ترجمة إدريس كثير
ليس هناك من موقع أخّاذ بالرباط كقصبة الأوداية، ببابها التاريخي الموحّدي العظيم (الباب الكبير ).
فيه يوم 04 أكتوبر 2016 إلى غاية 24 منه 2016، يعرض الفنان الشاب رشيد باخوز لوحاته..
حرص، منذ البداية، تقديم لوحاته بطريقة فنية احتفالية : إضافة إلى عرض لوحاته لصق الجدران.. كوّن لوحات فنية أخرى بأحرف عربية قدّت من خشب أو من ورق مقوى.. وعلّقت في هيئات مختلفة، ثم وضع الأثافي الاصطناعية في وسط بهو الباب الكبير.. وترك الأحرف تحترق على نار خفيفة هادئة بردا وسلاما… وقدم الشاب كمال عطاررقصة كوريغرافية راقية على ألحان كلمات الشاعر محمود درويش “لاعب النرد”..
بدل قراءة كل هذه اللوحات وهذه الطقوس (وهذا أمر قد يتم في المستقبل) قمت بقراءة المكان (مكان العرض) من خلال لسان آخر…
من الباب الكبير تضيع الرؤية فوق الأسوار المسننة نحو الساحة القديمة لسوق الغزل حيث يعرضن غازلات القصبة والمدينة منتوجات عملهن على شكل زرابي وكبات الصوف وأفرشة يومي الخميس والأحد (لا زال هذا التقليد ساري المفعول إلى يومنا هذا). في نفس المكان بالضبط خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كان التجار يعرضون أسراهم من المسيحيين للنخاسة .
ثم تمتد الرؤية نحو شارع القناصلة، حيث كان يقطن أغلب الأوربيين إلى حدود 1911 (سبعة وعشرون أسرة تقريبا) من ضمنها أسرتي قنصل فرنسا وأنجلترا. كانت الأزقة تحمل اسمهما: (زنقة قنصل فرنصيص ما زالت بهذا الاسم إلى الآن).
بياض السقوف المتراصة أو المتراكبة فوق بعضها البعض يفاجئ البصر ويثيره. يذكّرنا بالحنين إلى الأحجار القديمة لحياة هذه الإقامات السرية المثقلة واجهاتها بالغسيل. لا أحد يكلّ من هذه الصورة الساحرة لمدينة الرباط، لولا خدش أبراج العمارات بشارع محمد الخامس وسوق الورد ومؤسسة البريد لها، دون إغفال الصحون الهوائية ولاقطات البث التلفزي التي تشوه المدينة العتيقة.
لقد مكثت باب القصبة موصودة لمدة طويلة واستخدمت كسجن. ولم تتخلص من أغلالها التي أخفت أفاريزها وموشربياتها وخطوطها الكوفية إلا سنة 1916 على يد موريس ترانشان دي لونيل الذي أعاد صيانتها. باب تحرس (وما تزال) دخول القصبة وتسمح بولوج أبراج الحراسة وبلوغ سراديبها.
يقال أن قصبة الأوداية شيدت على أنقاض برج قديم يدعى قصر بني تارغاس وهو في الغالب من أصل روماني. أسسها المرابطون في عهد يوسف بن تاشفين لمواجه القبائل البورغواتية وازدادت أهميتها مع الموحدي عبد المومن 1150 ويعقوب المنصور في القرن الثاني عشر وسميت بالمهدية تيمنا بابن تومرت ثم رباط الفتح فيما بعد. كانت دائما مركزا عسكريا لمدينة الرباط، خاصة بعد أن استقر على الضفة اليسارية لأبي رقراق الحرناشيون الذين طردوا من إسبانيا خلال القرنين 16 و17 بعد سقوط الأندلس.
غالبا ما كانت القصبة تحتل من طرف المنتصر أثناء منازعات السلاطين أو أثناء النزاعات مع سلا ووصل الأمر في العديد من الأحيان إلى حد قصفها من طرف الوحدات البحرية للقضاء على القراصنة.
إن موقعها فوق صخرة على سطح الواد إضافة إلى حاجزها الخطير الذي يمنع السفن الكبيرة من الدخول يضعها دائما في منأى من أي خطر قد يداهمها.
سميت القصبة بالأوداية إبان حكم المولى عبد الرحمان. والأوداية من قبائل الجيش جاؤوا من الصحراء منذ السلطان مولاي إسماعيل. معروفون بمغامراتهم المغالية في القتل والنهب والسرقة ومواجهتهم للموت دون خوف ولا تهيّب زارعين الفوضى في مسالك البلاد.
في سنة 1820 نهبوا ملاح فاس وعاثوا فيه فسادا. 1832 أسر مولاي عبد الرحمان زعيمهم وأزاحهم عن المدينة وطردهم من إطارات الجيش. 1844 تجمع شتاتهم من جديد وقصدوا القصبة المهجورة آنذاك. مقابل استقرارهم منحهم السلطان أراض فلاحية وقصبة تمارة لماشيتهم وكلفوا أنفسهم بمراقبة قبائل زعير التي باتت تذر الفوضى إلى حدود أسوار المدينة. سنة 1913 تحولت قبائل الأوداية إلى حشود بئيسة تعيش تحت “نوالات” من قصب وبعض الدور الواطئة حذاء المسجد العتيق الذي شيده السلطان عبد المومن.
لكن نهوض الرباط جراء بناء الميناء وازدهار العاصمة، جلب للقصبة يدا عاملة جديدة ونفسا جديدا انتعشت بعده المدينة وبدت في صورة جميلة آسرة، بدروبها الضيقة المصبوغة أحيانا بالأبيض والأزرق وحوانيتها الصغيرة الزاهية بكسرتها (أي خبزها) .
أما المقهى المغربي، فيوجد في ظل أسوار المدرسة العالية قبالة سلا، ركام من رمل تفصلها عن النهر بشاطئ يمتد على طول كيلومترين. مدينة تلمّها حيطان حمراء وتثقبها أبواب عدة، باب بوحاجة وباب مالكة … وفي مقدمتها المقبرة البحرية بقبة “لمصلة”. وبعيدا وراء الأسوار يوجد قبر سيدي بن عاشر .
تنداح الرؤية، من أرضية المنارة القديمة حيث يوجد مخزن مولاي يزيد (1792) لصناعة الزرابي مباشرة على الساحل وأمام الجاجز حيث تنكسر الأمواج وتندثر. في الأسفل توجد صقالة السلطان محمد بن عبد الله (1796) التي بناها أحمد الأنجليزي.
ثم شاطئ الرباط المحدود بلسانين إسمنتيين جوار مطعم الشاطئ غير بعيد عن مطعم برج الدار المشيد على البرج القديم لمولاي عبد الرحمان بامتداد سور بحري يصل إلى المنار المشيد سنة 1919 على برج الصراط الذي بناه مولاي عبد الله في القرن 18. دون أن ننسى زاوية سيدي اليابوري وسيدي التوركي .. ذكريات معلقة بهذه الأحجار الملأى بعطر التاريخ الآسر لهذه المدينة. عند أقدامنا، البرج الدائري، الصاد للأمواج مزينا بمدافعه الموجهة صوب النهر والبحر.
عند غروب الشمس أمام هذا الديكور المدهش أتخيل وصول القراصنة بعد غارة مثمرة: أسرى، خمور، وذهب… هنا التاريخ يشع بأصوات وضجيج وأشرعة مترعة تنكمش على ذاتها وحشود لا تستقر.. إنه الشرق إستيهام الغرب.
ضمن هذه الأحداث التاريخية والتحولات المصيرية للباب الكبير يمكن تأطير معرض الفنان رشيد باخوز.
من كتاب :
- Robert Chastel , RABAT-SALE , vingt siecles de l oued bou regreg, edit.LAPORTE. 3IEME EDIT 2011.