سعيد منتسب (المغرب):
1- علبة الموسيقى:
المزارعون ينامون باكرا، يتوسدون زنود زوجاتهم مثلما يتوسد الفرح قشرة الأرض، ويحلمون بحقول الذرة وأشجار اللوز ومياه النهر الذي يزأر بين الجبال.
أفاق قبل الفجر. لم تكن له زوجة، وكان يريد أن يقتلع أركانه الأربعة من القرية. كل أقرانه يعرفون أن الحسين ليس من هواة الحشائش والمناجل التي تلمع تحت ملاءة الشمس. لا يرتاح لتجسسهم على القرويات اللواتي يستحممن في النهر. ولا يصعد مثلهم إلى الجبل لحراسة قطعان الماعز. ولا يهتبل الليل للاشتباك مع الزوجات. ليس لديه زوجة وارفة تغدق عليه لآلئها. يريد فقط أن يبتعد لأنه كان مأخوذا بعلبة غامضة قدمها له رجل غريب.
لم يسبق له أن رأى العلبة، ولم يحدثه أحد عنها. كان يراها تضحك له كثيرا في الحلم، ناصعة وملفوفة في قماش أسود. يسمعها تُفركل، كأن أصفادا تعيق رفرفة ضحكاتها.. وحين يقترب يأتي طائر وينقض عليها بمخالبه مائلا برأسه صوب أبعد نقطة في الجبل.
عش الطائر شاسع وممتلئ بالتيوس والأفاعي والجرذان وامرأة عارية تنسل من العلبة لتسرح شعرها بمشط من دخان. وحين تتعب ترتدي ضفيرتين بطول جسدها الفاتن، وتحدق في قدميها الحافيتين. تبتسم لأكبر تيس وتسأله عن الحسين، ولماذا لا يشبه العشاق الذين يتكاثرون حول سريرها، وكيف لم تره يصعد الجبل لينقذها من الطائر الذي يحمل في قلبه أجمات بأسود جائعة، وهل تُراه يقسو عليها لأنها لم تصنع من شعرها غيمة تؤنسه وتمطر على ظله.
رفع التيس رأسه وهبهب بهدوء قبل أن يتسلق شجرة الدفلى الرومية لينام. أخبرها أن الحسين تعود، منذ صغره، على ترك يده معلقة في الهواء كضابط نازي يؤدي التحية العسكرية. لم ينس أن يقول لها إنه يطوق بذراعيه الصخريتين علبة لا يراها سواه، وإنه يُزَرِّر معطفه قبل كل فجر ليقتفي أثر الوقت الذي ينسكب مرصوصا وبطيئا وراء الجبل.
وما زال يسمعها تضحك في حلمه ونظرته مسمرة في عمود السقف وقش الجدران، كأنه ينتظر أن تظهر من هناك. أراد أن يغمض عينيه ليستعيد صورتها. أفلح في إغماض واحدة، بينما ظلت الثانية تكشكش مثل قطعة الجير المغموسة في الحمض.. وظهرت له علبة تنسل منها أميرة تتنزه في بستان ومعها ثلاث من الجواري الحسان، كل جارية تقطف ضميمة من السنبل والبنفسج والنرجس والريحان وتقدمها لمولاتها ضاحكة ضحكا شديدا. فلما أبصرها شغف بها، وبدأ الغرام يتلاعج في فؤاده ورغب في الزواج بها قبل أن يسبقه إليها لفرط حسنها أحد من كبار الدولة وأعيان المملكة. ولما أبصرته خرت ساجدة لأن صبرها تحول مع هذا الشاب الأمرد الجميل إلى كمشة زبيب، وتحولت العلبة إلى خباء دعته للدخول إليه لتختلي به. وحين دخل أمرت الجواري بالرقص والغناء ونقر العيدان والدفوف، وصارت تلاعبه وتسقيه إلى أن غلبه النوم.
فلما أتى الصباح وأضاء بنوره ولاح، فتح عينيه على جدران مبلطة بالطين والقش. أمامه دولاب من الخشب وطاولة تنتعل قوائمها الأربع ومرآة تكاد لا تعكس شيئا، وأمه التي تحني ظهرها لتوقد الحطب في جوف الفرن الطيني. دائما يستيقظ ليختبئ ساعات تحت اللحاف. يختبئ من رائحة الخبز الشهي والقهوة الرائعة والحساء الذي تفوح منه رائحة الزعتر البري. يختبئ من العجوز المكسورة التي تطبخ وتسقي وتحطب وتقود قطيع الماعز ليرعى في الجبل وتخطب ود الفقيه بأكياس الذرة والبيض وأطباق اللوز، وتناشده أن يعطيها حرزا يحمي ولدها من عروس المقابر التي تمضي به بعيدا لتجرده بلمسة واحدة من همة الرجال.
لم يكن الحسين رجلا. الرجال ينامون باكرا، يتوسدون زنود زوجاتهم، ويحلمون بحقول الذرة وأشجار اللوز ومياه النهر الذي يزأر بين الجبال. لم تكن له زوجة، ولا يميل إلى التجسس على عذارى القرية اللواتي يستعرضن مفاتنهن في النهر. كل ما كان يفعله هو الابتعاد صوب أعمق نقطة في الوادي والجلوس على حجر مكسو بالعشب اليابس. كان ينتظر رجلا غريبا بملامح مهيبة، وينتظر العلبة التي تخرج منها امرأة عارية بشعر أسود طويل، يتدفق عند أقدامها كالموسيقى.
ظل أعواما يحلم ويقتعد الحجر المكسو بالعشب. لا يريد أن يكون رجلا. أراد أن يمضي وراء الجبل ليكون قادرا على النمو والضحك. أفاق قبل الفجر بضوء قليل. لم يودع العجوز المكسورة، تركها نائمة ومثقلة بالهواء القليل الذي يملأ غرفة بلا نوافز. تركها تحلم بطرد عروس المقابر وغاص في الظلام الحالك.. وراءه كان يسمع نباح الكلاب وهبيب التيوس.. وكانت يقبض بيده على بقايا السياج الشائك الذي يطوق بيوت القرية..
كان الحسين يبتعد وفي قلبه تكبر علبة موسيقى لا يسمعها سواه..
2- “فكرون” [i] مهرّب عبر الحدود:
منذ ساعات وأنا مستلق على ظهري الذي تجمَّد. يداي اللتان تقطران عرقا تشدان على حواف الهردال[ii]، وصرخة بكثافة غيمة ديسمبر تطالب بحبل متين لتصعد من الركبة إلى الحلق.
كان على الفكرون المجعد الرقبة الحالم العينين أن يتمرد قليلا، كأن يكسر صدفته المتكلسة على الأرض قبل أن تموت على ظهره. كان عليه مثلا أن يتحول إلى أصبع ديناميت ليستعيد جسده بدل أن يستأجر كوخا متنقلا مدى الحياة.
أخبرتني أمي أنني تخطيتُ تعويذةً شريرة يحرسها عفريت يهودي أكحل، وأن شفائي، كما أخبرها فقيه الحومة، في لتر من حليب سانترال أبخُّه ليلا فوق القادوس، وفي صحن من البسيبيسة الخالية من الملح أنثره على أركان البيت الأربعة بعد إخلائه من الأثاث. كنت محموما ويد أمي تتدلى من جبيني باردة كالرحمة. أراها بوضوح تهش على العفريت الذي يزعق ويهرش بطنه ويتوعدني بغربان تخرج من فمه لتحط على أدراج الدولاب المفتوح الأبواب. كان تارة يختبئ تحت الإزار الأبيض، وتارة أخرى يتحول إلى يد من دخان تهز مقبض الباب.
سمعت من أمي أن العفاريت تتحرش بالصبيان الذين يستحمون ليلا في المراحيض، وبالنساء اللواتي لم يغتسلن من دورتهن الشهرية، وبالرجال الذين يتوفرون على قلوب لئيمة وخرساء، وأنها تخرج من صورتها لتصير قططا تجلس في الزاوية البعيدة لتشاهد التلفزيون، أو كلابا جافة النظرة تحرس صغارها الذين يتعلمون في حلكة الليل كيف يرتدون النار، أو صراصير بشوارب طويلة تشن الحرب على الطماطم والخيار والبقدونس، وعلى شرائح الخبز المغموسة في الزيت..
أمي تأمر أختي الصغيرة بالذهاب فورا إلى أقرب دكان. العفريت يحتاج إلى قرص أسبرو وزجاجة كوكاكولا ليهدأ قليلا.. وأنا أحتاج إلى زورق بطول مترين ما دامت الغرفة تتحول تدريجيا إلى بحيرة زرقاء شاسعة تمتد تحت سرب جائع من الغربان. لا أريد أن أكون شريحة لحم نيء. لا أريد أن أكون جيفة تمزقها مصافحة غير ودية بين الشمس والأرض. طيري أيتها الغربان إلى حقول القمح، طيري إلى بلادك رافقتك الملائكة، واتركيني أبرد على مهل، طيري أيتها الجائعة وضعي جدارا سميكا بينك وبين وسادتي.. طيري إلى الأبد واتركيني أعود إلى حقيبتي المدرسية بسلام..
كان عليه أن لا يكتفي بالخس الطري. ألهوه بالطعام وهم يجرون له عملية جراحية. البنَّاج كان يمسك حقنة بيد، ويده الثانية تمسك مشطا يسرح به شعره. كان يضحك للجَرَّاح المبتور الساق الذي أخرج شيئا يشبه القواقع من إناء، وصار يضعه على ظهر الفكرون قبل أن يرتدي خوذة لحَّام، ويطلب من الممرضة التي تشبه كاميرون دياز أن تناوله الشاليمو الذي يفح نارا زرقاء. كان الخس لذيذا، وغرفة العمليات تشبه صالة صونا.. والجراح كمدلك محترف يتأهب للصراع مع ظهر قطره ألف تعب، وكاميرون دياز تكشف عن أسنان ناصعة وساقين يهزمان كل ناسك متعبد وتمسك بإزار أبيض وبيجامة حمراء مبقعة بالأسود، والبناج مثل مروض قرود يحمل سوطا في يد، وكيسا من اللوز في اليد الثانية.. ولا يملك الفكرون إلا أن يخلع قميصه ويتمدد على المصطبة.
أمي تجلس بجانبي لتعدني بالأجاص الذي أحبه. تستمر في قراءة المعوذتين لطرد الغربان التي احتلت الغرفة بينما كانت أختي الصغرى تلعب مالة وتحدث دميتها المكسورة الذراعين عن أخيها الذي عاف دانون والحلوى وحساء البلبولة ومرق الدجاج. منذ الصباح لم آكل شيئا، وأشعر برأسي المغلف بفوطة مبللة بماء الزهر كأنه فطيرة تنضج في مقلاة.
فتحت عيني وكانت تمد يدها بابتسامة وإجاصتين: “هاك.. كول بوعويدة وحدة، وخلي الأخرى حتى يجيك الجوع.. كنت أوليدي غا تموت، حتى بكينا عليك”. منذ متى يا أمي وأنا مستلق على هذا الهردال تمصمصني السخانة وتنتظرني الغربان؟ منذ متى وأنا أرتدي كفني في أرض الحشرجات؟
أشعر أني عائد من نزال حربي بظهر مكسور وقلب مرضوض. كل ما أتذكره هو أنني أمضيت نصف نهار في ركل الكرة، تارة أتحول إلى جدار لأمنع هدفا لفريق الزيزون، وتارة أرتدي قلب سقراطيس لأتمكن من تسجيل هدف على فريق العوينة. نصف نهار وأنا أركل الكرة وأصطاد الغبار وأعبئ قميصي بالعرق الموحول. فريقي لم يخسر مباراة واحدة منذ سنتين. عدت إلى البيت بعد صلاة المغرب. كان القمر يضحك بكل أسنانه كأنه يشاطرنا الفرح، وقبل أن أمد يدي إلى الماء.. غبت، ابتلعتني أرض وأفرغتني في أرض أخرى. حلمت بأنني فكرون ينام على ظهره فوق مصطبة موتى، وبينما يلتهم الخس بشراهة كان سرب من الغربان يشحذ مناقيره المصفحة ويصوبها نحو الصدفة التي يسيل منها دم أبيض.
3- رجل مبتور القلب:
وهي تواري عرائسها في تراب الحديقة، تذكرت أن عينيه مخلبان.
كثيرا ما كان هذا الرجل الغامض يحدثها عن الفراشات التي كانت تزدحم بها حيطان غرفته، وعن الجمر الغزير الذي كان يزرعه بدأب في قلبها، وعن المقهى الذي كان يرتاده أيام الحرب. لم تسأله أي حرب يعني. كان تكتفي بهز رأسها كتلميذة، وتحصي معه القتلى الذين قدمهم للتماسيح التي تعيش في شقته. كان يحكي، وكانت تضحك ولا تترك الكرسي إلا وهو يتثاءب. لم يكن يدخن. كان كالعادة يخرج من جيب معطفه علبة “مالبورو لايت” ويضعها على الطاولة دون أن يلمسها. يكتفي بنقل الولاعة من يد إلى يد، ويحكي عن الحرب.
قال لها إنه من معطوبي الحرب، وأن اسمه الحسين، وأن قنبلة عنقودية انفجرت في خندقه الرملي وتسببت في بتر قلبه. طلب منها أن تضع أذنها على صدره العاري إن كانت لا تصدق أنه رجل بلا قلب. فك أزرار قميصه على مهل، وحرضها على إصاخة السمع. ليس هناك البتة أي نبض. ليس هناك أي امرأة تحشو وسادته بضفائرها. أخبرها أن حبيبته كانت تدفئ بيته بعينيها الفاضحتين، وأنها المرأة الوحيدة التي كانت تبسط مئزرها لتنظفه من الصحراء التي كانت تغمره، وأنها اليد الذي صنعته، وأنه لولاها لكان شرا آخر..
لماذا تذكرته الآن وهي تدفن عرائسها؟ هل أصبحت مثله مبتورة القلب؟ وأي حرب هذه التي أجبرت على خوضها دون أن تدري؟
كانت ترى أن هذا الرجل يستحق الصفع، وفي لحظة همت بصفعه فعلا لولا أن عينيه مخلبان. هل كانت تدري أن وراء هذا الأمر خدعة إضاءة، كانت مستسلمة تماما لما تفعله، وتمنت لو تنزلق يد هذا الرجل قليلا لتمسك يدها.. لكانت الآن امرأة أخرى. ربما لامست حبا جديدا من محارب مبتور القلب.
فكرت في الأمر طويلا. لن تكون حذرة. ستحاول أن تلامس جسده حين تجلس إليه المرة القادمة. لن تكون التلميذة. ستصير هي المعلمة، وستساعده على خلع قميصه، وستجعله يشعر أن القنبلة العنقودية أصابتهما معا.
أعادت العرائس إلى علبة الكارتون، صححت كحل عينيها بمنديل أبيض مطرز بخيوط زرقاء، وأخذت تحلم بشجرتي قيقب بأنفاس دافئة ومرتعشة، يمشيان غصنا على غصن نحو مطر لا تغيب عنه الشمس.
4- سحابتان رقصان الطانغو
بينما كانتْ أمي تغط في النوم، وضعتُ ثمرة أناناس تحت وسادتها، ثم نزلتُ من السرير متسللا على أطراف أصابعي وأوصدتُ البابَ.. أوصدته من الداخل؟ من الخارج؟ لا علم لي. حين أفقتُ كنت أقف على قدم واحدة فوق كرسي. أمامي نمر، وخلفي تمساح.. وثمة غيمةٌ برائحة الأناناس تبتعد ببطء غامزةً لي وملوحةً بيدها المائيتين.
كنت أسمع صوت الموسيقى، وكلما تقدمت في تأويل ما يحدث لي، أيقنت أن لذلك علاقة بجلدي الذي يجعلني مكشوفا للجميع. جلدي لا يسمح لي بإخفاء أي شيء. مثل بحيرة نائمة في أعلى الجبل، تشف مياهها تحت الشمس إلى درجة أنه بإمكانك أن تغمس يدك فيها لتصطاد سربا من التماسيح.
ما يحدث لي الآن هو أن الجميع يبتعد عني. حتى خدوج جارتنا الأرملة التي كانت حنونة معي وتعدني، إن أنا كنت سخيا مع ما لم يتغضن من جسدها، بقطعة الأرض التي ورثتها عن زوجها.. لم تعد تتسع يدها الدافئة لي، أشاحت بوجهها وصارت تهتم كثيرا بترصيص المنسج وإطعام الدجاجات والنعجة الوحيدة التي نجت من التيفوس. حتى أطفال الحي اتخذوني ضاية يسبحون فيها بمهارة الضفادع، ويملؤون قناني المياه المعدنية بالأسماك والخز والأصداف المكسرة. حتى الفتيات اللواتي بادلتهن الرسائل والقبل السريعة وسهام الحب على جذوع الشجر يتغامزن ويدلقن فوق رأسي ضحكاتهن المرة.. حولنني إلى أكواريوم تطفو على سطح مياهه جثث الوعود والأكاليل والهمسات. حتى أختي الكبرى لم تخف دهشتها حين رأتني، أدارت ظهرها خجلا وقالت: “وليتي بحال شطاطو”[iii] قبل أن تنشغل عني بشطف الأواني النحاسية بحجر الصقلة. حتى روميو، كلب الحارس الليلي، صار ينبحني كثيرا كأنني سرب من الخطاطيف تساقط تباعا بين رجليه الخلفيتين. كلما رآني يعض ذيله ويلف لفات سريعة حول عمود الكهرباء ويعوي وذقنه مرفوعة إلى الأعلى، كأنه يتابع باهتمام سحابتين ترقصان التانغو. حتى إزمرالدا، القطة البيضاء العجوز لم تعد تتكئ على كتفي لتنام، تموء بقوة وتبتعد ركضا كلما شعرت بقدومي. وحين أفاجئها رابضة في المراح تزمجر وتقوس ظهرها قبل أن تستدير وتطير على جناح الذعر إلى سطح البيت. صرت متاحا للجميع. لم تعد لي ستائر لأسدلها، ولست غامضا بما يكفي لأعيش مع الآخرين. تمنيت لو كان لي جلد شجرة، لكنني تذكرت ألاف الفؤوس التي تتدحرج كقردة السيرك في أيدي الحطابين الأشرار. آآآآه، ماذا لو صار لي وبر جدي أسود غامق؟ أنا من برج الجدي، ويلائمني جدا أن أجازف بالصعود إلى الجبل، أشم الأرض وأُبَعْلِل وراء معزة القطيع، قويا ورشيقا وغامضا.. ولا بحيرات تماسيح تعلق.
الفكرون: الغيلم باللغة المغربية[i]