محمد عبد النبي (مصر):
-
لستَ مضطرًا لبناء بيت لتقيمَ فيه، وحدك أو برفقة قارئك، لعامٍ أو اثنين أو أكثر، يمكنك أن تثق في الفنادق، غرفة لليلة واحدة، كل صباح منظرٍ جديد مختلف، النزلاء يتغيرون واللغة من حولك تتغيّر. أي أنك لستَ مضطرًا لأن تكافح كعامل بناء مسكين لأمدٍ طويل، في تشكيل روايتك، دون نتيجة مضمونة بالمرة. أن تعيش خفيفًا، تتنقّل، تلقط رزقك كالطيور تغدو خماصًا وتعود بطانًا. كل مرة جديدة، كل مرة تجربة، كل مرة مغامرة. لذة العابر، الإفضاء بالأسرار الحميمة لغريب في قطار أو حانة دون أي وعدٍ بلقاءٍ ثانٍ.
-
ومع هذا تستطيع طوال الوقت أن تختار الأرض لبناء بيتك، بينما تتنقل بين الفنادق والمساكن المؤقتة الحميمة، يمكنك دومًا أن تتحدث بابتسامة حالمة عن بيتك المشتهى، جادًا أو ساخرًا. وسيظل بوسعك أيضًا أن تبني ذلك البيت المتخيّل على هيئة الفنادق والمساكن المؤقتة التي عشتَ فيها، إيتالوكالفينو فعلها ونجح. وسيبقى بوسعك أن تتجاهل حلم الاستقرار حتى النهاية.
-
لن تكون مطالبًا بالعثور على أفكار كبيرة لتكتب عنها، انسَ التاريخ والهوية والقضايا السياسية والاجتماعية التي ماتت وشبعت موتًا. تذكر أنك طائر، عابر سبيل، إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح. ستتيح لك القصة الإخلاص لما نعيشه الآن من سيولة وتفكك وارتباك، لا أحد يفهم شيئًا رغم أن الجميع يدّعون عكس ذلك طول الوقت، وخصوصًا الروائي، الروائي الجاد الذي يقدّره النقاد والقراء وتلاحقه الجوائز، هذا بالذات يبدو أن لديه جميع الأجوبة على جميع الأسئلة، ما أروعه وما أبدعه. أنت عاطل بالوراثة، ليس لديك أجوبة، ولا أسئلة ربما، جيوبك ممتلئة بالألغاز والأحاجي التي لا يعرفُ لها أحدًا حلًا من قديم الأزل، هذا زادك الذي لا ينفد أبدًا، استغنِ به عن العالمين، إن استطعت إلى ذلك سبيلًا.
-
ككاتب قصة قصيرة تستطيع أن تصادق شعراء قصيدة النثر، وأغلبهم جدير بالصداقة، وأغلبهم ينظر بعين الشك إلى عمل الروائي عمومًا. إذا كنت واعيًا بمعنى أن تكون قاصًا مختلفًا اليوم ستجدَ جسورًا كثيرة تصل بينك وبين قصيدة النثر، إنها لا تلوي على شيء، لكنها تلوي عنق الواقع أو ما يُسميه الروائيون كذلك لتصنع أيقونتها المهمشة المجنونة. يمكنك مع كتّاب قصيدة النثر أن تضحكوا حتى تدمعوا من طموح صديقكم الروائي المسكين الذي يسهر الليل ليعيد تشييد العالم الذي يتغير باستمرار بالخارج. لا بأس من أن يمتزج ضحككم بلمسة شفقة أو غيرة، ففي النفس متسع.
-
استمتع بالظل، أنت عميل سري، لا أحد يعرف وجهك غير أصدقائك من كتّاب القصة، لا تطمع في أن تتحوّل قصصك إلى أفلام ومسلسلات فهذا أقرب ما يكون إلى كروان يتمنى أن يكون طاووس، ولو حدّث هذا فلا تصدّق معجزاتك وعاود الطيران بسرعة.
-
إذا حاصرتك فكرة رواية وحرمتك النوم والضحك مع أصدقائك شعراء قصيدة النثر، فيمكنك على الدوام أن تلخّص حبكتها وتكتبها في بضع صفحات كقصة متخفية، كهيكل عظمي معروض في متحف للأفكار، على الأقل لن يتهمك أحد بالثرثرة والترهل والإسهاب.
-
انسَ ما يُقال عن صعوبة نشر القصة، إن هي إلّا أكاذيب مَن تحوّلوا إلى الرواية أو يفكرون في ذلك، ويمكنك على الدوام أن تنشر قصصك في الجرائد والمجلات والمواقع أو حتى على صفحاتك الخاصة في الانترنت. إذا ضاق بك الحال يمكنك أن تحكيها لأصحابك وللغرباء في القطارات والحانات، وإذا وصلت لمرحلة اليأس تستطيع دائمًا أن تجد خيطًا غامضًا يربط بضع قصص كتبتها ببعضها بعضًا فتنشرها وتكتب على غلافها رواية. كثيرون فعلوها وأفلتوا بها، بصرف النظر عن جودة منتجهم، فلم تعد الحدود بهذا الوضوح القديم حينما كان الجنس الناعم ناعم والجنس الخشن خشن، وبينهما أمور مشتبهات