سعد محمد رحيم
الهرب | سعد محمد رحيم
سعد محمد رحيم (العراق):
لتوّي أدركتُ أن الآخر الذي ظلَّ يراقبني منذ ساعتين هو أنا، أيضاً!! هذا الإدراك المفاجئ ملأني بالخوف والحيرة، إذ ما الذي عليّ أن أفعل الآن، وهو هناك، على مسافة مترين مني ليس إلاّ. واقف بنظرته الباردة الحيادية، لا يتحرك فيه سوى أجفانه. يحدق بي كما لو أنه إزاء حيوان يحتضر.. في يده شيء ما، لا أتبينه، على وجه التحديد. أتراه عصا أو رشاشاً أو سوطاً؟. أو لعله لا شيء بالمرة! وأنا أنزف.. الألم في جنبي، وفي عيوني الدمع، لذا لا أراه جيداً.. طاقتي مستنفدة ولا أقدر على رفع يدي لأمسح دموعي.
هو لا يشبهني كثيراً، أو هو لا يشبهني على الإطلاق. من يدري فأنا لا أبصره بوضوح، فلربما يشبهني، لكنه ( أنا ) في نهاية الأمر. هذا ما أستطيع أن أحسه بقوة، وأن اقتنع به؛ هو أنا على وجه اليقين. ولكن لا شيء يؤكد بأنني أنا ـ سعيد بن رشيد العطار ـ هو، وفيما إذا كان يحمل الاسم ذاته، أو يحمل أي اسم، أو إنْ كان بحاجة إلى اسم، أي اسم؟!!. أهذا اسمي حقاً، لست أذكر غيره.. شيء غريب أن يخطر لي أن اسمي هو؛ سعيد بن رشيد العطار. كأنني على ثقةٍ من هذا.. أفكر؛ ولكن لماذا سعيد وأنا لم أكن سعيداً في أي يوم؟ أما أبي فلم يكن رشيداً قط في أي من القرارات الكبيرة التي اتخذها من غير حكمة وتحسب، والتي حددت مصيري لاحقاً. ماذا في ذاكرتي عن أبى وقراراته وعن نفسي؟ لا شيء، لست أعلم سر هذه الأفكار التي تبرق في رأسي، هكذا، من غير صلة منطقية مع حواشي الذاكرة.. ذاكرتي صحراء مضببة يتحرك على أديمها الرمل ببطء. ما يخطر على بالي لا أجزم بشأن حقيقة مصدره؟ كيف تتداعى في ذهني الصور والخواطر؟ غير أني مقتنع بما في وعيي.. أعرف ولا أعرف.. وهذا هو مصيري: أنزف على الرصيف. بركة الدم تتسع تحتي وحولي، والألم في جنبي يخفت حيناً ويهيج حيناً آخر. والدموع تشوِّه المرئيات حيناً، وتوضِّحها، بأكمل ما يكون الوضوح، حيناً آخر. تجعلها في غلالة زرقاء أبداً.
أراه في شبه العتمة منذ مدة افترضها ساعتين.. ساعتان، أو دقيقتان؟ من يدري كم من الوقت نمت، أو كم من الوقت غبت عن الوعي.. إنه يهتم بي، وإلاّ لم لا يغادر ويتركني؟ أتراه ينتظر خروج أنفاسي الأخيرة؟ لماذا لا يجهز عليّ ويريحني وينتهي الأمر؟ وإن كان مهتماً بالمعنى المعاكس؛ لماذا لا يأتي ويحملني إلى المستشفى، أو يسعفني، أو يقول أي شيء ليواسيني؟ إنه هناك بالقرب من جسدي المتهالك، الغارق في اللزوجة والعذاب.. أفكر في احتمال أن يكون أطلق عليّ النار من طريق الخطأ فاعتراه الذهول والخرس. لعله ظنني رجلاً آخر. في هذه الحالة يجب أن يكون هو شخصاً ما وليس أنا. غير أني أشعر بقوة لا يحدّها حد إنه الآخر، الذي هو أنا!. أهي هلوسة الاحتضار؟ أهو مخلوق مخيلة مضطربة، محمومة، أقصد مخيلتي؟.. ذلك هو؛ في يده سلاح ناري، ربما.. أبصره من خلل الدمع ولست أجزم.. إنه يمسكه متصالباً مع جسمه النحيل الرشيق، الطويل.. وفجأة يبدأ بالعزف، يضرب بأصابعه بعنف وعصبية على ما يُمسك، والذي صار الآن قيثارة.. الصوت الطافر منها قوي ومبلبل.. يتفجر الصوت ويتناثر، ومعه يتناثر الدم. وكلما علا الصوت زاد النزف وانقذف الدم مثل نافورة في حديقة عطشى.. يمسك بي الرعب، أحاول أن أصرخ.. صرختي محاصرة بهذا الشيء الحارق والدبق.. بالدم.. أصرخ واهتز.. أحد ما يهزني، استيقظ وإلى جواري امرأة نصف عارية وأنا عارٍ.. العرق يبللني، حلقي جاف وفي بلعومي وخز مؤلم.. تقدّم لي كأس ماء.. أشرب، أحس فيه طعم الدم.. أرغب أن أقول لها ولا أقول، بيد أنها بطريقة ما تفهم وتقول؛ جرحتَ شفتك السفلى..
تمرر إصبعها على ما تظنه الجرح، أو تجعلني أتوهمه الجرح، وفي عينيها يضيء بريق شهوة خاطف.. من شفتي يسري تيار خفيف فأختض.. في جسمي أثر صعقة كهربائية واهنة.. تريني إصبعها.. في طرف الإصبع نقطة دم دكناء.. كأنما لتقطع الشك باليقين؛ أصدقت؟. تمسحه بقماش ثوبها الأصفر.. تترك ثمة لطخة دكناء بحجم قطعة نقدية صغيرة.. أكاد أن أفصح لها؛ ما كان عليها أن تلوِّث ثوبها الجميل، النظيف، لكن الوخز في البلعوم يمنعني.. أفكر أن أسألها؛ من أنت؟ فيها ما يشبهني، غير أن من المستحيل أن أقول أنها هي الأخرى؛ أنا!. ترمقني بمزيج من الشفقة والأسى؛ هل فقدت الذاكرة؟ أنا قرينتك منذ العهود القديمة البائدة.. جسدانا يعرف أحدهما الآخر، عصباً عصباً وخلية خلية. وإذ تقرأ في نظرتي المرتبكة البلهاء الإنكار تضحك.. جرس ضحكها حلو وغريب، يخلو من الألفة، لكنه ليس عدائياً.. هذا المستوى من الحيادية مقلق وقد يفضي إلى مزلق خطير.. عليّ أن أحتاط وأتنبه.. من هي، وماذا تريد مني، ولماذا هي هناك، ولماذا أنا هنا؟.. ذلك الرجل حامل الرشاش أطلق عليك الرصاص قبل ليلتين، منذ ذلك الحين وأنت تحت تأثير المخدر، كان يجب أن نجري لك عملية، أنا صديقتك وطبيبتك، جاؤوا بك تنزف وقالوا أن حامل الرشاش لم يبارح موقعه حتى تأكد أنهم نقلوك إلى مستشفانا، ونعتقد أنه هو من اتصل بالإسعاف.. لماذا أطلق عليك النار إذن إذا كان حريصاً على معالجتك؟ ذلك لغز لا أفهمه.. من يفهمه؟ ربما كنت أنت تملك الجواب.. أتعرفه؟ إذا لم تكن تعرفه فأنت الآخر مثلي لا تعرف أي شيء مما يجري.. أهو قريب لك، صديق قديم؟. أخبرني سائق الإسعاف الذي حملك إليّ أن حامل الرشاش يشبهك، كما لو أنه شقيقك التوأم.. أيكون شقيقك حقاً، توأمك؟.كدت أقول لها؛ إنه أنا! غير أن الكلمات حُشرت في بلعومي.. وقفتْ مثل حفنة حصى دقيقة في الحنجرة، وكنت أود أن أعلمها أنه لم يكن يحمل رشاشاً بل قيثارة مثل تلك التي ورثناها من عهد سومر. ثم لماذا يطلق عليّ؟ “أقول لك أن سائق الإسعاف يؤكد.. أنت لا تصدق، حسناً، وهذا الجرح في صدرك، وساقك التي بترناها، ساقك اليسرى”، وانتفضتُ؛ “ساقي في مكانها.. هذه هي.. أحس بها.. إنها تؤلمني، أشعر بها تتنمل.. أشعر بحكة أبدية في باطن قدمي، أشعر بتصلب في ركبتي”.. “كيف؟”.. تهمس؛ “أفهم بم تريد أن تخبرني.. هذه حالة اعتيادية، ومألوفة.. لا غرابة في هذا، وأقول لك؛ ساقك اليمنى مصابة أيضاً. ولكن لحسن حظك لم تصب بإطلاقة في ذلك الموضع، وإلا كيف نستطيع تعويضك”..
تضحك.. هذه المرأة تكذب.. هراء.. لست مصاباً في أي من ساقيّ.. إنها تبدو وكأنها تعد العدّة لأمر ما، مريب؛ “سأكون صريحة معك، قد نضطر…”
“لا” كبيرة اضطرمت في إهابي وظلت حبيسة ثمة. غير أنها قذفتني ككرة من المطاط، واندفعتُ خارجاً من الغرفة.. وجدتني أركض في ممر طويل نصف مضاء.. كنت أركض ولا أدري إن كانت ساقاي في موضعهما، أو إن كانتا هما اللتان تحملانني؟. هي في أعقابي.. أقدام كثيرة تضرب بلاط الممر ورائي بإيقاع صارم وعنيد.. هذا رواق ضيق وطويل، لا تبين له نهاية.. أركض.. يخرج أحدهم من باب غرفة ما ويقف على مبعدة في مواجهتي. في يده سلاح ناري.. أدلف إلى رواق جانبي، يطلق وتطيش رصاصه ويتمدد الصدى.. هذا رواق يشبه سابقه.. كأنني لم أخرج من ذلك الرواق.. أركض.. يخرج رجل، لعلّه الرجل نفسه، من باب غرفة ما، وفي يده السلاح ويطلق، ويتدفق لحن من قيثارة.. أنحرف نحو رواق جانبي آخر ضيق وطويل والصدى يتسع، يلاحقني.. لست خائفاً لكن الوحشة في القلب تعصرني.. أركض، يخرج رجل أعتقد هو الرجل ذاته والرشاش ذاته والصلية ذاتها، والصدى يتصل ببقية الصدى الأخير.. أين امرأتي؟. ومن باب ينفتح تجرني يد سريعة، أفكر هي يد أنثاي غير أن الوجه غير الوجه.. هو وجه الرجل حامل السلاح الناري، يحدجني باستغراب؛
ـ أنت.
ولا أقدر أن أقول؛ أنا.
الوحشة تلفني.. هو يشبهني، ويقول؛ أنت تشبهني. وأخفق في فهمه.
ـ أنا أنت.
يثبت فوهة سلاحه على صدغي ويتردد الصدى، واستيقظ والصدى يلفني والوحشة.
الألم حارق. أنا الآن في درب تحفّه أشجار عالية، أظنّها أشجار جوز أو سنديان، لا اعرف! وإلى جانبي صبي، كما لو أنه شقيقي الصغير، غير أني لا أعرفه.. ألهث وآلاف الأوراق الصفر تتساقط من الأشجار، على رسلها، مثلما في حلم، مثلما في خيال عاشق ضال، مثلما في لوحة فنان بوهيمي.. تنفرش أرض الغابة بالأوراق، والصبي يقول لي؛ هيا، سنغرق إذا لم نخرج من هنا.. أفكر أن أقول؛ لسنا في لجّة بحر يا صديقي.. يقول كما لو أنه سمع ترددات صوتي الخفي؛ هذا أسوأ يا سعيد.. يعرف اسمي. بيد أني لا أقوى على القيام والحركة.. يقول؛ ستدفننا الأوراق، ستبقى تتساقط حتى تغطي الغابة، وتغيب ذرى الكالبتوس.
هذه أشجاركالبتوس إذن.. أين نحن، وما الذي جاء بنا إلى هنا.. البرد يشلّني والمرض.. كم أنا مريض.. أكاد أبكي ولا أقدر.. أهجس بالموت، وتحاصرني الأسئلة.. يقيمني.. إنه قوي بما فيه الكفاية ليقيمني.. الأوراق الصفر تكاد تصل حتى ركبتي والصبي يحثني على المغادرة والخروج من هذه الغابة الملعونة كما يسميها. لا حول لي، لا بقية من قوة.. يسعى لحملي لكن ثقلي يخذله فيُسقطني.. الأوراق الصفر كأنها مسننة، أحجار حادّة الحواف تجرحني في ألف موضع من جسمي الواهن، ويشتعل فيّ الألم.. يقول لي؛ إنهم يتبعوننا؟ من؟ لست أدري، هم، الأعداء.. من هم؟ الأعداء! وأراه يسقط غارقاً بالدم.. لقد أصابوه.. أكاد أصرخ؛ قم يا أخي.. حبالي الصوتية لا تستجيب.. يفتح عينيه؛ اهرب، اهر… ثم يغلقهما، وتنزل عليه سيماء براءة لم أر مثلها في حياتي.. أركض، والدموع تبلل وجهي.. دموعي زرق والعالم أزرق. يجب أن أخرج إلى طريق عام علّني أجد بشراً.. يجب أن أخرج قبل أن يمسكوا بي. تمسكني من يدي. أفزع.. تقول؛ هيا سيقتلوننا.. ألهث.. من أين جاءت.. في وجهها خوف مريع؛ أحاول أن اسألها؛ أنتِ..
ـ لستُ أنا.
أستيقظ على وجعٍ ووجه بهي.. هذه امرأة أشعر أنني أعرفها منذ عصور. غير أني، في هذه اللحظة، لا أذكر أي شيء عنها.. تغمز لي وتضحك.
ـ اجتزت مرحلة الخطر يا سعيد.
جسمي ناحل، ملقى مثل خرقة على سرير مستشفى.
ـ ستكون بخير.
يتولاني دوار وقلق.. قلق محض لا كنه له.
ـ وسيستعيد جلدك عافيته.
“لو تقول لي ؛ أين أنا”.
ـ ما كان يجب أن تدخل تلك الغابة.
“لو تقول لي؛ من أنا”.
ـ عنيد أنت.
تضحك.
ـ ولم تبرأ من الجنون.. أنت طفل أحمق، ومشاكس، لا تقدّر العواقب، إذ من يذهب في زمن الحرب إلى الشوارع الخلفية، وإلى تلك الغابة سوى الحمقى والمجانين.
لا شك في أنها تقرأ في ملامحي البلاهة وعدم الفهم.
ـ ومن أجل أي شيء؟. كي تعزف!. ولمن؟ لأشباه الأحياء؟!.
أنسحب إلى الدهاليز المعتمة للذاكرة، بحثاً عن صورة هذه المرأة التي يبدو أنني عرفتها يوماً. ولربما خضت معها مغامرة ما، عاطفية، أو شيئاً من هذا القبيل. طالما هي تتحدث هكذا وقد رفعت الكلفة، فهي تعرفني إذن، كما لو أننا أخ وأخت، أو زوجان قديمان، أو عاشقان خبر أحدهما روح الآخر بعمق وقوة.. في نظرتها دفق حنان، وفتنتها أليفة. كأنني عشت في مهب عفويتها سنين طويلة مثل غصن أنضجها ضوء وهواء لم يخونا وجوده ثمة في مهبهما. والضوء والهواء هي؛ هذه المرأة الواقفة على بعد غامض مني.. من نزقي.. توبخني كما يحلو لها، وترضيني بحضورها حتى أنني أحس بأنها لو غادرت واختفت الآن، لأي سبب كان سأختنق، بالرغم من أنني لا أعرف اسمها، ولا أتذكر شيئاً عن أي لقاء سابق معها.. كأنها انشطرت، على حين غفلة مني، من جسدي. كأنها الجزء الأنثوي من تركيبتي. أنثاي المنسلة من ضلعي.. أنا، في احتمال أن أكون قد ولدت بنتاً بروحي ذاتها، الاحتمال الضائع في فوضى المصادفات، أو في تكهن خالق معجزات حاذق.
يخرق سكينة غرفتي صوت رصاص بعيد.. زخات كثيفة تتصل بإلحاح قاسٍ، لكن المرأة التي معي لا تهتم.. لا يظهر عليها أنها تسمع أي صوت. لعلّ الصوت في رأسي فقط، لعلّه آت من كهف ذكرى منسية.. الكهوف المعتمة التي خبأتُ فيها مخاوفي وأمنياتي القتيلة ذات حرب.
ـ سأسمعك شتراوس أو باخ.. أنت تفضّل موزارت وفيروز.. كنت تعشق نجاة الصغيرة ومعزوفات منير بشير والأغنيات البغدادية القديمة.. كنت تقول؛ الموسيقى فيض ألوان.. سيول من ألوان باهرة تغمر النفس، تحررها من ثقلها، وتعطيها فرصة الطيران..
هذه المرأة تعرفني جيداً.. تقول أشياء حقيقية.
ـ كنت تفتح ذراعيك وتصرخ؛ها أنذا أطير.. تحرّك ذراعيك مثل طائر سعيد يوشك على التحليق وتهمس؛ الموسيقى تساعدنا على الخفة.. على الحلم، على تحمل ثقل الوجود.. أن نحاكي الملائكة ونستثير غيرتها.. أن نحب..
أين كان ذلك؟ أتراها كانت معي.. لا شك عندي أنها صادقة.. هذه امرأة لا تتقن فن الكذب.. لو تعلمني أين حصل هذا ومتى، وهل كانت هي معي حقاً، أم أن أحدهم حكى لها؟. لو تتكلم.. لو تُسكت فيّ هذا الفضول الضاغط.. لو تعتقني من إسار الأسئلة.. لو تخبرني أين أنا؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟ وماذا أصابني؟.
يدخل ثلاثة شبان ملثّمين، يمسكها أحدهم من شعرها ويُخرجها من الغرفة.. المفاجأة وحالة الذهول التي اعترتها تجعلها خرساء، أما الآخران فيوجهان فوهتي رشاشهما نحوي ويبدءان بإطلاق النار.. أشعر بالألم ينبثق من كل جزء في صدري.. تحتدم آهة تخدش بلعومي، تنحشر هناك وتجرحني.. افتح فمي.. أراني وقد استيقظت وعرقي يتصبب.. الألم في حنجرتي، وفي فمي مضغة دم، أبصقها ثم أبكي.
* * *
أحسني الآخر الذي هو أنا أيضاً.. الآخر؛ لا بفرضية الشبح، أو بجموح المخيلة، أو بمعجزة درويش.. الآخر المنعتق والواقف اضطراراً في موقف الشاهد.. الآخر الحائر إزاء ذاته الشهيدة على رصيف الرعب.. الآخر الخارج من تاريخ الخطايا والسادر في الجنون، والقابض على براءة مستحيلة.. الآخر في محفل المراقبة، موضوعه أناه؛ الجسد المنخول بالرصاص والمغسول بالدم.. أعاينه بفيض من الحرية والشفقة والأسى والتفهم.. يا لهذا الحنين الذي يتخللني.. دمه دمي.. موته موتي، غير أني، وكأني تواطأت مع رغبته (إن كانت رغبته) في الرحيل، أجدني مختنقاً بالبكاء، ولا أقدر أن أبكي.
لدقائق تأملته وهو ماض في الخوف والألم.. شفتاه تتحركان.. إنه يحكي أو يحلم.. ربما كان طوال الوقت يحلم. كما لو أنني عشت أحلامه المخيفة والمؤلمة. ما الذي شلّني ومنعني من حمله هذا الوقت كله؟. اُدير هذه الآلة الغريبة التي أقبض عليها، معدّلاً سيرها الجلدي بأصابع واجفة، وأضعها على ظهري..
أنحني عليه.. أمرر يداً تحت فخذيه ويداً تحت ظهره وأحمله.. يا الله، كم هو خفيف؟ أيعقل أن يكون فقد معظم وزنه بهذه السرعة؟ يخيل لي أنْ لا وزن له.. يفتح عينيه يرمقني بنظرة صافية وأنا أسير به.. يغلقهما.. يريح رأسه على كتفي، دمه يبللني.. وأبقى أمشي. أحسّني حاملاً موتي، ثم أبكي.. الهواء الذي يجفف دمعي أزرق.. موتي على ذراعيّ، فيما دمعتي زرقاء.. العالم أزرق، من مكان ما منه ينبعث لحن قيثارة عذب….
الهرب راهن القصة العربية : صحاري الخيال المنسية سعد محمد رحيم 2016-01-29