المقراض | محمد حساين
محمد حساين
الأحد في القرية “يوم السوق”.
كما الأسواق الأسبوعية خيام وألوان وحمير وبغال ودلالون ومنادون على خضر وملابس مستعملة وسموم فئران و”أدوية” قمّل وبراغيث ومتسوقون ومتسولون وأطفال متسكعون.
عاد الولد من السوق وفي جيبه ما كان يعتبره جوهرة من جواهر أحاجي أمه، مقص أظافر، مختلف عن الأشكال المعروفة، تخترقه سلسلة كأنها عقد فضي.
قدّم التحفة لوالدته وهو يلهث.
للاهشوم، التي كانت تقلّم أظافرها وأظافرهم بمقص يشبه آلة قطع الجلود وجدت في يدها مقراضا مدوّرا لامع ظهره كانه مرآة، وعلى وجهه زجاجة، الزجاجة كأنها بلورة، البلورة تحتها صورة لفراشة جميلة.
كانت أول هدية، بمعنى الهدية يقدمها لأمه، كان سعيدا وفرحا فرح البالغين. كان يظن أنه، بهذا، عوّض والدته عن حملها له تسعة شهور كاملة وعمّا حدثته عنه مرارا من وحم وأكل فحم ومن وهن ومن وجع ومن سهر بسببه.
– من أين لك هذا؟
مفتخرا، حكى لها كيف اغتنم لحظة انشغال أحد البائعين “السود” وكيف انحنى وكيف لم يلاحظه أحد وكيف ببراعة اخذ المقص دون إحداث ضجيج وكيف وكيف… وأضاف انه لا زال لدى البائع منها عرمة كبيرة…
حكي متصورا نفسه “حديدان لحرامي” العجيب وللا هشوم تستمع وتقلم أظافرها البرتقالية كأنها متعودة على الآلة الجديدة. ودون أن تقبل الطفل أو تشكره وضعت الهدية في “الماريو” وأقفلت بابه ثم أنزلت سروالها دون أن ترفع عباءتها وبدأت تتمتم استعدادا للصلاة.
كانت أمه تسقط سروالها كي تصلي وكان الطفل يظن أن خلع السروال من فرائض الصلاة لدى النساء.
اقترب منها حين جلست للدعاء متيقنا أنها ستنهي صلاتها بعبارة “الله يرضي عليك أوليدي يا حميد …” لكنها لم تفعل.
رفعت كفها وغمغمت ولفت “هيضورتها” وكعادتها ضرطت بصوت مسموع منهية وضوءها.
لم يسمع منها “دعوات الخير” كما توقع، بالعكس،
أقفلت الباب وجاءت بحبل مبلل غليظ وجلدت الطفل جلد الذي في صدره غل كبير. ضربت حميد ضربا يدمي وهي تردد “تعاود تسرق؟، ها اللي يعاود يسرق … ها يا ولد لحرام اللي يعاود يمد يدّيه لديال الناس”.
لم يكن من عاداتها ضرب حميد، لم تكن تعاقبه إلا في حالة الجرائم العظمى، كأن مثلا، يحكي شيئا “أمام الناس” يكون سببا في تربية والده لها، بالضرب طبعا.
لا لم يكن من عادتها ضرب حميد وحين تفعل لا تلبث أن تحضنه وتجفف دموعه ومخاطه وكثيرا ما تعطيه قطعة سكر بحجم جوزة.
لكنها ذلك اليوم “سلخته” كما يقال دون ان تندم.
بعد أن كف عن البكاء والشهيق وبعد استراحة قالت له أن عليه أن يرجع المقص لصاحبه الأسبوع التالي وللتأكيد طلبت من أخته فاطمة إحضار المصحف وطلبت منه أن يقسم،
– “وحق ستين حزب الطاهره حتى نرد لمقص لمولاه “
– “وحق ربي حتى نردو لبلاصتو”
– “الله يجعل ربي يمسخني إيلا مرجعتوش منين خديتو”
– “الله يزحفني ويعطيني لعما لكحل إيلا…”
– “وحق هاد القرآن الكريم حتى…”
أخفى حميد آثار الجلد وتجنب الظهور أمام والده كي لا يسأل فيضرب مرة أخرى ولم تُبلِّغ عنه أمه وكانت لا تفعل الا حين يستحيل إخفاء رائحة جريمة. لا تفعل ليس دائما رفقا بالولد ولكن لأن الأب يعنفها كلما شكت أو اشتكت قائلا أن أفعال الأولاد القبيحة نتيجة لعدم صرامتها.
مر الأسبوع سريعا.
يوم السوق أعطت الأم المقص لابنها وذكرته بقسمه وبالمصحف وبقدرة الله على رؤية كل شيء وفعل أي شيء.
وصل حميد للسوق حيث الخيام، والدلال، والحمير والبغال والخردة والمتسوقون والباعة المروجون بالصراخ لما لديهم من معروضات.
وقف أمام صاحبه مرتبكا، وكالأسبوع السابق، على الحصير المنشور سلع متنوعة مرصوصة لكن العلبة المطلوبة كانت، ذلك اليوم، تتوسط الحصير بعيدة عن الحافة بجانبها علبة كويرات زجاجية وعلبة مقابض نسائية.
لم يستطع استغفال البائع فبدأ، كمن يحوم حول هدف، يبتعد كلما ابتعد الزبناء ويعود كلما جاء زبناء جدد. كان متيقنا من أنه، إن لم يُعد المقص لمكانه، سوف يتحول قردا أو غرابا او يصير كفيفا.
تردد وتردد وتردد ثم صمم. أخيرا.
خطا خطوة مسرع خائف لكن، قبل أن يضع الأمانة في علبتها، أمسكه رجل من الواقفين، وفي ثوان أصبح لصا ضُبط متلبسا بشهادة الشهود وبوجود المسروق في يده. ضربه اثنان بالأيدي، وضربه ثالث بنعل، واحتجزه التاجر مطالبا بالمناداة على والده.
تدخل سّي عبد الرحمن، صاحب دكان قريب، وكان من معارف أبيه، واستعطف الرجل وأدى ثمن ما قيل أن الولد وطأ عليه وكسّره.
ذلك المساء، رعبا ذهب حميد للفراش قبل العشاء وقرأ “قل هو الله أحد” عدة مرات قبل ان يغمض مطمئنا، لكن أباه العائد متأخرا أيقظه بعنف ودون أن يسأله، سل حزامه الجلدي واستعمله، وهو يحكي للأم ما وصله عن طريق السي عبد الرحمن وأخيه سّي حماد، ولم يكف عن الجلد إلا حينما بدأت الجارة للا رقيه تطرق الباب.
حال الولد بعد العقاب أبكى أمه في صمت وأبقاها بجانبه حتى نام وفي الفراش بال.
كان ذلك في إيفران الستينات.
المقراض محمد حساين 2017-08-10