الدكتورة هالة الهذيلي* – تونس
“إشكاليات العرض الفني وآليات النسيج التعبيري كضمانة مشهدية للذائقة المحليّة”
يتسم الواقع الفني المحلي المعاصر بامتيازات جدّ معقدة في مجالات التعبير وتوظيفات البناء الجمالي لكل نتاج ابداعي، وفي غمار ما استنشقته مدينة صفاقس من حبات القرنفل الساطعة في سماء الصالون الوطني للفنون التشكيلية في دورته الغارقة في التاريخ والارث الجمالي المحلّي، فإن الطابع الدلالي للأعمال المنثورة في اركان فضاء الكنيسية القديمة قد تعددت اشكاله وايماءاته ومطارحاته الدلالية.
لقد أقيم الصالون الوطني للفنون التشكيلية بصفاقس في دورته الجديدة بعد سبات دام خمس سنوات وقد انطلق منذ 25 أفريل ليستمر إلى غاية العشرون من شهر ماي 2017. فما هي آليات البناء التعبيري التي احتضنت في هذا النسيج الإبداعي الوطني؟ وكيف تعددت وتجددت وحدة المدرك البصري وانصرفت املاءاتها في إيقاع الفكر التشكيلي الراهن؟ أي سجل رسمته الاعمال المتناثرة كعبق حبات القرنفل في فضاء الكنيسة القديمة على جسد 150 ناتج ابداعي؟ ماهي خاصيات هذا الصالون التشكيلي؟ ماهي الاليات الادائية التي تم الاشتغال عليها؟
يقوم إرث العرض على مقومات فكرية طبعت واقع الأثر التشكيلي وتجددت آلياته الخطابية منذ إعلاء التجربة الانطباعية مكانة وفاعلية مشهدية في تاريخ الفن، وتقوم أسس العرض الراهن المحلي وفق نسيج متشابك من المقومات الزمانية والمكانية وربط أواصر التفاعل بينهما طيلة فترة العرض. فأية دلالة مشهدية اكتسبت خلال حالات العرض المصاحبة لصالون صفاقس للفنون التشكيلية؟ وما هي خاصية العرض ومقوماته التعبيرية؟ ماهي العلاقة المشهدية التي يتم نسجها في هذا الحدث التشكيلي؟ وكيف يتم الفصل بين ما نرنو اليه من إبداعية معاصرة وموروث تعبيري غارق في الكلاسيكيات المفرطة؟ ما هي إشكاليات التفريغ المشهدي في كيانات الأعمال المعروضة وأية دلالة خطابية وبصرية لكل صنف ونوعية تشكيلية؟
لقد تعددت المدركات البصرية في غمار صالون الفنون التشكيلية بصفاقس في دورته المتجددة ل سنة2017، واحتضنت الكنيسة القديمة الواقعة بوسط المدينة وفي مكان جد حيوي، فعاليات هذا الصالون الإبداعي، بعدما ارتادها مثقفو الجهة كمزار ابداعي، وقع كشف ستار “بعده الوظيفي الثقافي” ضمن فعاليات صفاقس عاصمة الثقافة.
إن في هذا الطرح التحليلي النقدي لمقومات فضاء العرض ودلالات المكان “الحاضنة الابداعية، يأخذنا المجال لاستدراك إشكاليات التعبير الفني الراهن واإدراجه في علاقة تفاعلية معه. ليس لصفاقس آليات استراتيجية ذات صبغة “ثقافة العرض الفني” للفنون التشكيلية بحدّ ذاته وفي هذا التجاذب الذي طفق على ساحة الفنانين التشكيلين بالجهة منذ مدة خلت والذين أعرضوا شديد الاعتراض على خروج قاعة خليل علولو من منصبها كقاعة عرض تشكيلي، فإن الآمال استجدت مكثفة في إيلاء فضاء الكنيسية مكانة هامة نظرا لشساعتها ولخاصية فنون عمارتها. فكيف تفاعلت الاعمال التشكيلية التابعة لصالون الفنون بصفاقس مع المكان الحاوي لها؟ اية استراتيجية تعبيرية رسمت خارطتها في أحضان المكان؟ ماهي دلالات الحامل والمحمول في نسج منهاج الذائقة الإبداعية للفنون المحلية الراهنة؟
يحتضن فضاء الكنيسة الكبير والشاسع والمتعدد الاضاءات المتسللة من النوافذ المجزئة والملونة بإخصاب الدائرة اللونية، قرابة المائة والخمسون عملا فنيا، وفي هذا الصدد نبحث في كيفية التوزيع الملائم لهذا الكم المحترم من النتاجات التي تنوعت في فصولها المشهدية لتزخر بالفنون الخزفية والنحت والحفر والتصوير الفوتغرافي والتصوير الخطي والتصوير الزيتي والمائي. لقد رسم صالون صفاقس للفنون التشكيلية لهذه السنة عدة رهانات مشهدية وتعبيرية على حد السواء، فارتقت هذه المبادرة الى مصاف التفاعل المباشر بين المشاهد والاثر الفني المعروض. اذن تنسج بين الفاعل والاثر علاقات تشاركية تنطلق لزاما من الفضاء المحيط والحاوي للأثر المعروض، والقابل، تحت لواء ملزمات العرض من إضاءة وحامل، أن يكون جاهزا للاستهلاك التذوقي الجمالي، فكيف نسجت هذه الحالة الاستهلاكية بين المتفرج والعمل الناتج الإبداعي في هذا الصالون؟
إن الانتقال بين منظومات جمالية مختلفة في أروقة فضاءات العرض يحملنا لزاما للوقوف عند كل عمل، واخصاب اشكاله التعبيرية، واكتشاف خاصياتها النوعية والتقنية والتركيبية اللونية. وبرغم العنوان الشامل لهذا الصالون “حبات القرنفل” والمستوحاة من قصيدة الشاعر الراحل ابن جهة صفاقس نزار فرج الفقيه،[1]، فان التضخمات المرئية التي صبغت اغلب أجساد اللوحات المعروضة كان تدليلا واضحا لهذا الطابع التجريبي الغارق في بنية الذائقة المحلية. لم ينخرط الفنانون التشكيليون والأكاديميون ومرتادي الفن رغبة وحبا واستدامة بحث في منظومة واحدة للتعبير بل كانت التغييرات والمتراوحات بين التجريد والتمثيل ملاذا لأغلب الاعمال. وتكاثرت أيضا مواضيع الجسد المجزئة والملونة والمعالج لطرح نسوي في اعمال نجاة الذهبي وادراكها ضمن تعبيرة خاصة بسياق بحثها الأكاديمي والفني.
امتدت أجساد الكتل العارية في تموجات علائقية تقتسم مساحة اللوحة المتميز بكبرها، وضمن بحور من الألوان القاتمة والمضيئة في أجزاء منها رغبة في نسج حياكة بصرية متضادة بين القريب والبعيد، ليكتمل نصاب الملحمة التفاعلية اللونية بين الرماديات والألوان النقية. عالجت الباحثة نجاة الذهبي وفي اغلب طروحاتها التشكيلية مسالة الجسد النسوي واملاءاته التعبيرية الرمزية في العالم المشهدي المحلي ليكون الناتج تحيينا متراوحا بين التمثيل المستتر تحت غطاء التشكلات التجريدية. ان هذا التفاعل النابع من نظرية إبداعية منهجية لصاحبها يضعنا امام حالات تماهي تذوقي في غمرة هذه النتاجات المعروضة امامنا في كيان الصالون الوطني، وهو ما يلزمنا للوقوف عند استفهامات مشددة عن كيفيات توزيع مادة العرض.
إن القفزات البصرية المجهدة للمشاهد تدفعه للاقتراب والابتعاد من الأثر المعروض، رغبة منه في احتواءه مشهديا وقراءته ابداعيا ونقديا إلا أن التراكم المفرط للأعمال المتجاورة حال دون ذلك. اذن تتجدد اشكال التعبير المسترسل في هذه المناسبة الفنية، لنحيل طرف الرؤية التحليلية للجانب الايسر من الاعمال والتي وجب التنويه بانها قد صنفت في طريقة عرضها بين جزئين. ينخرط المتلقي للأعمال في حضن هذا الصالون في سياق تقسيمي للأثر المعروض وفق رواقين يفصل بينهما ممر، يفتح المجال امام الزائر للتنقل في ارجاء الفضاء، والاطلاع الشامل ومنذ مدخل الفضاء على كوكبة الأثر الفني المعروض .
وزعت الأعمال المثبتة على حوامل خشبية مربعة الشكل ومستطيلة في أحيان أخرى ، بيضاء اللون يخرج من اعلى طرفها منبعا للإضاءة المسلط على الأثر التصويري، وهو ما يسمح للقارء من الوقوف أكثر عند المادة والخامة والشكل المنسوج في الحوامل المتنوعة، إلا أن هذه الطريقة المتوخاة من هيئة الصالون لم ترتقي الى الإفصاح المشهدي المتميز في الضوء والتقديم المناسب في أغلب الأعمال المعروضة، ويعود ذلك خاصة للوحات التي وضعت في الرواق الأيسر من الفضاء والتي كانت فيها الإضاءة جد خافتة تمنع المشاهد من الغوص في مكونات للصورة المشهدية. وحينما توضع اللوحة المعنونة بشهيد غريق في أول الجانب الأيسر من رواق العرض وتحت إضاءة شبه معدومة وتعلق فوق مستوى النظر، فان المتلقي سيوضع في حيرة هذا الاختيار القصدي أم العفوي لطريقة العرض وارتباطه بعنوان اللوحة. تبرز المساحة المتوسطة الحجم للوحة، شهيد غريق وهي قماش على خشب ولصاحبتها عفيفة شوشان، بحرا من اللون الأزرق المتفاوت بين الشدة والتخفيف وتغيب اية علامة تمثيلية في هذا الكيان التعبيري المجرد بامتياز، وتلعب لطخات اللون البرتقالي دورا أساسيا لبناء تكوين الجذب الاشعاعي في بنية العمل ككل. ويقابل العمل التصويري عملين متميزين في الشكل والمادة التعبيرية التي خرجت من إطار الرسم الزيتي او المائي لتتشكل الصورة الفوتغرافية كعملية مشهدية متجددة، يحمّلها الفنان بإضافات تقنية من الفوتوشوب لتكوّن الصورة الفوتغرافية للعمارة نسيجا بصريا متحركا يدفع بإعادة التركيب المشهدي الخروج من حدود اللوحة ومعانقة الفضاء المحيط.
إن هذه التصنيفات التعبيرية والمنخرطة ضمن بحث دلالي لبنية ذائقة تنبع من الهم المحلي نحو إيصاله لنتاج تعبيري يهدف بالأساس الي تزاوج القاعدة الفنية الراهنة بين هذين الشقين من الطرح التشكيلي وهو ما يزج بالباحث القارء الناقد في مجرى وثير بالأسئلة والاشكالات البنائية.
وحينما يقر الدكتور خليل قويعة في نصه الفائز في جائزة الشارقة للبحث النقدي والذي يحمل عنوان “بنية الذائقة الفنية وسلطة النموذج ظاهرة الاقتناء الفني العربي” بان النقد قيمة إنتاجية خلاقة واعتباره ضمانة لأنطولوجية الفن نفسه، زد على ذلك اعتباره تحويلا للمنتج الفني الى بنية وعي تمثلي وقيمة ثقافية، فإننا نحيّن التساؤل المنهك للقارء الفني اليوم عن قيم الفنون المعاصرة والراهنة والمحلية ومدى ارتباطها بقيم المكان والفضاء المخصص للعرض؟ هل أنتجت المادة التشكيلية اليوم نسيجا بصريا متجانسا ضمن متطلبات فن العرض؟ أية دلالة إبداعية لقراءة فضاء العرض واستتباعاته الدلالية وبنية الذائقة في فن اليوم المحلي، صالون صفاقس كمثال؟
لقد راهن الصالون على تطبيق اليات التجميع المثمر والمخصب والولود لناتج محلى من الفنون والتي وان كان هدف تكاثرها قد نجح إلا أن كيفية تقديمه كاثر استهلاكي معاصر في اللغة المشهدية لم يرق إلى ذلك.
لقد حث النص النقدي لصاحبه خليل قويعة على ضرورة استثمار الطابع النقدي الفني اليوم لبنية استهلاكية منتجة للإبداعية المعاصرة، وهو ما يتوجب ضرورة كشف النقائص التي سايرت طرق العرض لصالون صفاقس للفنون التشكيلية، وان كمية الوعي الملزمة بنوعية الأثر الفني واختلافاته بين النحت والخزف والتصويري الفوتغرافي والفيديو، تبحرنا في سياقات فن الادراك والتذوق القائم على اعتبار المنحوتة قطعة مشهدية يؤثر سلبا وضعها على طاولة غلّفت بقطعة قماشية مزخرفة وقدّمت وكأنها ديكور جانبي لم يرقى الى تقنيات التعبير الدلالي للمشهد النحتي وقيم نسجه للفضاء. تعددت هذه الحالات في رحاب الصالون وقدمت الاعمال النحتية باحتشام اقتطاعها للفضاء ولم تبلغ البتة القيمة المضافة للعمل، فكيف نحتفي بالفن الثلاثي الابعاد اليوم؟ وماهي دلالة التنويع في أصناف الفنون؟ هل بقيت الترسبات المرئية القائمة على قبول اللوحة كمثال اعلى للنتاج الفني هو المهيمن على الذائقة المحلية اليوم؟ وهل ان خاصيات فن الفرجة الذي أصبح مربوطا بالطرح الزمني المحدد لافتتاحيات التظاهرة امرا مفرغا من ضرورته ام عدميته؟
أختم هذه المقاربة النقدية بترسبات الصورة المتبقية من عرض قدمته الباحثة سعيدة عروس ضمن افتتاح صالون صفاقس للفنون التشكيلية، حيث وبعد إتمام كلمة الافتتاح وتوزيع الجوائز على العملين الفائزين والمتمثلين في عمل تصويري للأستاذ محمد بن عياد والأستاذ بلحسن الكشو لعمله الخزفي والحاصل على المرتبة الاولي. اذن تجمعت حلبة الجمهور القادم بكل شغف ومحبة وفرحة العودة الإبداعية لساحة الفنون بصفاقس، ويسدل الستار على عرض قياسي. تلبس الباحثة الفنانة من الألوان أحمرها، تضع البعض من المساحيق وترتدّ في المكان بشعرها المكثف وتقتحم الفضاء المحيط بصوة غمغمتها المصاحبة لقصيدة شعرية ثم صورة صوتية تفاعلت معها العارضة بدرجات متعددة.
كانت المندوبة وضيوف الشرف في الحيز الأول من مكان العرض وكانت العارضة المنغمسة في عرض القياس توجه بحديثها وافراغاتها الشعرية النثرية حينا واللامفهومة والمسموعة كأصوات متقطعة حينا اخر. يقف الجمهور حول هذه الحالة المشهدية التي ترقص وتقفز وتصيح في بناء حركة التفاعل الرمزي والبهائي مع الاخر والمكان المحيط، لتعيش تخميره فنية. فجأة وفي حالات تغيير تعبيرات الوجه والملبس تتوقف عن الرقص والحركة لتتوجه الى بعض من الاكياس الصغيرة المتخفية وراء ستار رفيع لتتفاعل الالوان لحظة رشقها وافراغها ككتلة جمالية بصرية. فهل انتهى العرض القياسي ام مازال مستمرا؟ انها استمرارية الانطباع المتميز حبا في الفرجة المستوحاة من قصص لا هوية لها. تحدثت العارضة وشكرت كل من ساهم واطر وصور ونوع الموسيقى، واعترفت بأدائها الأول في فضاء مفتوح. صفق الجمهور طويلا وتكاثرت صور السلفي واسدل الستار على افتتاحية الصالون الذي ابتسم فيه الجميع وشربوا نخب اللقاء وتنفسوا عبق حبات الياسمين لونا وتشكيلا. تتعدد أسئلة حول مفهوم العرض وضرورته الإبداعية في نسيج العرض وعلاقته بالمكان المخصص للعرض؟ ماذا نعرض في عالم الصورة المعلقة فقط؟ اية صورة تنامت فيها خاصية الإبداعية المتجددة للذوق واستتباعاته. نختم بدورنا بقولة الشاعر عبد الرزاق نزار “تعب القرنفل في انشطار الشمسِ”، انه تعب التوافقات الغارقة في البحث عن ذائقة جمالية محلية ترنو للعالمية وتقلص ازمة المرور من الحداثة للمعاصرة ، ليضمن الفنان حصوله على صك المرور وادراكه لزاما لمقومات العرض واكسابه طرحا تكوينيا نقديا جماليا لكل من الأثر الفني ولحظة عرضه والتفاعل به ومعه، لتكون الحياة الإبداعية في غمار المدلولات النقدية البنائية، جديرة بان تعاش وتكتسب وتتجاوز نحو الأفضل.
هالة الهذيلي بن حمودة، متحصلة على دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون، مساعد بالتعليم العالي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة.
[1] عبدالرزاق نزار فرج الفقيه. ولد في مدينة صفاقس (ساحل تونس الشرقي)، وفيها توفي 1946_2003.،عاش في تونس. تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الكسندر دوماس بصفاقس، وتعليمه الثانوي بالمعهد الثانوي طريق العين، وتخرج فيه (1966) من شعبة ترشيح المعلمين. عمل بالتدريس في عدد من المدارس الابتدائية بتونس (العاصمة) وغيرها حتى استقر في صفاقس. كان عضوًا في نادي أبي القاسم الشابي بالوردية، ونادي القصة والشعر بصفاقس، وكان من مؤسسي جمعية الدراسات الأدبية بصفاقس، وعضوًا باتحاد الكتاب التونسيين. شارك في عدد من المهرجانات في مصر والجزائر وليبيا، وكرم في عدد منها. الإنتاج الشعري: – له ديوان بعنوان: «عائشة في زمن التحولات»، وله قصائد نشرت في عدد من الدوريات، منها: الحب – قصيدة الموت – مجلة الحياة الثقافية – تونس – مارس 1997، وله قصائد مخطوطة.