لؤي حمزة عباس ( العراق ):
إنها واحدة من مهمات القصة: أن تعيد حكاية العالم على نحو يليق بأحلامنا.
يكتب ذلك مواصلاً التفكير برجل عاري الصدر، شعراتٌ قليلةٌ شائبةٌ تلمع بين ثدييه المتهدلتين تحت شمس منتصف النهار، إنه يواصل عمله بدأبٍ صامتٍ كما لو كان يُعيد المجدَ لفكرة عابرة، بملقط رفيع رمادي المعدن يلقط كلَّ نهار من لحم صدره، أسفل ثدييه، شظيةً واحدةً، يتأملها مليّاً حتى يخلّف لونها المعتم وحافاتها الدقيقة المحزّزة في نفسه شعوراً غريباً، معتماً هو الآخر، ثم يُسقطها داخل زجاجة مع شظايا كثيرة، يُسعده أن يسمعها تسقط ويُبهجه رنينُها، يمنحها مع نفسه رقماً، أيَّ رقم، فقد نسي العدَّ منذ وقت ليس بالقصير، ثم يترك الزجاجة على حافة الشبّاك بعد أن يُحكم غطاءها ويعود لشؤونه مواصلاً كتابة القصص مثل أيِّ رجلٍ لم تنبت في صدره شجرة تورق شظية كلَّ يوم.
ـ ما أصعب أن نحيا بهذه الطريقة: أنصاف حقائق، تنبت الشظايا أسفل أثدائنا ويلوّح لنا الموت في كلِّ حين.
حدّث الرجل نفسه وهو يواصل حلاقة ذقنه، منشغلاً بثلاثة أفعال مضارعة: يحلق، وينظر إلى وجهه، ويتحدّث بلا صوت.
في المحاضرة، صباح أمس، وهو يتحدّث عن تميم بن مقبل، لم يكن متأكداً إن كان يتحدّث عن أمنية عمرها ألف عام وعام أو عن نفسه التي تموت، في كل وقت، وتحيا.
خارج المنزل، عند هذا الوقت من المساء، كان الصوت يتواصل، يجرح روحه بلوعته المعدنية، فتنازعه رغبة مؤجّلة يغيّبها الصوت كما لو كان يردم حفرة عميقة مظلمة. كم كان بوده لو يتحدّث عن الحقيقة بلياقة ملاكم فتي، حقيقة تشبه الحكاية، تنبت حبة رمل في صحرائها الواسعة، في الحبة يرى حكّاءً عظيماً يواصل عملاً بسيطاً، إنه يحكي كما لو كان يطارد شبحاً في مرآة، لم يكن من الصعب على حكّاء مثله يعيش في حبة رمل أن يتحوّل إلى طائر عندما ينام، يسمع همس أرواح الناس المخبوءة في الأصداف، ويرى ثيراناً تتقافز على مساحات فسيحة معشبة، وأيائل تتخاطف في أحلام الصيادين، إنه يتسلل إلى أحلامهم كما يتسلل إلى الأصداف، بمقدور طيور الحكاية فعل ذلك، كي يداعبهم قليلاً قبل الصحو. في حكاياته يجلس على كرسي بلا ظهر، هازاً قدميه جرياً على عادة قديمة، ومن ورائه تواصل رائحة روث هبوبها، في سماء الحكاية تُشرق الشمسُ أيضاً، وتتحرّك عقارب الساعة حركتها كلَّ يوم، لكنها تُشير لوقتٍ آخر يُحيط بالأشياء مثل هواء مغبر ويتسلل إلى أعماقها. في حكايته يرى الحكّاءُ رجلاً يتهاوى من أعلى مخازن الخشب وقد زلّت قدمه على سقف معدني مضلّع شديد الانحدار، لن يسقط على كومة أحجار مرميّة على الجانب، كما هو متوقع، فتكون تلك السقطة خاتمة مريعة لحياته، سيهوّم طويلاً مثل نسرٍ فتي يرى كثيراً من الحكائين يحلّقون في الفضاء الفسيح، من عامٍ إلى عامٍ تأخذ الحكايةُ النسرَ فيمرّ على أرض جديدة. الحكّاء سيكون هناك، على كلِّ ارض، يواصل حكاية الرجل الذي هوّم من أعلى مخازن الخشب، عند نقطة محدّدة يتوقّف قليلاً كي يسمع خفق جناحيه ويلتقط صرخته. في ساعات الوحدة التي ينقطع فيها كل صوت، ينادي الحكّاءُ النسرَ لكي يعيد حكاية أحلامه الأخيرة ـ للنسور أحلامها ـ يحرّك أصابعه كما لو كان ينقّط كلماته ويواصل هزّ قدميه فيفهم النسر ويبدأ الحكاية:
كنت أخطو وحيداً في ممرّ مدرستي كما خطوتُ ذات شتاءٍ بعيد، يشغلني صمتُ الممرِّ وهو يمتدُّ تحت عتمةٍ خفيفةٍ تتكثّف مع كلِّ خطوةٍ وتزداد. لم تمنعني العتمةُ من مواصلة المشي، ولم تكسر أملاً يراودني في رؤية زملائي، أُحدّث نفسي بأنهم كبروا جميعاً وتوزعوا في الجهات، منهم من غدا موظفَ مساحةٍ، كلّت عيناه من طول النظر عبر العدسة، وآخرُ حارساً ليلياً لمرسى الزوارق القديمة، وثالثٌ غادر مهنةَ جدّهِ وأبيه بعد أن زاولها أعواماً، لم يُطق الرائحةَ، كان يختنقُ كلّما هبّتْ رائحةُ الذبائحِ من حوله، ولم يفهم معنى ارتجاف اللحوم المقطّعة لحظةَ ينخزها الخطّاف، فضّل أن يغدو بائعَ ألبسةٍ مستعملةٍ، يغرقُ في الرائحةِ البشريّةِ الرطبةِ وقد خزنتها الثياب. كنت أستعيدهم واحداً واحداً كلما أوغلتُ في الممرّ.
فجأة أخذني الصوت، صوتٌ بعيدٌ غامرٌ، لم يكن نداءً ولا صيحةً، كان صوتاً فحسب، عارياً من شُبهة الشكل ولوثة الزمن. تركتُ الممرَّ يمتدُّ في العتمةِ وسرتُ باتجاه الساحةِ، كان مصباحٌ يشعُّ وسطها، معلّقاً في رأسِ عمود، تعلوه قبعةٌ معدنيّةٌ واسعة، مكتومة الفضّة، مسطّحة الحواف. رفعتُ رأسي ورأيتهم قربَ سور الطابق العلوي، أمامَ كلِّ صفٍ فتىً. عاودني الأملُ في رؤية زملائي، ورجوتُ أن يكونوا هم فأخذت أُنادي، أخترعُ لكلٍ منهم اسماً وأُنادي عليه، مع كلِّ نداءٍ يقتربُ فتىً من السور وحالما يصدمه الاسم يتهاوى مثل دمية نسر محشوّةٍ بنشارة خشب، يدوّمُ في الهواء وقد مدّ يديه، قبل أن يُتعبه التحليقُ ويسقط سريعاً ليرتطم بأرض الساحة المبلّطة، قريباً من الممرّ، ويسيلُ من فمهِ المفتوح دمٌ قليل.
كان الموت بالنسبة لنا، نحن جيل الحروب العراقية، يقول الحكّاء، وجه الحياة القريب وباباً واسعاً من أبوابها المبهمة، وربما منحتنا القصة القصيرة بالتقاطاتها العابرة فرصة لتركيز أقوالنا في لحظة خاطفة هي لحظة الوجود العميقة، دقيقة الرصد، موحشة التفاصيل، اللحظة التي تختزل التجربة في التقاطة، وتضيء في التقاطتها كوامن الشعور، وهي تسعى لحكاية العالم على نحو يليق بأحلامنا.