمذابح والكوارث الطبيعية كالزلازل، التي دمرت الكثير من بنيتها التحتية ومبانيها، خلال تلك السنوات.
وينعكس كل هذا في الأعمال الفنية والآثار التاريخية التي يتناولها المعرض. يقول القائمون على المعرض إن اختيار تلك الفترة (1000- 1400) يعود إلى أن القدس بدأت تأخذ مكانة وأهمية عالمية وتشكل إيحاءً ومقصدا لأناس من أطياف الأرض، من آيسلندا إلى الهند، هذا الانشغال بالمدينة “المقدسة” شكل واحدة من الفترات الأكثر ثراءً ثقافيًا في تاريخها. في واحدة من المعروضات نجد نسخة من القرآن كتبت بماء الذهب تزخرفها أشكال هندسية تمتد على طول الكتاب، مكتوبة بطريقة مميزة وتعود للعصر الأموي. ولا بد للزائر أن يقف عند ثريات علقت في مساجد القدس، بما فيها قبة الصخرة، فيها من الزخرفات وجمال زجاجها ما يتركه مدهوشاً أمام براعة صناعها قبل مئات السنين.
والمثير في بعض المنحوتات أو التحف أن أغنياء المدينة آنذاك، على اختلاف دياناتهم وخلفياتهم، خلدوا أسماءهم كجامعين لها وتفاخروا بتحفهم ومجوهراتهم التي نسبت أحيانًا لهم بدل أن تنسب للفنان صانعها. ومن المعروضات الجديرة بالذكر خمس منحوتات من زمن الرهبان الفرنسيسكان في القدس، تم اكتشافها في بداية القرن العشرين. وتم جلبها من الناصرة، وهي أول مرة تخرج فيها من كنيسة البشارة. وتظهر هذه المنحوتات، التي تعود صناعتها إلى القرن الثاني عشر والحكم الصليبي للمدينة آنذاك، براعة وحرفية في صناعتها كما خيال صانعها الخصب والعلاقة الشائكة بين الفن والدين آنذاك، حيث تجسيد “الخير والشر” بالمفهوم الديني في بعضها.
كان يمكن للمعرض أن يبقى في حقباته التاريخية التي أخذ على عاتقه تصويرها ببراعة وإثارة. وقد يختلف هذا المؤرخ أو ذاك مع بعض القراءات أو حتى مع اختيار هذه الفترة دون غيرها، لكنها ستبقى اختلافات في حدود العادي. لكن القائمين على المعرض آثروا الربط، غير المباشر، بين فترات من الغنى الثقافي، رغم الحروب التي عصفت في تلك المدينة آنذاك، وبين القدس في يومنا هذا عن طريق 10 أشرطة فيديو طول كل واحد منها دقيقتان. يتحدث فيها شخص من أهل القدس أو الساكنين فيها، عن مهنته التي ترتبط بشكل أو بآخر بأحد المواضيع التي تناولها المعرض. قد تبدو تلك المقابلات المصورة “بريئة” وأن كل ما تهدف إليه هو إظهار استمرارية حفظ أهل القدس ومن يقطنونها، على مهن وأرشيفات وتقاليد عريقة وقديمة وجميعها تعيش هناك جنبا إلى جنب. وهذا حقيقي لكن تم إقحامه على المعرض التاريخي الذي يخرج تلك المقابلات من أي سياق تاريخي وواقع القدس اليوم تحت الاحتلال. وكأن الحرب الطاحنة في القدس بالذات لإخلاء المدينة من سكانها الفلسطينيين وتهجيرهم والتضييق على تلك المهن القديمة وغيرها هي أمور عادية لا تستحق الذكر أو لعلها غير مرئية.
أجريت هذه المقابلات مع عدة أشخاص من بينهم، باحثة إسرائيلية في تاريخ المكتبات والمكتبات الخاصة في القدس، وكاتب إسرائيلي تحدث عن أهمية القدس والهيكل، وقسيس من الفرنسيسكان تحدث عن أهمية المدينة من الناحية التاريخة والأديرة، وباحثة فلسطينية في مجال ترميم المخطوطات ضمن متحف الأقصى، وباحث فلسطيني من جامعة القدس تحدث عن محاولاته إحياء علوم الغرالي وتقديم دروس في الأقصى، ومسؤول إسرائيلي من بلدية القدس تحدث عما تقوم به البلدية من أجل ترميم شوارع البلدة القديمة وجعل المرور بأزقتها الضيقة للسكان وذوي الاحتياجات الخاصة أسهل دون المساس بإرثها التاريخي وصورتها! وطبعًا لا يمكن رؤية هذا اللقاء بالذات إلا ضمن بروباغندا ناعمة للاحتلال. لا يأتي في أي من المقابلات العشر ذكر أي صعوبات تواجه أياً من أصحاب تلك المهن تحت الاحتلال. الاحتلال غائب!
هكذا ينشر المتروبولتان هذه الفيديوهات المرافقة للمعرض ويضعها كذلك على صفحته الرئيسية ليقفز من القرن الرابع عشر إلى الواحد والعشرين في تستر على ما يحدث اليوم في القدس من قمع وبطش وتزوير للتاريخ باسم الفن.